د. عبدالخالق حسين
الأحد 6/ 4 / 2008
هل حقاً فشل المالكي في حربه على المليشيات؟د. عبدالخالق حسين
عندما بدأ رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي عملية (صولة الفرسان) في مواجهة مليشيات جيش المهدي لاستعادة الأمن وفرض حكم القانون في محافظة البصرة، نشرتُ مقالاً بعنوان: (عملية "صولة الفرسان" اختبار للمالكي والجيش العراقي). والآن خفَّت العملية وعاد المالكي إلى بغداد، والوضع ملتبس وغير واضح للكثير من الناس إلى حد أن راح خصومه يتبادلون التهاني على "فشله"، بينما يرى آخرون من أنصار حكم القانون، أن المعركة لم تنته بعد، وأن المالكي حقق نجاحات لا يستهان بها وفي طريقه إلى تحقيق المزيد. وعليه نسأل، ماذا حصل؟ هل نجح المالكي أم فشل في هذه المعركة ؟
بدءً، لنفرض جدلاً، أن المالكي قد فشل كما يتمنى أعداء الاستقرار في العراق، وهم يتعللون بالكثير من المؤشرات التي تسند ادعاءاتهم، فيقولون مثلاً أن العملية فشلت في حل المشكلة وفاقمتها. فبعد عشرة أيام من المعارك الدامية، "أمر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بوقف كافة العمليات ضد من وصفهم بحاملي السلاح في العراق" ويرى هذا البعض في عودة المالكي إلى بغداد إذعاناً لمطالب مقتدى الصدر، قائد جيش المهدي، وأن عصابات الجريمة المنظمة مازالت تعيث في البلاد فساداً.
وهنا نود أن نسأل: إذا كان هناك فشل، فمن المسؤول عنه؟ وبعبارة أخرى، الهزيمة هي هزيمة من؟ هل القيام بفرض حكم القانون من مسؤولية المالكي وحده أم مسؤولية الجميع؟ وهل إذا انتهت العملية بالهزيمة فعلاً، هي هزيمة المالكي وحده أم هزيمة الجميع؟
نظرياً، من السهل القول أن السيد المالكي هو وحده يتحمل المسؤولية، لأنه هو رئيس الحكومة، وهو الذي قاد العملية، فالهزيمة إذنْ هي هزيمته وهزيمة القوات العراقية المسلحة. أعتقد أن المشكلة وليست بهذه البساطة، وهي أعقد مما يتصور البعض. ولمعرفة أسباب "الفشل" نحتاج إلى بحث منصف وبروح من المسؤولية الوطنية العالية، بعيداً عن العواطف والتحيز وروح الشماتة. فلو توخينا الحقيقة والنزاهة والإنصاف لرأينا أن الجميع شركاء فيما حدث، والجميع يتحملون تبعات الهزيمة والفشل، وليس المالكي وحده. فالمالكي حاول وإن فشل فلأن خذله الجميع، وسأوضح ذلك أدناه.
درس من التاريخ
يخبرنا تاريخ العراق الحديث أنه بعد تأسيس الدولة العراقية الأولى عام 1921 على أيدي البريطانيين، صرح المرحوم الملك فيصل الأول للمقربين إليه في الحكم، أن الدولة تعيش وضعاً حرجاً جداً، فعدد قطع السلاح التي تملكها القوات الحكومية لا يتعدى 15 ألف، بينما تملك العشائر نحو مائة ألف قطعة. ولذلك حذر الملك أنه في حالة وقوع تمرد عشائري ضد الحكومة في أكثر من مكان في وقت واحد، فليس بإمكان الدولة مواجهة هذه التمردات.
الوضع الحالي في الدولة العراقية الثانية التي تأسيست يوم 9 نيسان/أبريل 2003 على أنقاض دولة البعث الصدامي، هو أسوأ وأخطر بكثير مما كان عليه في العشرينات من القرن الماضي. ففي ذلك الوقت لم تكن أسلحة العشائر فتاكة كما هي اليوم عند المليشيات، ولم تكن الأحزاب السياسية تعاني من صراعات دموية فيما بينها، ولم تكن لها مليشيات مسلحة بأسلحة متطورة تدعمها قوى أجنبية حاقدة، ولا مفخخات يمكن تفجيرها عن بعد بالريموت كونترول، ولا عصابات القاعدة والألوف من الانتحاريين العرب المصطفين في طابور طويل، كل ينتظر دوره بلهفة في الدخول إلى الجنة والزواج بحور العين من خلال قتل العراقيين، ولا دول جوار تحمل كل هذا الحقد الأعمى على العراق مصممة على إفشال العملية السياسية وتحويل أرضه إلى ساحة حرب مع أمريكا بالوكالة وبدماء العراقيين. ومن هنا نعرف خطورة الموقف، وضخامة المشكلة التي تواجهها الحكومة العراقية اليوم والتي تقصم ظهر البعير كما تقول العرب.
لماذا تعتبر الهزيمة هي هزيمة الجميع؟
بالتأكيد يتحمل السيد نوري المالكي حصة الأسد من تبعات الهزيمة، فيما لو كانت هناك هزيمة بالمعنى الصحيح، لأنه رئيس الحكومة، والقائد العام للقوات المسلحة، وهو الذي أتخذ القرار دون معرفة أكيدة بقوة الخصم. ولكن رغم كل ذلك، فمن الخطأ تحميل المالكي وحده مسؤولية الهزيمة، إذ هناك شركاء فيها ومن بينهم:
أولاً، وزير الدفاع الذي صرح منذ بداية العملية أنهم فوجئوا بقوة المليشيات المسلحة المتمردة، وبكميات الأسلحة الفتاكة التي كانت تملكها، والتي فاقت تصوراته وقدرات الجيش. وهذا يعني قصور فضيع في الاستخبارات والاستطلاعات الميدانية لمعرفة قوة العدو ومخططاته.
ثانياً، كذلك هي هزيمة الجيش العراقي وفشله في هذا الامتحان، لأنه كما "نسبت وكالة رويترز للانباء الى متحدث باسم وزارة الدفاع العراقية قوله: "أن نحو ألف جندي وضابط عراقي فروا من الجيش خلال المعارك في البصرة"، إضافة إلى انضمام العشرات من الجنود والضباط إلى جيش المهدي. وهذا دليل على أن الجيش العراقي مازال ملغوماً ومخترقاً من قبل المتسللين من المليشيات والمتخاذلين، ولم يتم تطهيره بعد، وهو غير قادر على مواجهة المليشيات وفرض حكم القانون دون دعم من قوات التحالف الدولي.
ثالثاً، كذلك هي هزيمة قادة الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة. ففي الوقت الذي تنتقد هذه الأحزاب الحكومة لغياب الأمن وتطالبها بفرض حكم القانون واستتباب الأمن في البلاد، كما وكان قادة جبهة التوافق السنية تتهم المالكي بالطائفية والتحيز للمليشيات الشيعية...الخ، ولكن ما أن بدأ المالكي حملته ضد المليشيات الشيعية حتى وتعالت صيحات هؤلاء القادة مطالبين بعدم اللجوء إلى العنف، بل حل الصراع بالوسائل السلمية و"العقلانية"، ودون أن يشاركوا بهذه الوسائل السلمية، علماً بأن الحكومة مارست سياسة المفاوضات لسنوات عديدة ولكن دون جدوى. وموقف هؤلاء يذكرنا بما قالت اليهود لنبيهم موسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون". وليتهم اكتفوا بالقعود على التل فقط، بل وشاركوا في التأليب على الحكومة بدلاً من دعمها. والغرض من موقفهم هذا هو استغلال الصراع الدموي بين الحكومة ومليشيات الصدر كفرصة سانحة لهم لإسقاط الحكومة وتحقيق مكاسب شخصية وفئوية ضيقة على حساب المصلحة الوطنية. وهذا الموقف يعكس مدى التخلف الفكري الذي تعيشه القيادات السياسية في عراق ما بعد صدام، وهو بالطبع جزء من التركة الثقيلة التي خلفها البعث. فهم يعتقدون خطأً أنه بمجرد مجيء شخص آخر غير المالكي إلى الحكم ستحل المشكلة وسينعم العراق بسلام واستقرار. أعتقد أنهم على خطأ، لأن هؤلاء القادة هم مشاركون في السلطة وليس بإمكانهم التنصل من مسؤولياتهم بمجرد التفرج على الجريمة.
رابعاً، إذا كانت هناك هزيمة فهي هزيمة جميع العراقيين، لأن الجميع يطالبون بالأمن، ولكنهم في نفس الوقت يرفضون دعم الحكومة والمشاركة في تحقيقه ومواجهة عصابة الجريمة.
خامساً، ما نشاهده من شعبية واسعة لمقتدى الصدر، بحيث صار بإمكانه تحريك الملايين من أبناء الشعب بإشارة من إصبعه الصغرى كما يريد، لدليل واضح على الانحطاط الفكري والثقافي، والدرك الأسفل الذي انحدر إليه المجتمع العراقي خلال حكم البعث. ففي الدول المتقدمة، إذا ما تمرد شخص على القانون، يقدمونه إلى المحاكم ويحكم عليه بالسجن. بينما في عراق اليوم، المجرم الذي يرتكب أبشع الجرائم، مثل قتل السيد عبدالمجيد الخوئي ومرافقين له في الصحن الحيدري والتمثيل بجثثهم، ويتسبب في قتل مئات الألوف من العراقيين، وبؤس الملايين وحرمان الشعب كله من الأمن والاستقرار، يتحول هذا المجرم المتخلف عقلياً في نظرهم إلى قديس ووسيط بينهم وبين الله، مكتسباً الصفات الألوهية، فيعبدونه ويعتبرون الخروج على أوامره خروجاً على الله وطاعته.
لذا فما الذي يستطيع رئيس الحكومة عمله في مثل هذه الأوضاع الخطيرة، حيث الشعب غارق في الخرافة، وقواته المسلحة أضعف من مليشيات الأحزاب وغير منضبطة، وقادة الأحزاب السياسية تشارك في هزيمة الدولة وتحث الخطى في قياد الشعب نحو الهاوية؟
الشركاء في الجريمة
لا شك أن هناك شركاء كثيرون في الجريمة المستمرة ضد الشعب العراقي ومنهم كما يلي:
أولاً، لدينا اعتقاد جازم أن معظم دول الجوار تريد عراق ما بعد صدام أن يكون ضعيفاً مفككاً وحكومته المركزية ضعيفة لا حول لها ولا قوة. وعلى رأس هذه الدول هي حكومة إيران الإسلامية وحليفتها سوريا البعثية. فهذه الدول لا تريد نجاح الديمقراطية في العراق، ولا تريد ازدهاره الاقتصادي خوفاً من أن يصير العراق الديمقراطي المزدهر نبراساً في المنطقة يثير مطالبة شعوبها بالديمقراطية، لذلك تساهم هذه الدول في خلق الفوضى العارمة في العراق لتقول لشعوبها (هذه هي الديمقراطية الأمريكية، فأبقونا جاثمين على صدوركم، أفضل لكم من هذه الديمقراطية بلا أمن).
ثانياً، قادة المليشيات المسلحة هم شركاء في الجريمة، وبالأخص جيش المهدي، لأن مليشياتهم صارت مرتعاً لعصابات الجريمة المنظمة في القتل والسرقة واختطاف الأبرياء وفرض الديات وتهريب النفط وتدمير مؤسسات الدولة. فخلال الأيام الأولى من عملية (صولة الفرسان) قامت عصابات جيش المهدي في البصرة بتدمير أكثر من مائتي محطة كهرباء ثانوية، وهدم المئات من الأعمدة الحاملة للتيار الكهربائي. فيا ترى من المتضرر من هذه الأعمال الإجرامية، قوات الاحتلال التي يدعون محاربتها، أم الشعب العراقي الذي يدعون حمايته؟ أليس هذا هو عمل تخريبي لا يقوم به إلا غلاة البعثيين؟
الخير يولد من رحم الشر
ورغم كل ما حصل من كر وفر في محاولة السيد المالكي لبسط حكم القانون في العراق، إلا إن هناك مؤشرات تفيد أن هذه المحاولة أدت إلى نتائج ثمينة في صالح الشعب العراقي، منها تغيير مواقف العديد من قادة التيارات السياسية، وإعادة النظر في المواقف الخاطئة التي اتخذها هؤلاء ضد المالكي وحكومته في السابق، وخاصة قادة جبهة التوافق، وتضييق الفجوة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وذلك وفق الحكمة (رب ضارة نافعة). فهناك عدة مؤشرات لصالح الوضع ولصالح المالكي وحكومته، ودعم مساعيه في حل المليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، وفرض حكم القانون، ومن هذه المؤشرات ما يلي:
أولاً، بيان رئاسي عراقي يدعو الى التهدئة وحل المليشيات : فقد دعا المجلس الرئاسي للأمن الوطني في العراق، والمكون من الرئاسات الثلاث، الجمهورية والحكومة والبرلمان، في بيان له، كافة الأحزاب والكيانات السياسية إلى "حل ميليشياتها فورا وتسليم أسلحتها للدولة والتحول الى النشاط المدني السلمي كشرط للاشتراك في العملية السياسية والانتخابات". وهذا انتصار للمالكي وحكومته، فلأول مرة يتحد أعضاء هذا المجلس إزاء المليشيات. وهذه ثمرة من ثمار عملية (صولة الفرسان) في البصرة. كما "وحث المجلس الكيانات السياسية المنسحبة على ترك اختلافها وإعادة النظر بموقفها في العودة العاجلة للحكومة". وأدان البيان ما وصفه بـ "التدخل الخارجي في الشأن العراقي، داعيا المجتمع الدولي لمساعدة العراق في ردع الدول المجاورة التي ما زالت تتدخل في شؤونه الداخلية وتعمل جاهدة على زعزعة استقراره وأمنه". ورغم أن البيان لم يشر صراحة إلى تلك الدول إلا إن إيران وسوريا هما اللتان تتدخلان بالشأن العراقي بمنتهى الوقاحة والصراحة.
ثانياً، موقف المالكي المناهض للمليشيات الشيعية وغير الشيعية أبطل التهم من قادة جبهة التوافق السنية له بالطائفية، كما وحصل دعم هؤلاء القادة وعلى رأسهم السيد طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الإسلامي، الذي أعلن أنه يجب ترك خلافاتهم الجانبية والتركيز على مصلحة العراق.
ثالثاً، كما وأعلن السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان تأييده للمالكي في حل المليشيات، حيث أرسل قوات من البيشمركة لدعم القوات العراقية في البصرة. وهذا موقف مشرف منه يدعم مصلحة العراق. كما ونقلت الأنباء تصريحاً للنائب الكردي البارز في البرلمان المركزي الدكتور فؤاد معصوم، قوله، "أن أحداث البصرة ساعدت على تضييق الفجوة بين الحكومة المركزية وحكومة كردستان"
الخلاصة والاستنتاج
ومن كل ما تقدم، نستنتج أن المالكي لم يفشل في عملية (صولة الفرسان) ومحاربة المليشيات، بل حقق نجاحاً لا يستهان به، خاصة في دفع قادة القوى السياسية بترك خلافاتهم الثانوية، وتبني مواقف إيجابية من حكومة الوحدة الوطنية، وإصدار البيان المجلس الرئاسي بإلزام الأحزاب السياسية بحل مليشياتها. وبذلك فإن المالكي نجح في فرض نفسه كزعيم وطني فوق الطائفية والعنصرية، وأنه يسعى للقضاء على الخارجين على حكم القانون من عصابات الجريمة المنظمة والمليشيات المسلحة بغض النظر عن انتماءاتها الطائفية والأثنية.