د. عبدالخالق حسين
السبت 6/ 9/ 2008
قراءة في مذكرات الدكتور محمد المشاطد.عبدالخالق حسين
صدر حديثاً إلى الأسواق كتاب الدكتور محمد المشاط، سفير العراق سابقاً في واشنطن إبان جريمة غزو الكويت، بعنوان: كنت سفيراً للعراق في واشنطن (حكايتي مع صدام حسين في غزو الكويت).
لا شك إن المذكرات تحتل اليوم أهمية بالغة في الثقافة والنشر، وخاصة السياسية منها، لأنها تعتبر مصدراً مهماً للباحثين في الشأن العام، وبالأخص للمؤرخين والكتاب والمحللين السياسيين. وقيمة المذكرات هذه تعتمد على مكانة ومؤهلات كاتبها ودوره في حدث تاريخي ما، والمناصب التي تبوأها في أداء مهمة معينة في تلك الفترة الساخنة. لذلك تتخذ مذكرات الدكتور محمد المشاط أهمية خاصة، ولأسباب عديدة لا يمكن الشك في صدقيتها، فهي في رأيي تعتبر شهادة موثقة للتاريخ عن فترة حرجة مر بها العراق تركت آثارها المدمرة إلى مستقبل غير معلوم.
فالرجل مؤهل للإدلاء بمثل هذه الشهادة المهمة من عدة نواحي ، فهو لم يكن شاهد عيان على الأحداث الساخنة فحسب، بل وكان مشاركاً فيها، وفي قلب العاصفة، وذلك لعلاقته المباشرة بحزب البعث الذي كان عضواً فيه لثلاثين عاماً، والمسؤوليات التي أنيطت به، والمناصب العالية التي تبوأها لأكثر من عشرين عاماً إبان حكم البعث. كما وإن الرجل يتمتع بقاعدة ثقافية عريضة ومؤلهات أكاديمية متنوعة، فهو حاصل على شهادة البكالوريوس في القانون من كلية الحقوق/جامعة بغداد، وبكالوريوس وماجستير في علم الإجرام من جامعة كاليفورنيا/أمريكا، وشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مريلاند/أمريكا. أما خبرته العملية، فقد تدرج الدكتور المشاط في السلم الوظيفي بما يتناسب وتحصيله العلمي، ابتداءً من ملاحظ، ومروراً بمدير البعثات العام، وأستاذ جامعي، ووكيل وزارة، ثم وزير التعليم العالي ورئيساً لجامعة الموصل لست سنوات، ومن ثم سفيراً لخمسة عشر عاماً، ممثلاً لبلاده في أهم عواصم الدول الغربية مثل، باريس مرتين، وفيينا ولندن، وأخيراً وفي أحلك فترة مر بها العراق، في واشنطن حيث تتركز عليها هذه المذكرات. ولهذه الأسباب مجتمعة نعتقد أن هذه المذكرات تتمتع بمصداقية متميزة وأهمية خاصة.
يتألف الكتاب من عدة مقدمات توضيحية وتمهيدية، مع 11 فصلاً، وملحقين، الملحق الأول لصور تذكارية لها علاقة بمادة الكتاب، والثاني، لعدد من الوثائق المهمة. أما المقدمات، فأولاها، مقدمة قيمة بقلم المؤرخ العراقي المعروف، الدكتور سيار الجميل، بعنوان: (تقديم الكتاب)، حيث يقدم للقارئ نبذة موجزة عن الكاتب لمعرفته الطويلة به عن قرب، وعن قصة هذه المذكرات وكيف بدأت وشقت طريقها إلى النور، فيقول الدكتور سيار في هذا الخصوص:
" لقد كنت أول من طالب الصديق الكبير السفير محمد المشاط بكتابة هذه "المذكرات" التي اعتبرها واحدة من أبرز الوثائق الدبلوماسية والشهادات الحية عندما كان الرجل سفيراً للعراق وممثلاً له في (عرين الأسد) كما كانت تسمية هذه المذكرات لأول مرة. وبدا لنا واضحاً - من قراءتها – كم كانت للسفير محمد المشاط تجربته الدبلوماسية مع الساسة الأمريكيين الكبار والصغار، إذ كان في قلب المدفع وهو يدافع عن بلاده، وادي الرافيدين دفاعاً مستميتاً، وهو يحدثنا عن فعاليّاته ونشاطاته واتصالاته السياسة وتصريحاته الإعلامية التي اختزلها في هذا الكتاب.". وهذه شهادة قيمة من مؤرخ أكاديمي تؤكد أهمية هذه المذكرات.
ومن ثم يقدم المؤلف تعريفاً بنفسه، ونبذة موجزة عن تحصيله العلمي والوظائف والمناصب التي تبوأها، والتآليف والنشر. ثم يقدم تمهيداً للكتاب، وتوطئة عنه والأسباب التي دعته لكتابة هذه المذكرات ونشرها.
كما بينا آنفاً، تتركز هذه المذكرات على فترة عمل المؤلف في وشنطن. لقد تم نقل الدكتور المشاط كسفير من لندن إلى العاصمة الأمريكية في أواسط شهر آب (أغسطس) 1989، في فترة بدء تحسن العلاقات بين أمريكا والعراق. وكما يقول الكاتب، أنه يقتضي العرف المتبع في حالة نقل سفير من عاصمة إلى عاصمة دولة أخرى أن يعود السفير إلى بغداد لتلقي التعليمات من وزير الخارجية والمسؤولين الآخرين عن طبيعة مهامه في المكان الجديد. ولما عاد إلى بغداد والتقى طارق عزيز، وزير الخارجية آنذاك، ونزار حمدون، وكيل الوزير، فوجئ بتعليمات لم يكن يتوقعها فيما يتعلق بسياسة الدولة والحزب. فيقول أن أهم سبب دفعه للإنتماء لحزب البعث هو شعاراته ومبادئه المعلنة، وخاصة فيما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية التي هي قضية العرب المركزية. ولكن في هذا اللقاء بطارق عزيزي أصيب بصدمة لم يتوقعها، فيقول الدكتور المشاط: "ولكن الذي لفت نظري، وبشكل لم أكن أتوقع قوله بصريح العبارة، بما معناه بضرورة الابتعاد عن التعرض أو انتقاد أو مهاجمة إسرائيل، منتهياً بالقول إن موقفنا واضح من القضية الفلسطينية، إذ إننا نقبل بما تقبله منظمة التحرير الفلسطينية." وهنا يصاب الكاتب بخيبة أمل فيضيف قائلاً: " لقد أدهشني هذا القول من وزير الخارجية وعضو القيادة القطرية، إذ أن أساس التحاقي بحزب البعث كان إعجابي بأحد المبادئ الأساسية في أدبيات الحزب، وهي اعتبار القضية الفلسطينية هي العمود الفقري وأساس القضية العربية. ولكنني نجحت في إخفاء دهشتي، حيث سألته عن بعض الأمور الروتينية المتعلقة بواشنطن،...الخ" (ص34).
ومن ثم التقى بوكيل الوزير، نزار حمدون، الذي كان قد عمل سفيراً في واشنطن لعدة سنوات، فيقول المؤلف: "وكان اللقاء طويلاً حيث شرح لي الوضع في أمريكا وقدم عرضاً مسهباً عن الشخصيات المهمة في واشنطن، وعن العلاقات التي كونها معهم، وطلب مني الاستمرار في الاتصال بهم وتعميق العلاقة معهم، وقدم لي أسماء هذه الشخصيات، سواء في حقل الإعلام أو في الكونغرس، وقد قمت بتدوين الملاحظات عن هذه الشخصيات خاصة المتعلقة بأعضاء الكونغرس." ولدهشة الدكتور المشاط، أنه أكتشف فيما بعد أن بعض هذه الشخصيات التي كان لنزار حمدون علاقات وثيقة بها كانوا من عتاة الداعمين لإسرائيل. وقبل انتهاء الاجتماع قال بالحرف الواحد: "يا دكتور أرجو أن تهتم بقضايانا العراقية، وعليك أن لا تتحرش بإسرائيل أو تتعرض لها لأننا في حاجة إلى أمريكا، ..." (ص 35).
ومن هنا نعرف أن كل ذاك الضجيج الذي اصطنعه حزب البعث حول القضية الفلسطينية، كان مجرد ضحك على الذقون ومتاجرة بمأساة الشعب الفلسطيني، واستغلالها للتسلط على رقاب الشعب العراقي واضطهاده بحجة تحرير الأرض من النهر إلى البحر!! وهي ذات الذريعة التي تمسكت بها معظم الحكومات العربية لبقائها في السلطة ومحاربة الديمقراطية واضطهاد شعوبها، رافعة الشعار الديماغوجي الزائف (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).
ولما استلم المؤلف مهام عمله كسفير في واشنطن، بدأت حملة ضد الحكومة العراقية وتجاوزاتها الفظة على حقوق الإنسان، وحملات إبادة الجنس، الأنفال وحلبجة وغيرهما، وكان على السفير بحكم عمله، أن يدافع عن سمعة الحكومة التي يمثلها، لذا وجد نفسه في موقف حرج، لأنه كان عليه أن يدافع عن سياسة لا يؤمن بها. فمن الواضح أنه كان يعرف في قرارة نفسه أنه يدافع عن قضية باطلة تتنافى مع ضميره، فيقول بهذا الصدد: "ولكن يجب أن أقولها صراحة إن موقفي الدفاعي كان كثيراً ما يحز في قلبي، إذ كان لا بد من تكذيب ما هو واقع فعلاً في العراق، أي إنني لم أكن مؤمناً بصدق ما أتحدث به. وكنت أقاسي من هذا الأمر، ولكن لم تكن لدي أية حيلة سوى السكوت أو محاولة تفسير ما لا أؤمن به، خاصة فيما يتعلق باستعمال العراق الأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد، وخروقات حقوق الإنسان المستمرة. وبالطبع فإني لم أكن مرتاحاً أبداً في الإستمرار في استعمال ما تورده لي وزارة الخارجية من توجيهات كمادة دفاعية في مواجهة الحملات الاعلامية." (ص 80-81).
وبعد قيام صدام بجريمة غزو الكويت في 2/8/1990، حيث أدخل العراق في أحلك فترة. ومعظم المذكرات تخص الأحداث التي وقعت بعد ذلك اليوم الأسود، وهي يوميات التيهئة للحرب التدميرية للعراق، ومساعي السفير لدرأ هذه المخاطر، ونشاطاته في واشنطن في هذا الخصوص، والنتائج التي توصل إليها، ومفادها أن الغرض من هذه الحرب هو تدمير العراق وإعادته إلى مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، وليس تحرير الكويت فقط.
وقد حاول إيصال هذه الرسالة إلى القيادة العراقية ولكن دون جدوى. إذ هناك صفة ملازمة لكل دكتاتور، في كل زمان ومكان، ألا وهي استبداد الدكتاتور برأيه الخاص وعدم السماح للآخرين بإبداء آرائهم في قضية مصيرية. فيقول المؤلف بهذا الصدد أنه قبل وقوع حرب تحرير الكويت بأسابيع، دعي مع بقية السفراء العراقيين في دول أعضاء مجلس الأمن الدولي إلى بغداد وتم اللقاء في الخارجية العراقية يوم 24 كانون الأول/ديسمبر 1990، حيث افتتح طارق عزيز، وزير الخارجية، الاجتماع بالترحيب ثم قال ما نصه: " نحن طلبنا قدومكم إلى بغداد ليكي تسمعوا منا، أي إننا لم نستدعكم لكي نسمع منكم عن الأزمة الحالية" ويعلق الدكتور المشاط : "لقد وقع قوله عندي وقع الصاعقة، إذ إنني كنت أتأمل أن أعرض حصيلة ما حصلت عليه من معلومات إنطلاقاً من واجبي كسفير إضافة إلى تحليلي الشخصي للحقائق التي حصلت عليها، والتي كنت قد كتبت فيها في السابق إلى الخارجية" (ص 156).
ثم يتحدث المؤلف عن لقاء السفراء مع صدام حسين، والإجراءات الأمنية المشددة، حيث تم نقلهم في سيارات خاصة إلى مبنى المجلس الوطني، فيقول: "وعند ترجلنا طلب منا التوجه إلى مكتب أحد الموظفين، حيث طلب من كل واحد منا ترك أي شيء يحمله في جيوبه، من مفاتيح أو ولاعات السجائر أو حتى الأقلام...." (ص157). وهذه الإجراءات الأمنية المشددة تكشف لنا مدى خوف صدام على نفسه حتى من سفرائه. وفي هذا اللقاء، أيضاً منع السفراء من طرح وجهات نظرهم في هذه القضية الخطيرة، مما يؤكد شعار الحزب (نفذ ولا تناقش).
كما ويطرح المؤلف في قسم (لماذا هذا الكتاب؟) الأسباب التي دعته لتأليف ونشر هذه المذكرات، فيطرح عشرات الأسئلة التي تدور في ذهن أي إنسان عراقي وعربي وغير عربي حول الأسباب التي دعت صدام حسين إلى قيامه بجريمة غزو الكويت، منها واقعية ومنها تقع ضمن نظرية المؤامرة. فيقول المؤلف: سيطلع القارئ على بعض التساؤلات التي حيرتني شخصياً منها مثلاً: هل أن صدام حسين ضحية فخ نصب له كي يقدم على احتلال الكويت، بغية توفير الفرصة الملائمة للأمريكيين لاحتلال منابع النفط في الخليج، بذريعة العدوان العراقي؟ أم هل كان هو شخصياً متواطئاً مع الإدارة الأمريكية ضمن مخطط جهنمي يتم بموجبه قيام أمريكا بإحتلال منابع النفط في الخليج، وبتدمير العراق كي لا تقوم للعرب أية قائمة في تحرير الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل بقائه في الحكم؟ ما هو دور اللوبي الصهيوني في استعداء الشعب الأمريكي ضد العراق؟ وكيف استخدموا صدام حسين كهدف لهجومهم، في حين أن هدفهم الأساس هو تدمير العراق؟ ما هو دور بريطانيا في دفع أمريكا باتجاه العمل العسكري ومن دون انتظار نتائج الحصار الاقتصادي لحمل العراق على الانسحاب من الكويت؟ ما هي أهداف الرئيس بوش الأب من الحرب؟ وكيف تم خدع الرأي العام الأمريكي في التهيئته للحرب والانتقال من من مرحلة الدفاع عن السعودية (عملية درع الصحراء) إلى مرحلة الهجوم (عملية عاصفة الصحراء)؟ وعشرات الأسئلة غيرها، يجيب عليها الكاتب من موقع مطلع وشاهد عيان.
ثم يشرح لنا لماذا قرر عدم العودة إلى العراق منذ بدء الحرب (عملية عاصفة الصحراء) وطلب الإحالة على التقاعد، "وفك ارتباطي بصدام حسين وشلته؟" على حد قوله، ولماذا رفض العروض التي حصل عليها من مختلف الجهات للإقامة فيها، مثل السعودية وأمريكا، واعتذاره عن قبول تلك الدعوات، ولماذ لم يقدم طلب اللجوؤ السياسي إلى كندا، بل طلب مجرد تأشيرة الدخول الخاصة بالمتقاعدين فقط. (ص 30-31).
كما وخصص المؤلف الفصل الحادي عشر والأخير، وهو أطول فصول الكتاب، للجواب على سؤال وضعه حول شخصية صدام حسين، بعنوان: صدام حسين، أهو بطل قومي أم عميل أمريكي – إسرئيلي؟ ويجيب على هذا السؤال بشيء من التفصيل، والتحليل العلمي ، ومن منظور علم الإجتماع وعلم الإجرام، وما عند المؤلف من معرفة بعلم النفس وعن الشحصية السايكوباثية، بشكل موضوعي، بعيداً عن النزعات العاطفية، مستشهداً بشهادات كتاب ومحللين أجانب فيما يخص شخصية صدام حسين وماضيه وعلاقاته المشبوهة بالمخابرات الأجنبية. أترك التفاصيل للقراء لكي لا أفسد عليهم ما سيكتشفوه بأنفسهم خلال قراءتهم للكتاب.
ومن هذه المذكرات، يبدو أنه مازال لدى المؤلف المزيد من المعلومات الجديرة بالنشر، إذ يعدنا بأنه سيتبع هذا الكتاب بكتاب آخر يعمل على تأليفه ونشره مستقبلاً. ونحن إذ نتطلع إلى ذلك لكي يتحفنا بالمزيد من هذه الشهادات.
لا شك أن هذه المذكرات تحتوي على معلومات مهمة وخطيرة تخص أحلك فترة مر بها العراق، أي فترة غزو الكويت، كُتبتْ بأسلوب شيق وواضح، ولغة عربية سليمة، دون حذلقات لفظية أو عبارات غامضة، تشد القارئ بالإستمرار في القراءة إلى النهاية. لذلك أعتقد أن الكتاب جدير بالقراءة وخاصة للمهتمين بالشأن العراقي، ولاشك أنه سيسد فراغاً في المكتبة العربية.
عنوان الكتاب: كنت سفيراً للعراق في واشنطن (حكايتي مع صدام في غزو الكويت)
المؤلف: الدكتور محمد المشاط
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
سنة الإصدار 2008
عدد الصفحات 296 من الحجم الكبير.