|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  25 / 10 / 2015                                 نبيل عبدالأمير الربيعي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الجذور التاريخية للديانة المسيحية في العراق

نبيل عبد الأمير الربيعي
 
حسب موروث الكنيسة, فإن الذين نقلوا الأنباء الجيدة إلى بلاد ما بين النهرين كانوا: توماس الرسول, ثم أداي (ثاديوس) وتلاميذه أكاكاي وماري, (وعلى وفق كتاب التاريخ الكنسي) الذي ألفه الراهب أوسابيوس والذي عاش بين العامين 260 و240 ميلادية, يعدّ ماري أبا لتاريخ الكنيسة, ومصدراً رئيساً لتأريخ المسيحية, من العهد الرسولي (عهد الرسول), وحتى عصر أوسابيوس, وكان توماس وثاديوس من الرسل الإثني عشر , في حين أن أكاكاي وماري كانا من السبعين الذين رافقوا يسوع.كان المسيحيون الأوائل هم من اليهود الذين يتعبدون في الهيكل والمعابد, وكان الكتاب المقدس المكتوب بالعبرية هو كتابهم المقدس الذي يتعبدون به, وكانوا يختلفون عن زملائهم اليهود فقط بالإيمان (بيسوع من الناصرة) كالمسيح المنقذ. وعلى الرغم من الخلافات المستمرة بين عموم اليهود والمسيحيين واليهود, إلا أن الفريق الأخير ظل كطائفة يهودية ضمن اليهود خسروا الحرب ضد الرومان في سنة سبعين للميلاد وتشتتوا خارج القدس([1]).

على الرغم من أننا ليس لدينا تفاصيل تاريخية لأعمال الكنيسة في بلاد ما الرافدين خلال القرن المسيحي الأول , إلا أن هناك كثيراً من الأدلة التي كانت تدل على سعة انتشارها في القرن الثاني, ويشمل هذا وجود الكنائس والكتاب والشهداء, فكان تاتيان وبرديصان في القرن الثاني من المتحولين من العائلات النبيلة الوثنية, وقد كتبا الفلسفة والتعاليم اللاهوتية المسيحية باللغتين الآرامية واليونانية, وكان الملك أبكار الثامن صديقاً لبرديصان وقد تحول نحو المسيحية تحت تأثير برديصان. ـما جليمان وكيلمكيت فقد توصلا إلى أن هناك أدلة قاطعة على وجود الطائفة المسيحية في بلاد الرافدين قبل العام 170 ميلادي ([2]).

إن أعداداً كبيرة من الوثنيين الذين يشكلون غالبية سكان البلاد أصبحوا مسيحيين, فضلاً عن كثير من اليهود الذين كانت المسيحية قد انتشرت على أيديهم في البداية. وكانت واحدة من أولى المناطق التي دخلت الديانة المسيحية هي منطقة حدياب أو أديابن (حالياً أربيل) , ودهوك, والسليمانية.من المرجح أن المسيحية تغلغلت إلى شمال بلاد الرافدين قادمة من الرها/أديسا (حالياً تركيا), قبل غيرها من المناطق, كان في أديسا كنيسة منذ وقت مبكّر, وعدّت أول بيت مسيحي تاريخي للعبادة, وأقدم من المصلّى الذي وجد على حدود مدينة دورايوربس على الفرات التي بُنيت بين 232/256م, وأن مدينة أديسا دمّرت في فيضان عام 201([3]) ومنها امتدت المسيحية إلى بلاد الرافدين.

عقد المطران إسحق في العام 410 ميلادي المجمع الكنسي في عاصمة الامبراطورية الفارسية وبإذن من الملك الفارسي يزدجرد الأول الذي اعترف بالمسيحيين طائفة مستقلة تحت حكمه, مع مسؤوليته عن توفير الحماية لهم, وأنشئ مجمع كنسي آخر في العام 424 للميلاد تحت رعاية الأسقف داديشو , وعقد في مدينة الحيرة, عاصمة لدولة تابعة للدولة الساسانية, وتقع جنوب غربي بغداد ([4]) .

تشير المصادر إلى أن (مار ماري) عمل أوّل إنجاز إنجيلي في بلاد الرافدين عندما خدم فيها كرسول تبشيري,إذ أرسله (مار ماري) من أديسا إلى الشرق فوصل أولاً إلى نصيبين ثم تحرك إلى أربيل عاصمة أديابين (حدياب) في كردستان العراق, فعمل على تنصيرها وتنصير كثير من بلاد الفرثيين كما مذكور في سفر أعمال الرسل 9: 11 ([5]) .

تؤكد الوثائق التاريخية الكنسيّة أن المسيحية دخلت إلى بلاد الرافدين في القرن الأول الميلادي, إذ قال جاثليق المدائن طيمثاوس الأول المتوفي سنة 832م ما معناه "كانت الديانة المسيحية منتشرة لدينا بعد صعود المسيح إلى السماء بنحو عشرين عاماً " ([6]), كما أن أول نص مكتوب عن وجود المسيحيين في بلاد الرافدين جاء من كتاب برديصان ,إذ قال:" إن المسيحية نودي بها في الشرق منذ القرن الأول الميلادي", وفي شمال بلاد الرافدين قبل غيرها من المناطق, يؤيده التقليد الذي يروي أن مار أدي بشّر بالمسيحية وتمكن من تعميد رجل إسمه (فقيذا) نحو سنة 99م, وهو من فقراء أربيل, وألتحق بمار أدي الذي كان يكرز في أمارة حدياب (أديابين) لمدة خمس سنوات , ثم عيّن (فقيذا) أسقفاً لأربيل سنة 104/114م ,وأن مار أدي ومار ماري كانا أول مبعوثين بشرا بالمسيحية في مدينة كرخ سلوخ (كركوك حالياً) والمناطق المحيطة بها ([7]).

وقد ذُكرت بلدة الموصل لأول مرة في التاريخ عام 570م, حين شيّد الراهب النسطوري إيشو عياب بر قسري في حصن عبرايا (هيكلاً كبيراً وديراً), وأصبح دير إيشو عياب يعرف اليوم بكنيسة ما أشعيا, وفي عام 590م شيّد الملك كسرى الثاني أبرويز دوراً كثيرة حول الدير للسكنى فيها, وفي عام 627م دحر كسرى الثاني الإمبراطور البيزنطي هرقل في معركة دارت قرب نينوى فتحولت هذه القصبة من فارسية إلى رومانية, وخضعت لإدارة أنطيوخس حاكم تكريت, وأخيراً استسلمت المدينة عام 637م إلى العرب المسلمين من دون قتال, يومئذ صارت تظهر عند الجغرافيين والمؤرخين بإسمها الحالي الموصل (أي نقطة الإتصال) ([8]).

وقد عرف في مدينة الموصل دير يونان بن أمتاي أو دير يونس , وهو معبد آشوري ثم أصبح ديراً, وإن الشخص المدفون في النبي يونس هو الجاثليق الشرقي حنانيشوع الأول, الذي أنشأ ديراً في هذا المكان في القرن الرابع الميلادي في إثر الانتشار المبكر للديانة المسيحية في مدينة نينوى المندثرة, وحين توفيَّ حنانيشوع الأول دفن في الدير وليس النبي يونان المذكور في العهد القديم (سفر يونان) الذي لم يأت قط إلى هذه البلدان, وقد التبست هويته لدى البعض لأن ثمة ديرين آخرين بتسم دير النبي يونس أو يونان, أحدهما قرب دمشق والآخر قرب الأنبار, فقد فتح قبره سنة 1350م وظهر جسده محفوظاً وكأنه نائم, والجامع الحالي لا يُرى متجهاً نحو مكة, بل نحو الشرق كما كان شأن كل كنيسة قديمة, حتى أن حجر التجديد الذي وضعه إبراهيم الخاتوني سنة 1365م بمثابة المحراب تحتّم وضعه عرضياً بالنسبة إلى الجدار الذي هو في صدر الجامع, وذلك لتحديد القبلة الجديدة, كما أن المدخل الرئيس هو مقابل جدار المذبح, شأن باقي الكنائس ([9]).

أما في جنوب العراق فقد بدأ بناء الأديرة في بواكير القرون الميلادية الأولى, شيّد معظمها في الصحارى والأماكن البعيدة عن المستوطنات,أما ما كان منها في الحواضر والمدن والقرى فيعّد كنيسة ([10]), وفي منتصف القرن السادس الميلادي أسست الإدارة الساسانية مقاطعة (كورة) تسمى بازيجان خسرو, وكانت تقع على طول سقي النهروان بدءً من كلواذة (بغداد حالياً) في الشمال مروراً بالمدائن ودير العاقول إلى النعمانية, وكانت تضم خمس نواحٍ (طتسيج) من بينها بيت داريا (بداريا/ بدرة) وبيت كُسايا (بكسايا) ([11]). وإلى الشرق من هذه الكورة كانت تقع كورة جوخي وغرب الجبل (مابذان الساسانية , ماه الكوفة في بداية العصور الإسلامية) التي كانت تشمل المنطقة ما بين بدرة ومندلي, وتُدار من المدائن, ضمت هذه الكورة أسقفية نسطورية ما بين الأعوام 554 و576م , إذ كانت مقراً لمطرانية نسطورية في منتصف القرن الثامن الميلادي , وكانت باه أردشير مقراً لمقاطعة حملت الاسم نفسه تمتد من دجلة وسلوقيا نزولاً إلى كوثا ومدينة بابل (أرض بابل القديمة), وأطلق العرب عليها إسم بهرسير([12]).

في منتصف القرن الثالث الميلادي أسس بنو لخم إمارة في الحيرة تحت حكم الساسانيين, وكانت سيطرتها السياسية أيام النعمان بن المنذر في نهاية القرن السادس الميلادي تمتد من الأنبار إلى البحرين, ومن تخوم صحراء عين تمر عبر السواد إلى النعمانية على نهر دجلة ([13]). وقد اعتنق المسيحية كثير من ملوك الحيرة , وقد خرج منها عدد من رجال الدين الذين كان لهم الأثير الكبير في نشر التعاليم المسيحية في الحيرة وما حولها واحتلوا مكانة عظيمة في تاريخ الكنيسة, كما شهدت الحيرة في عام 424م انعقاد مجمع داد يشوع لتنظيم شؤون الكنيسة النسطورية ([14]). كما تأثرت مساحة أراضي ميسان بوجود أهوار ومسطحات مائية وقد انتشر فيها الدين المسيحي وكانت الإدارة في إقليم ميسان منسجمة مع الإدارة الكنسية , وفي بداية العصور الإسلامية خضعت الإدارة الكنسية لتغييرات مهمة بسبب إنشاء مدينة البصرة, لذلك تأكد لنا من خلال متابعة ما شهده العراق من بدايات المسيحية وانتشارها على أيدي عدد من رسل المسيح في القرن الأول في عهد الفرثيين الذين حكموا البلاد ما بين سنة 250ق.م/226م ,بناء الأديرة والكنائس وتأسيسها منذ القرون الميلادية الأول, بحيث لم تخلو منها الصحارى والمفازات والبطائح ورؤوس الجبال, ويؤكد حديثنا هذا التنقيبات الآثارية والموحات الميدانية عن المزيد من الأديرة والكنائس في أغلب أراضي العراق.


المصادر
[1] سعد سلوم. المسيحيون في العراق. التاريخ الشامل والتحديات الراهنة. مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية.ط1. 2014. ص35
[2] المصدر السابق. ص37
[3] سفر أعمال الرسل الأول 2:8-11
[4] المصدر السابق. ص40
[5] المطران اسطيفان بابكة. أبرشية حدياب عبر التاريخ. مجلة بين النهرين 31. عام 1980. ص 274/275 .
[6] رفائيل بابو إسحق. تاريخ نصارى العراق. من إنتشار النصرانية في الأقطار العراقية إلى أيامنا . مطبعة المنصور 1948. ص3/4.
[7] فرست مرعي. انتشار المسيحية في كوردستان. مجلة الصوت الكلداني.دهوك. 2005. ص11.
[8] الأب جان موريس فييه. الآثار المسيحية في الموصل. ترجمة نجيب قاقو. مراجعة وتنقيح وتصحيح الأب البير أبونا. بغداد 2000. ص13/15
[9] تافرنييه. العراق في القرن التاسع عشر, ترجمة وتعليق بشير فرنسيس وكوركيس عواد. بغداد 1944. ص143.
[10] علي بن محمد الشابشتي. الديارات, تحقيق كوركيس عواد .ط2 مطبعة المعارف. بغداد 1966.ص18
[11]
أبو حنيفة الدينوري. الخبار الطوال, دار إحياء الكتب العربية. القاهرة 1960. ص70.
[12] ياقوت الحموي. معجم البلدان. بيروت 1990. ص563
[13] الحموي. مصدر سابق. ص379
[14] الأب صلاح أبو جودة . مسيحية الحيرة حتى نشأة الإسلام. مجلة المشرق. السنة الخامسة والسبعون. العدد الأول 2001.ص149.

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter