| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نبيل عبدالأمير الربيعي

 

 

 

                                                                                  الأربعاء 23/5/ 2012




نقرة السلمان.. أوراق لمذكرات سجين سياسي عراقي

نبيل عبد الأمير الربيعي

صدر عن دار الينابيع للكاتب والصحفي والأديب والمناضل المخضرم (جاسم محمد المطير) كتاب (نقرة السلمان) بالحجم الكبير وقد احتوى الكتاب على (546) صفحة ,والكتاب عبارة عن مذكرات أوراق سجين سياسي عراقي , ينقل لنا معاناته وعذاباته مع رفاقه داخل السجن للفترة من عام1961 ولغاية عام1968 , حيث أشار الكاتب إنهُ كان في أغلب تلك الفترة المسؤول الحزبي الثاني لتنظيم الشيوعيين داخل السجن , إذ كان الأول عبد الوهاب طاهر ومن بعده كاظم فرهود وبعدهما رفاق لا يدري الكاتب من هم بسبب مغادرته سجن نقرة السلمان إلى سجن الحلة منقولاً في ربيع عام1967 وقد أبقى أوراقه السجنية مع رفيق الدرب سامي أحمد العامري , الذي يشير الكاتب في ص19 " ابتلى بمهمة صيانتها لسنوات عديدة مخبأة بطريقة فنية مع أغراضه الخاصة وقد سلمني إياها في بغداد عام 1969".

تعد مدينة نقرة السلمان من المدن الحدودية العراقية وقد أصبحت عام 1925 كمركز لشرطة البادية لصد غارات البدو الوهابيين على مدن العراق الآمنة , ويقع السجن في بادية السماوة بمسافة 140 كم , وشاء القدر أن تتحول هذه المدينة إلى ذات اسم سيء السمعة والصيت , وذلك بسبب المعتقل المعروف بسجن (نقرة السلمان) الرهيب , فقد ضم هذا السجن بين جدرانه وخلف قضبانه وأسواره الكثير من الأحرار العراقيين والشرفاء الذين قالوا للطغاة كلا للمستبِد ونعم للحرية , فقد أصبح هذا السجن خاص بالسجناء اليساريين والشيوعيين , حتى سمي هذا السجن باسمهم , ولكن السلطات الحاكمة كانت تشيّع عنهم إنهم يعملون مع جهات أجنبية ضد مصلحة العراق .

يشير الكاتب المطير إن السبب الرئيسي لكتابة هذه الأوراق لرواية قد قرأها للكاتب اليهودي النمساوي (ستيفان زيفايبح) فالرواية تتناول معاناة سجين لم يستطع التخلص منها إلا بممارسة حريته في استعادة ما قرأه من كتب الأدب في استعادة ما حفظهُ من قصائد واستعادة جميع ذكرياته , وعندما انتهى من استعادتها كلها ظل يلعب في زنزانته الانفرادية الشطرنج مع نفسه , فقد اتخذ الكاتب جاسم المطيري من هذه الرواية وسيلة وهدف للقضاء على الفراغ والاستفادة من حياة السجين , فقد ذكر الكاتب إنهُ تمكن من تهريب هذه الأوراق بواسطة فوطة والدته المحفوظة بقطعة نايلون , وقد تم الحفاظ عليها داخل صندوق صغير من الحديد مدفون في حديقة الدار مصان بحفرة إسمنتية لا تثير انتباه أحد , وقد كانت فكرة رفيق الدرب أنور طه البصري .

كما يتذكر الكاتب المفارقات بين رواية الكاتب الكبير دستويفسكي (ذكريات من بيت الموتى) التي وصف بها السجن في عهد القياصرة في روسيا , فقد كان السجن يمثل رمز السلطة المطلقة المضادة للإنسانية ورمز العدوان على كرامة الإنسان , أما في العراق فيمثل السجن رمز للسجناء السياسيين التي تفرضه السلطة الغاشمة على حرية الناس في التفكير , لكن هدف السجناء ونضالهم من أجل حب الناس والنضال من أجل مجتمع أفضل ,وإلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان , وإنهم جميعاَ ضحوا من أجل هذه الأهداف , فقد أجبرت السلطات الحاكمة في سجونها عن حجب أفكار السجناء من انتشارها في المجتمع العراقي , فقد ناضل السجناء الشيوعيين في هذه السجون لإضاءة مصابيح مستقبل هذا الوطن , ولكن السجناء قد حولوا سجن نقرة السلمان من بيت للموتى إلى بيت للأحياء , ليصنعوا خيوط الصباح المشرق وحياة أفضل ونور أزلي لعراق معافى وشعب سعيد , متطلعين لغد جديد ليحيا فيه الإنسان حياة حرة كريمة .

فقد أهدى الكاتب هذه الأوراق السجنية لكل المناضلين ولمن ساهموا في تسهيل الحياة السجنية الصعبة ولعوائل المناضلين والشهداء, كما تعتبر المذكرات تاريخ لمرحلة زمنية مر بها الحزب الشيوعي العراقي وأعضاءه , كما أشار الكاتب لفترة الانقلاب الدموي البعثي في 8 شباط 1963 , والعذابات التي قاساها السجناء الشيوعيين على يد أفراد الحرس القومي وسجون وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وسراديب مديريات الأمن والشرطة ومعسكرات الجيش , كما يصف بشكل تفصيلي سجن نقرة السلمان ببنايته القديمة والجديدة و غرفه المستطيلة وحياة السجناء التي قسمت حسب الواجبات المنتظمة والتعاون بين السجناء بين الترفيه والمحاضرات السياسية والاقتصادية , إضافة إلى الممارسات الترفيهية والألعاب الرياضية, وواجبات إعداد الطعام للسجناء , كما يذكر الكاتب دور السجناء من الأطباء في ص28" كان من بيننا من السجناء والأطباء الاختصاصيين والجراحين منهم الدكتور الجراح رافد أديب بابان والدكتور فائق السامرائي والدكتور عبد السلام محمد وطبيب الاسنان فاضل الطائي والدكتور قتيبة الشيخ نوري وطبيب التخدير سعيد عزيز والدكتور الجراح أحمد حسين البامرني والدكتور الصيدلي نعمان ثابت والطبيب الاخصائي عبد الصمد نعمان وغيرهم" .

كما يشير الكاتب إلى الدورات التي قامت بها هيئة السجناء السياسيين من الدراسة ومكافحة الأمية ودراسة اللغات الأجنبية وتدريس الاقتصاد السياسي وتشكيل هيئة تحرير الجريدة اليومية السجنية وإقامة الندوات الأدبية والفنية وإلقاء المحاضرات , فيصف الكاتب التعاون بين السجناء بـ" أول جمهورية شيوعية حرة في عمق الصحراء تحاول أن تجرب المساواة والديمقراطية بعذاب مشترك واحد , وبسعادة مشتركة محدودة بنفس الحدود لجميع مواطنيها , يأكلون نفس الطعام ويتذوقون نفس الشراب ويتنفسون نفس الغبار" , لكن الكاتب يصف معاناة السجناء من المناخ الصحراوي الذي لا يطاق , والتفتيش الدوري لآمر السجن ومنع دخول الراديو لكي لا يتابعوا أخبار الوطن والعالم, كما منع إرسال السجناء المرضى إلى مستشفى الديوانية , وكل شيء يدخل السجن يفتش تفتيش دقيق .

يصف الكاتب حياة السجن الصعبة من ضمنها الأخبار والرسائل التي تصل من عوائل السجناء , فقد كان السجين المناضل محمد السعدي المسؤول عن توزيع الرسائل على السجناء , والذي وصفهُ السجناء في ص56 (بوزير البريد والبرق) كونهُ الشخصية النشطة المحبوبة من قبل الجميع لعدة أسباب منها " أخلاقه الطيبة وشوق السجناء الذين لا ينتهي لاستلام الرسائل , وإنهُ لا يؤجل بريد اليوم إلى غد", ويشير الكاتب إلى سعادة وصلابة السجين عند وصول رسالة لهُ من الأم أو الزوجة أو الأخت أو الأبناء , وهم يشدون على يديه بأن تكون مواقفهُ صلبه وأن لا يتنازل عن مبادئه وأفكاره , فيشير في ص 107 إلى رسالة والدته المناضلة " الرسالة أعادتني إلى مدينتي وتنفست السعادة وأنا أتذكرها , بل خلصتني لبعض الوقت من قسوة أجواء السلمان التي نتنفس هواءه مع الغبار الأصفر , يا لها من سعادة حين أرى الوجوه الصديقة في النقرة تعلوا وجهها ابتسامات وضحكات تزيد فيّ ثقة بمستقبل منتصر على الدكتاتورية مهما طال الزمن " كما يصف الكاتب المطيري عملهُ في جريدة السجن اليومية ولجنة العمل الثقافي والصحفي , فقد مارس الكاتب العمل في الصحافة الحزبية السرية منها( صوت الكفاح) والجريدة الحزبية العلنية (صوت الطليعة) و جريدة (الناس) ويشير الكاتب إلى دور الجريدة السجنية في حياة السجناء في النقرة في ص129 " ظلت الجريدة السجنية باباً مفتوحاً على الأفكار الشيوعية يساهم بها مجموعة من السجناء النشيطين لتكون صباح كل يوم , غناءّه بأوراق مسطرة سراً " ,مع العلم إن السجن فيه الكثير من السجناء السياسيين من المناضلين الذين يدخلون إليه يومياً ما, حاملين معهم صلبان الصبر على أكتافهم , ويصف الكاتب الحياة في السجن وعلاقة السجناء مع السجان , كما يصف الكاتب القصص البشعة من تعذيب للسجناء , ثم ينتقل لوصف حالة التعذيب التي تعرض لها الكاتب نفسه في مقرات الحرس القومي أبان انقلاب عام1963 في البصرة قبل نقله إلى سجن نقرة السلمان .

كما يشير الكاتب إلى انتفاضة الشهيد حسن سريع وقطار الموت , و التخطيط الذي خطط لهُ قادة الانقلاب للتخلص من الكوادر الشيوعيين برحلة هذا القطار البشع , فهي رحلة صعبة في شهر تموز لقطار حمل للبضائع ,حتى وصل مدينة السماوة ودور أبناء السماوة في مساعدة السجناء بتوفير الماء والغذاء لـ(162) سجين , إذ يشير الكاتب في ص143 بكتابة ببعض الكلمات بحق سجناء قطار الموت" سلاماً أيها السجناء وانتم دعاة الحرية والمناضلين من أجل أن يكون وطناً حراً وشعباً سعيداً .. سلاماً وانتم تفاجئون القتلة بأنكم وصلتم أحياء إلى سجن النقرة .. سلاماً يا أخوة عيسى بن ألأزرق تشدون وتشيّده في كل الأزمان" .

كما يشير الكاتب المطيري إلى أمل السجناء في الحياة والنضال , وإعداد الطرق والخطط للهروب من سجن نقرة السلمان وكيف حاول الملاح البحري الملازم أول (صلاح الدين أحمد) من التخفي في بئر خارج السجن ومحاولة السير ليلاً لمسافة ثلاثين كيلومتر في ظلام الليل الدامس في منطقة وعرة وصخرية ولكن بسبب العطش وعدم التزود بالماء فقد حياته , إضافة إلى ذكر الدور الذي لعبتهُ الدولة في العهد العارفي ومطالبة السجناء بإعطاء البراءة من الأفكار والمعتقدات لغرض إطلاق سرحهم من السجون , ولكن تآزر السجناء وشد يًد بعضهم بعضاً ودور قصيدة الشاعر والمناضل النواب (البراءة), التي أدت إلى جعل سامعها أن يعاني مع ذاته وكيف تحقق فعلها المباشر في صيانة حقيقية للسجين الشيوعي من كل شائبة .

من خلال هذا العرض للكتاب من الممكن أن يصبح دراما تلفزيونية لإخراج فلم أو مسلسل حقيقي عن حياة السجين السياسي في سجن نقرة السلمان , مع العلم أني قد سمعت من خلال القنوات الفضائية إن هنالك مسلسل قد أنتج لحياة السجناء الشيوعيين في سجن نقرة السلمان, أما الكاتب والأديب والصحفي والمناضل (جاسم المطير) قد وثق حياة السجين اليومية القاسية التي يعيشها السجين السياسي في منطقة صحراوية , وعن سجناء هزوا الصعاب بأعمالهم وأغانيهم التي أثرّت ثقافة المناضلين الشيوعيين بكثير من العطاء والتضحية من أجل الحرية والديمقراطية للشعب العراقي , فالكاتب يؤمن إن المناضل يجب أن يكون في صميم العمل النضالي وأن لا يستكين للسجن والسجان , لأنهُ وجد النضال والكفاح والسجن محطة استراحة وساحة لتكريس جهوده الفكرية والثقافية للنضال والعمل الحزبي في تنظيمان الحزب داخل السجن, وعلى الشيوعي الحقيقي العمل للخلاص من هذه القيود التي وضعها النظام ليكبل حريتهُ الشخصية والفكرية والعقائدية .

الكتاب يعتبر مصدر مهم يمثل تأريخ حقبة زمنية مر بها المناضلين من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي , مثلت الصمود والانسجام في الحياة السجنية , إضافة إلى انسجام عوائل السجناء المناضلين في الزيارات المحددة لهم من قبل إدارة السجن لزيارة أبنائهم في هذا المكان الصعب , كما إن الكتاب قد خلى من الأخطاء المطبعية واللغوية وقد صم غلافه تصميم مناسب لمحتوى الكتاب من قبل جيهان الخير , فيستحق الكتاب والكاتب الثناء والإجلال والإكبار لهذا الجهد الذي قدمهُ الكاتب للأجيال القادمة والحاضرة , فقد أدلى الكاتب برئيه السديد في أمور فكرية وحياتية لمرحلة سابقة مرّ بها الحزب , وقد أوضح الكثير من التفاصيل التي تخص حياة السجين الشيوعي , وقد أوضح الكاتب إن مدرسة الشيوعيين قد تمكنت من أن تخرج دفعة كبيرة من الأساتذة والمفكرين والمحللين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية , ويتعذر هذا على الدارسين المنهجيين للوصول إلى مستوياتهم في التحليل والدرس , فقد حفلت كتابات المناضل جاسم مطير بالكثير من الدروس والعبر التي علينا الاستفادة منها في الظرف الراهن في تجارب وذكريات ليكون درس للأجيال اللاحقة بالخبرة والاستفادة منها في البناء الجديد , لأن تجارب القادة السياسيين درس رائع وممتع يستلهم منهُ الآخرين دروساً في النضال والتضحية ,وقد ألحق الكاتب بملحق من الرسائل والصور المهمة التي تدعم الكتاب بحياة السجين الشيوعي في نقرة السلمان.

 



 

free web counter