| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الجمعة 1 / 1 / 2016 موسى فرج كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
نحو دراسة علمية للفساد السياسي في العراق
(2)موسى فرج
الفساد.. مفهوم مختلف
ثلاث قضايا تشكل المفاتيح في دراسة مشكلة الفساد:
1. تحقيق نتائج في مواجهة الفساد يعتمد أساساً على تحديد ماهيته, وإدراك حجم المخاطر والأضرار الناجمة عنه. .
2. التحديد فيما إذا كانت أفعال الفساد فطرية عفوية أم قصدية يفيد في تحديد موقف صريح منه. .
3. الوقوف على موقف الأديان من الفساد يدعم مشروعية مناهضته والتصدي له.
القضية رقم 1:
هل أن الفساد يعني.. عدم ارتداء الحجاب مثلاً؟ أم قيادة المرأة للسيارة؟ أم ممارسة الموسيقى والفنون؟ أم أنه الاعتداء على الحقوق والجنوح عن المثل العليا والقيم النبيلة. ؟الجواب هو الآتي :
منذ قرون والتلقين فينا قائم على قدم وساق ووعاظ السلاطين يشمِّرون عن ألسنتهم بأن شرف المرء بين فخذيه وكل ما عدا ذلك فيه نظر. والخروج على رغبات الحكام كفرٌ أبلق . لكن الذي حصل أنه وفي غضون أسبوع واحد غيّرت إنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا تلك الصورة تماماً عندما استشاطت غضباً لمرأى طفل سوري غريق قذفته أمواج البحر على الرمال. ومارست فعلاً إنسانياً نبيلاً في احتضان اللاجئين والهاربين من الموت والإذلال.وباتت صورها شبه العارية وأحيانا وهي تكرع البيرة أيقونات التظاهرات المناهضة للفساد في العراق. واهتزت القناعات القائلة بأن الشرف يقبع بين طيات الملابس أو تلافيف الجسد أو تحت أقداح البيرة ليحل بدلها مفهوم جديد يقول إنما الشرف يكون في الموقف من حقوق الإنسان وكرامة الإنسان والفساد يكون في العدوان على حياة ومقدرات الإنسان وانتهاك كرامته وكلما طال الضرر عدد أكبر من الناس كان الوزر أكبر..
بالمقابل يكون الإفصاح عن الموقف المناهض له يكتسب معنى أخلاقياً أنصع.
القضية رقم 2 :
وعلى الرغم من أن الفساد قد رافق الإنسان مذ كان في الفردوس فتيا وكان السبب المعلن وراء طرده منها, مع فارق أن الباعث لم يكن مالياً, فلم تكن المشكلة الاقتصادية الناجمة عن عدم كفاية الموارد المتاحة لتلبية الاحتياجات المتزايدة قائمة لكن الإنسان العاقل من دون الملائكة الغرائزيين فعلها وقت ذاك فارتكب فساداً ، صحيح كان يوجد مفسد وهو المؤسس والرائد في هذا المجال ولكن منذ ذلك اليوم والصورة لا تكتمل إلا بأبعادها الثلاثة فاسد ومفسد ومساءلة، صدق رب العزة بحقهم في قوله تعالى في سورة ص:(82 - 85) (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول *لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).وإذن الفساد فعل قصدي وليس فطري ولو كان غير ذلك لمارسه الإنسان بعد أن دبَّت فيه الروح مباشرةً ، ومن جرّاء ذلك تحمَّل مسؤولية ما فعل، وكان حرياً بالأبناء أن يتعظوا فالذي جلاه من الفردوس إلى الأرض حتما يملك ما هو أسوأ من الأرض.
القضية رقم 3 :
موقف الدين من الفساد: اعتمد القرآن الكريم صيغة الإخبار أولاً: (والله لا يحب الفساد) سورة البقرة ، الآية 205. ومن ثم الإرشاد في قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) سورة الأعراف الآية 56. ومن ثم اعتمد صيغة النصح في قوله تعالى: (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) سورة القصص، الآية 77. وبعدها اعتمد صيغة التحذير في قوله تعالى: (والله يعلم المفسد من الصالح) سورة البقرة، الآية 220. ثم اعتمد صيغة التأنيب في قوله تعالى: (فهل إذا عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) سورة محمد (ص)، الآية 22. ثم اعتمد صيغة الاستنكار في قوله تعالى:(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون *ألا أنهم هم الفاسدون ولكن لا يشعرون) سورة البقرة، الآية (11-12). وانتقل إلى صيغة الغضب في قوله تعالى: (إذا تولى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) سورة البقرة الآية (205). ثم طفح الكيل فكانت صيغة السخط على الفاسدين في قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت) سورة هود، الآية 112. وعندما وجد أن الفاسدين أوباشٌ لا ينفع معهم إرشادا ولا نصحا ولا تحذيرا ولا تأنيبا ولا استنكارا ولا تعبيراً عن الغضب ولا إعلانٌ للسخط. أصدر حكما بحقهم في قوله تعالى: (إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) سورة المائدة، الآية 33. هذا في دار الدنيا أما في الآخرة؟ فقد أعد لهم سبحانه ما يستحقون كما في قوله تعالى: (الذين طغوا في البلاد* (11) فأكثروا فيها الفساد* (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب* (13) إن ربك لهم بالمرصاد* (14)) سورة الفجر. .مع ذلك فإن التاريخ الإنساني عبارة عن يوميات للصراع المرير بين الاستقامة والفساد.. والفساد في إطاره العام يبقى ذلك الفعل الكريه المنافي للقيم النبيلة وقيم الاستقامة والنزاهة ويشكل انحرافا عنها. حتى أن التعبير المرادف له في قواميس اللغة يرتبط بأقسى التعابير دونيةً فالفساد في قاموس اللغة الإنكليزية (CORRUPTION) يعني: حالة تعفّن وانحلال وانحراف وتفسخ وانحطاط. ليس بعيداً عن ذلك ما يوصف به في معاجم اللغة العربية ففي معجم المعاني الجامع جاء الفساد بمعنى انحطاط ونتانة ووصف الفاسد بالشرير والخبيث. لكن المشكلة تكمن في أن وقع الكلمة وردّ الفعل إزاءها لا يرتبط بالضرورة ودائماً بفحوى الرسالة فقط إنما بثقافة المتلقّي وأخلاقيته أيضاً ، وطالما أن القيّم الثقافية والأخلاقية متباينة بين شخص وآخر ضمن المجتمع الواحد فإن وقع مفردة الفساد وردّ الفعل تجاهها مختلف بين شخص وآخر. ليس هذا فحسب بل مختلف بين مجتمع وآخر ما دامت أنماط الثقافة مختلفة بين بيئة اجتماعية وأخرى فالعقل الجمعي يتحكّم بتفسير ما تعنيه مفردة الفساد وشدة رد الفعل إزاءها . ليس فقط من حيث النطاق إنما من حيث النوع أيضاً فقد تقشعر جلود البعض في بيئة ما من مرأى امرأة حاسرة لكنهم لا يأبهون لمنظر طفل حافي القدمين ، وفي ثقافة أخرى فإن الأمر معكوس تماماً. ومن حيث العمق أيضاً فقد يسارع المسؤول الحكومي في اليابان مثلاً لتقديم استقالته أو ربما يذهب إلى حد الانتحار عندما تثار ضده قضية فساد ، لكن مسؤولاً رفيعّ المستوى في العراق لا يرف له جفن عندما تثار ضده تهمة سرقة وعندما يواجه بها يبادرك بالقول: "أنا لا أنفي ذلك لكني لست الوحيد . وقد أكون الأقل"
سأضرب لكم مثلاً. قبل يومين تابعت خبر متلفز يمثل مدير الخطوط الجوية الكورية وقد جلب ابنته الشابة الى ساحة كبيرة في العاصمة والساحة مزروعة بـ الميكرفونات والفتاة منكسة الراس كأنها زانية تعتذر من الجمهور لأنها تسببت في تأخير طائرة كانت مغادرة سيئول بضع دقائق .. في نفس اليوم قرأت خبراً يشير الى أن إحدى عضوات مجلس النواب من البصرة تم إلقاء القبض على اخيها وهو يهرب مخدرات وزئبق من والى الكويت بسيارة الدولة التي بعهدتها وباستخدام عناصر حماياتها.. من منكم يتطوع ليقول لها: على عينك حاجب ..؟ . وطبعا توجد علاقة تبادلية بين فساد الحكام وبين التخلف المجتمعي ففساد السلطة ينتج فساد المجتمع وفساد المجتمع يعيد إنتاج فساد الدولة وبسبب الاختلاف في الثقافات بين المجتمعات فانه لم يتم التوصل لغاية الآن إلى اتفاق على تعريف محدد للفساد يصلح لكل البيئات ولكل الدول ففي حين يراه بعضهم متمثلا بالرشوة يراه آخر غسيلاً للأموال ويراه ثالث عدم الالتزام بالقانون.
ممثلو الأسرة الدولية الذين وقعوا على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2003 تجنّبوا تبنّي تعريف محدد للفساد معتبرين أن ذلك غير ممكن وغير ضروري وبدلاً من ذلك أوردوا قائمة بأفعال الفساد على سبيل المثال وليس الحصر مثل :الرشوة والاختلاس والمتاجرة بالنفوذ والمحاباة والمحسوبية وغسل الأموال الناجمة عن الفساد، والإثراء غير المشروع ، وعرقلة تطبيق القانون في قضايا الفساد أو إعاقة جهود مكافحة الفساد.جاء ذلك بسبب الاختلاف في طبيعة وأنواع الفساد في مختلف الدول وإقراراً بذلك الاختلاف ، حتى أن أكثر التعريفات شيوعا مثل تعريف منظمة الشفافية العالمية لا يخلو من انتقادات عندما عرفت الفساد بأنه: (إساءة استغلال منصب عام أو وظيفة عامة لتحقيق منفعة خاصة)، أو إساءة السلطة المؤتمن عليها بهدف تحقيق مكاسب شخصية ..فقد يفهم منه أن ما يُعدّ فساداً هو ما يرتبط بإشغال وظيفة حكومية أو رسمية ويخرج ما عداه من وصف الفساد في حين أن الفساد يتسع على غير هذه الشريحة فيطال كل تصرّف منحرف يمارس من قبل الأحزاب والمنظمات المجتمعية والأفراد ضمن المجتمع ، كما أن ورود المنفعة الخاصة في التعريف قد يفهم منه ما يدل على أن المال المحصل بشكل غير مشروع من الفساد هو الفيصل في اعتبار الفعل فساداً أو غير ذلك. في حين أن الفاسد قد لا تنحصر الدافعية عنده في المال فقط وإنما قد ينطلق من دواعي التخلف والتعصّب فالإرهاب فساد مطلق لكن الإرهابي لا ينتظر من فعله مردوداً مالياً إنما ينطلق من بواعث مغرقة في التخلف والتعصّب ، وهو قد يسعى إلى مقابل لكن المقابل لا يستقطع من أموال المجتمع الآن إنما في الدار الآخرة وأهل الأرض ليسوا بقيمّين على ما هو في الدار الآخرة . مع ذلك يظل الإرهاب في مقدمة أفعال الفساد. وقد يسجل على منظمة الشفافية العالمية تركيزها على الفساد الصغير ولا تكشف مؤشراتها عن الفساد الكبير.
أما بالنسبة للبنك الدولي فقد عرف الفساد بأنه: (دفع رشوة أو عمولة مباشرة إلى الموظفين والمسؤولين في الحكومة وفي القطاعين العام والخاص لتسهيل عقد الصفقات) ، في هذه الحالة تمَّ تضييق أفعال الفساد إلى حدود ضيقة جداً. وغني عن القول أن هذا التعريف تظهر خطورته عندما يتم اعتماده في التشريعات القانونية العقابية فالكثير من الفاسدين يفلت من العقاب لا بسبب عدم شائنية الفعل إنما بسبب عدم اتساع تعريف الفساد ليشمله قانوناً والأمر نفسه يحصل عندما يثار أمام المحاكم أن الفساد يشمل موظفي الدولة فقط في حين أن الشخص ليس موظفاً ويطالب بإسقاط الدعوى ضده لهذا السبب.. (تاجر عراقي يفاوض البائع لشراء أدوات إحتياطية للسيارات معروضة بربع ثمنها يخبره البائع بأنها من بين ما تعرض للإشعاع من جراء التسونامي الذي ضرب اليابان والتاجر لا يأبه فهو يريد بيعها في العراق بسعر السليمة.. لكن هذا التاجر في الوقت الذي يجلب السرطان الى مواطنيه يحرص أن يسأل البائع وقت الغداء ليدله على مطعم يقدم اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية ..!).
الحديث عن الفساد في أيامنا سواء كان مصدره الجهات الدولية أو الحكومات أو الأوساط الشعبية إنما ينصرف في واقع الأمر إلى استشراء الفساد وليس إلى الفساد بمفهومه المجرد ووحدهم الساسة في العراق يحاولون التقليل من شان الفساد بالقول أنه موجود في كل دول العالم لكن منظمة الشفافية العالمية مثلا لاتضع علامة x أمام الدولة التي يوجد فيها فساد وعلامة y أمام الدولة التي لا يوجد فيها فساد إنما تعتمد معيار يبدأ بـ صفر ويعني فاسد للغاية وينتهي بـ100 وتعني نظيف للغاية وتدرج الدول وفقاً للدرجة التي حصلت عليها كل منها ..ومن خلال متابعتي تلك التقارير منذ أول تقرير صدر لم ألحظ أن دولة حصلت على درجة 100 كما لم أجد ان دولة كانت درجتها صفر.
هيئة النزاهة في العراق اتجهت إلى المنحى الذي تبنّته اتفاقية الأمم المتحدة في موقفها من تعريف الفساد فأن قانون تأسيسها الأول قال: بأن قضية فساد تعني: قضية جنائية تتعلق بحالة يشتبه بأنها تنطوي على خرق نص مما يأتي : حسب المواد: (233، 234، 271،272، 275، 276، 290،293، 296) من قانون العقوبات رقم 11 لسنة 1969 والتعريف لا يخلو من نقص.
خلاصة القول في هذا الجانب:
1. الفساد في إطاره العام يكاد يكون واحداً في مختلف الثقافات لكن الموقف منه إنَّما يستند إلى الثقافة الشخصية للمرء ونمط الثقافة المجتمعية لكل مجتمع.2. الشرف لم يعد محشوراً في منطقة ما بين الفخذين، والفساد لم يعد هوية التطاول على تلك المنطقة بل سائر الجسد وكل حقوق الإنسان ومقدرات المجتمع.
3. الحديث عن الفساد في أيامنا سواء كان مصدره الجهات الدولية أو الحكومات أو الأوساط الشعبية إنما ينصرف في واقع الأمر إلى استشراء الفساد وليس إلى الفساد بمفهومه المجرد ووحدهم الساسة في العراق يحاولون التقليل من شان الفساد بالقول أنه موجود في كل دول العالم للتنصل من تبعاته أو أنهم يقولون : أن الموظف بات يمارس الفساد ولا يستحي في حين ان فساد الموظف يسمى عالمياً الفساد الصغير لكن فساد الطبقة السياسية يسمى الفساد الكبير ..وهم الأدعى بالاستحياء..
4. أكثر التعريفات شيوعاً للفساد كالتعريف المعتمد من قبل منظمة الشفافية العالمية، وأيضاً المعتمد من قبل البنك الدولي مازالا في الحقيقة لم يحققا الإحاطة الكاملة لكل أوجه الفساد وهما في تطوير مستمر لمفهوم الفساد. وإن عدم اعتماد تعريف محدّد للفساد في الوقت الحاضر كما ذهبت إلى ذلك اتفاقية الأمم المتحدة أفضل الحلول ريثما يمكن التوصل إلى تعريف شامل وجامع مانع للفساد.
5. قرأت امس قرار حكم قضائي صادر من أحدى المحاكم في العراق نص في فقرته الأولى بالحبس لمدة 3سنوات على محافظ بابل ليعود في الفقرة الثانية من القرار فيقرر إيقاف تنفيذ العقوبة والإكتفاء بتأمينات مقدارها 200 دينار عراقي لضمان عدم تكرار الفعل .وجاء في الأسباب الموجبة : ( لكون المدان في مقتبل العمر ويخشى اختلاطه مع أرباب السوابق ..!) بالحقيقة هالني ذلك:
فأولاً : إذا كانت المحكمة تخشى على مُدانها لحداثة سنه فلماذا لم تقوم بإيداعه سجن الأحداث ..؟. .
ثانياً : أنا أجزم أنك لو وقفت الساعة في أحد الميادين الرئيسية في باريس أو برلين أو لندن او روما واستثنيت الرسل الثلاثة موسى وعيسى ومحمد وابوهم إبراهيم عليهم السلام فإن الشخصية التي تليهم في الشهرة هي حمورابي فهل يمكن ان يكون هذا المدان الذي يخشى عليه الاختلاط خليفة لحمورابي في حكم بابل العريقة ..؟.
أدري أدري.. أن بعضكم سيعترض عليَّ بالقول ليس حمورابي فقط المشهور من بلاد ما بين النهرين إنما علي بابا أيضاً. وهذا صحيح فأنا لا استطيع ان أنكر أن اشهر نصب في عاصمة بلاد ما بين النهرين هو للأخير في حين أن نصب حمورابي يقبع في متاحف برلين وباريس ولندن.. وعندما تتغير الصورة نكون قد وصلنا الى المفهوم المختلف للفساد.. .