نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. مهند البراك

 

 

 

 

السبت 13 / 5 / 2006

 

 

 

القضية الوطنية والصراعات الدولية والأقليمية *

 

د. مهند البراك

فيما كان العالم الغربي يصفّق لنهاية الحرب الباردة اواخر ثمانينات القرن الماضي، كان القلق يلّف اوساط واسعة في بلدان العالم الثالث وخاصة في البلدان الأكثر غنى منه، لأن انهيار احد قطبي التوازن الدولي الذي كان قائماً، كان يعني لها بداية مرحلة جديدة، ستواجه فيها واقعاً مجهولاً جديداً . . وستواجهه عزلاء ـ اي بما وصلت تركيبتها هي اليه ـ بعد ان مارست الأوساط الحاكمة فيها وتلك القريبة منها ومن كان في دائرتها، لعبة التوازن والموازنة بين القطبين خارجياً، وبالتالي لعبة الموازنة بين قوى التقدّم والأنفتاح وقوى المحافظة والأنغلاق داخلياً .
وفيما تسببت حالة اعادة التظيم تلك بسقوط انظمة بائدة ونشوء انظمة جديدة على اسس انظمة المؤسسات، و بروز دول وكيانات جديدة . . فانها تسببت في شرقنا الأسلامي والعربي بفراغ سياسي داخلي مفاجئ ان صحّ التعبير، ادى الى ظهورالأصولية والسلفية والعشائرية التي كانت لها اسساً منظّمة بشكل يمكن القول انها كانت اكثر استقراراً من غيرها قبل التغيير . . لمواجهة اعباء الحياة السابقة من جهة وعلى ارضية من بطالة وهبوط وخواء ثقافي سياسي اقتصادي عاشت تحت ضغطه مجتمعاتنا عقوداً من الزمان من جهة اخرى، وغيره الذي تسببت به تلك الأنظمة البائدة التي حكمت لفترات طويلة.
وفي الوقت الذي اوجدت فيه العولمة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية في الغرب، امكانات ووسائل انتاجية ارقى بما لايقاس بما كان عليه الحال قبل نهاية الحرب الباردة، فانها انتجت ايضاً ازمات في اسواق العمل في الغرب ذاته، كمؤسسات واختصاصات ومجاميع وفرق عمل بمختلف الدرجات والكفاءات والأختصاصات . . اما لكونها صارت لاتلبي الحاجات الجديدة او لحلول الآلة او النظم الألكترونية الأحدث محلّها هناك، اضافة الى انها اوجدت طفرة في تزايد حاجات الغرب الى الطاقة والخامات عموماً والى النفط الخام الغنيه به بلداننا بشكل اكثر تحديداً .
ومن ناحية اخرى، وبما ان التغيير الحاصل في بلداننا( قادم من الخارج) بالحساب النهائي ومن الغرب تحديداً، سياسيا واقتصاديا وفكريا، دون لمس او ادراك واهتمام اوساط غير قليلة بدور الغرب الحضاري والثقافي والعلمي والصناعي والتكنيكي وكون ان ابرز حاجات حياتنا هي منه، من السيارة والملابس والكهربائيات والألكترونيات الى نظم الدراسات والعلوم والصحة والبناء وغيرها . . وبسبب تخلّف البنية الأقتصادية ـ الأجتماعية في مجتمعاتنا (1) ، وبسبب انتقال تأثيرات امراض الغرب الصناعي وعلى رأسها امراض الكساد الينا، التي اخذت تأتينا مع الجديد . . بشكل بضائع بائرة، غش، فساد اداري، احتكار وما ادىّ الجديد من كساد في المنتوجات المحلية لتخلفها وغلاء تكلفتها ولرفع الدعم الحكومي عنها وغيرها، اضافة الى الأخطاء العسكرية العديدة كفضائح السجون مثلاً، وانتشارها بسرعة البرق عبر الصلات الألكترونية، اضافة الى التباطئ غير المبرر في اعادة البناء واعادة تنظيم شؤون الدولة، الذي تسبب بخسائر غير قليلة بالأرواح والمعدات والممتكات . .
وجدت بقايا الأنظمة السابقة في الأصولية خير وسيلة لأمتطائها لمواجهة التغييرات العاصفة التي اطاحت بقواها ومصالحها وثرواتها، وبكراسي واجهزة حكمها، مستندة الى تخلّف وجهل اوساط واسعة بحقيقة مايجري وبحقائق كيفية التعامل معه من جهة، والى حساسية وانانية جعلت اوساطاً غير قليلة لاتتقبل الأقرار بأن انتماءها الحضاري صار متخلّفاً قياساً بالمراحل الحضارية التي وصلتها امم العالم اليوم على ما يظهر من تناقضاتها(2) . . الأمر الذي ادى الى تسارع وظهور مجاميع الأرهاب الأصولي الوافد الذي اخذ يفرّخ بسرعة .
في ظروف دولية اخذ يزداد فيها العنف، واخذت تشير اضافة الى القلق من استمرار وتزايد تباعد مجتمعاتنا العربية والشرق اوسطية وانظمتها، عن ركب الحضارة العالمية وتزايد انغلاقها . . تزايد الشعور بوجود ميل نحو جدب وجفاف في علاقات الغرب مع المنطقة ـ رغم الجهود المبذولة والأنجازات التي تتحقق ـ وما يجرّ ذلك بالتالي من تأثير على علاقات دول ومجتمعات المنطقة بعضها ببعض. الأمر الذي يهدد بتفاقم ان لم يجرِ الأنتباه ووضع حلول له . . تفاقم يصل الى طابع علاقات من الغطرسة والعنف والعسكرتاريا، بدلاً من دور الأشعاع الحضاري السلمي والتلاقح الأنساني الذي لعب ادواراً ايجابية في عصور ومراحل سابقة، اضافة الى التركة الأمبريالية . .
الأمر الذي قد يفاقم من عزلة المنطقة بالمفهوم الأجتماعي الواسع، ويصعّد الأرهاب والعنف فيها ويزيد من عوامل العناد ورفض التحديث والأنفتاح والتمدن فيها، في ظرف يزداد فيه الصراع حدّة على تحقيق ارباح همجية وعلى زيادة النهب ومخاطر تزايد ذهنية السطو والأنانية في البلاد، بلا مبالاة بمصائر مجتمعاتنا وضرورة التوصل الى طريق لأستقرارها والسير بها نحو رفاه اجتماعي .
ففيما يصف عدد من المراقبين والمفكرين الواقع الدولي اليوم، بكون ان اقطاب اوروبية نافذة تحاول تشجيع اقطاب المال والسلاح والنفط في الولايات المتحدة، على شنّ حروب اكثر وتحاول دفعها وتوريطها بذلك الأتجاه لأستنزافها . . محاولة منها لأٍستعادة مواقع فقدتها في نصف القرن الأخير او في محاولة للتفوق عليها في مواقع اخرى في العالم .
وفي محاولة منها للـ (الأستفادة) من الدروس المريرة التي جنتها اوروبا وبيوتاتها الأقتصادية بعد ان خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة مثخنة الجراح، والتأخر المدروس للأقطاب النافذة في الولايات المتحدة في فتح الجبهة الثانية آنذاك . . التي اجبرتها بالتالي على الموافقة على الشروط الأميركية بعد انتهاء الحرب، وعلى تثبيت تسعير النفط بالدولار الأميركي وبالتالي هيمنته (الدولار) عليه، في مقابل الدعم الأميركي لها في عمليات اعادة البناء وفي مشروع مارشال، وفق عديد من المصادر التاريخية والمعلوماتية .
يصف آخرون سلوك اطراف نافذه في الأدارة الأميركية اليوم، بكونه يعكس القلق والخوف من التطور الصاروخي لمعدلات النمو السنوي للصين الشعبية الذي جعلها في حاجة ونهم شديدين للنفط وادخلها في قمة حلبة الصراع الدولي في مسارح النفط والطاقة، خاصة بعد تحالفها الوثيق مع عملاق النفط الروسي من جهة، والتزايد المتسارع لأستثماراتها المتنوعة في نفط ومشتقات نفط وغاز دول الخليج، من جهة اخرى .
ويشكّل الأعلان الصيني عن البدء بانتاج وتسويق سيارات الغاز والبخار مطلع عام 2007 ، تحدياً كبيراً للأقطاب الصناعية والمالية الأخرى وسابقة توضح ان دخول الصين الجديد لصراع القوى العظمى والمصالح الدولية قد جاء في مستوياته العليا وبشكل اكثر صبراً وتخطيطاً . . وهي بكامل طاقاتها الأقتصادية والعسكرية والبشرية والمعنوية، خاصة وانها لم تتورط في اية حرب استنزاف منذ استقلالها، قبل نصف قرن.
وفيما يقيّم قسم من الأختصاصيين، العلاقات الدولية بكونها رجوع الى مراحل الأمبريالية التي افتتحتها حرب الأفيون التي اعلنتها بريطانيا على الصين في القرن الثامن عشر . . يرى قسم آخر ان القوى العظمى والعلاقات الدولية المعولمة اليوم وبعض عناوينها المدرجة اعلاه قد دخلت على الصراعات الوطنية الداخلية بشكل اكثر مباشرة من السابق وصارت تتفاعل مع مكوناتها الوطنية الداخلية وتحرّكها وفق منظورها ومصالحها بلا استئذان . . تاركة تأثيراتها عليها كفعل او كرد فعل وباشكال كثيرة التنوع في فوضى عالم اليوم.
الأمر الذي ادخل القضية الوطنية العراقية ( كجزء من عديد من القضايا الوطنية الداخلية للبلدان ذات الأهميات الستراتيجية ) في مرحلة تاريخية اكثر تعقيداً مما مضى، مرحلة تتصف بتفاعل المكونات الوطنية الداخلية (المكشوف) كل على حدة، مع اطراف ومكونات صراع القوى على المستويين الأقليمي والدولي، الذي يبدو اكثر وضوحاً في حالات استمرار عدم الأستقرار .
والذي اخذ يجعل من تلك القضايا الوطنية (الداخلية)، وعلى خلفية صراعات نصف القرن الأخير . . كقضايا اقليمية ودولية يرى فيها البعض من زاوية مصالحه واهدافه انها اخذت تفرض على المكونات الوطنية ان تتعامل معها كل من جانبها !! فيما يرى كثير من السياسيين والمراقبين والخبراء اهمية التوصل الى توافق وطني داخلي موحد يعمل على التعامل مع العوامل الأقليمية والدولية ككيان واحد يستطيع صيانة قدرة البلاد على النجاح في جهودها من اجل قضيتها الوطنية التي تنشد استقلال القرار والنمو الأقتصادي الأجتماعي، وتستطيع الوقوف ضد اخطار الحروب وضد العنف، ويمكّنها على القدرة على التوافق والتعايش مع محيطها الأقليمي والدولي على اساس المنافع المتبادلة بعيداً عن العنف . . لأجل انصاف انسانها من مختلف الوان طيفه، ولأجل حقه في الحياة والعيش الكريم، الذي نصّت عليه العهود والمواثيق الدولية المعمول بها.


(1) التي تشكّل بمجموعها درجة حضارية اعلى مما هي عليه، فيه.
(2) حيث ان العلاقات الأنتاجية الأقتصادية ـ الأجتماعية المتطوّرة المترابطة بالعلوم والمعارف وبمستوى معيشي لائق، تشكّل حصانة تقي البلاد من مخاطر السقوط بفخاخ الأصولية الدينية، او تقلل من اخطارها الى حد كبير .

(*) نشر في مجلة " الرؤية " ، عدد ايار 2006 .