د. عبدالخالق حسين
الأربعاء 4/ 2/ 2009
أهمية انتخابات مجالس المحافظات العراقيةد. عبدالخالق حسين
للانتخابات الأخيرة التي جرت في العراق يوم 31/1/2009 لاختيار أعضاء مجالس الحكومات المحلية أهمية كبيرة، لذلك حضت باهتمام بالغ من قبل السياسيين في العالم، والرأي العام العالمي المتمثل في وسائل الإعلام، ومراقبة دولية، إضافة إلى مراقبة الأمم المتحدة المتمثلة بمندوبها السيد ستيفان ديمستورا وطاقمه. فهذه الانتخابات حملت معها حزمة من المؤشرات لتقييم أداء الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، والسيد نوري المالكي بالذات، ولمعرفة مدى نجاح أو فشل العملية السياسية والديمقراطية الناشئة في بلد لم يعرف شعبه الديمقراطية من قبل، حيث كان ضحية أسوأ حكم جائر عرفه الاستبداد الشرقي الأبوي طوال تاريخه الدامي، وخاصة خلال الأربعين عاماً من الحكم الشمولي البعثي الفاشي.
والجدير بالذكر، أن رشح لخوض هذه الانتخابات أكثر من 14400 مرشح من 401 كيان سياسي، تنافسوا على 440 مقعداً موزعاً على 14 محافظة من مجموع 18، أجريت بإشراف أكثر من 60 ألف مراقب، بمن فيهم مراقبين دوليين ومن الجامعة العربية، إضافة إلى مراقبة ممثلي القوائم المشاركة، وبحماية نحو نصف مليون من القوات المسلحة ورجال الأمن. وباعتراف المراقبين الدوليين كانت هذه الانتخابات نزيهة.
ورغم عدم إعلان النتائج الرسمية لحد كتابة هذه السطور في يوم 4/1/2009، إلا إن هناك نتائج أولية غير رسمية يمكن الاعتماد عليها في الحكم على هذه الانتخابات، وما ذا تعني للمحلل السياسي، وعليه ووفق المعطيات المتوفرة نستنتج ما يلي:
1- إن الشعب العراقي قد حسم أمره في موقفه من النظام الديمقراطي حيث أقر الديمقراطية ونبذ النظام الاستبدادي الشمولي. فخلال السنوات الأربع الماضية، ورغم الظروف الأمنية الصعبة، أصر هذا الشعب على خوض أربع عمليات تصويت، اثنتان برلمانية، واستفتاء على الدستور، والأخيرة لاختيار أعضاء مجالس المحافظات، كلها تمت بنجاح منقطع النظير، إذ كانت الانتخابات هذه عبارة عن دورات تدريب للشعب العراقي على فهم قواعد اللعبة الديمقراطية وتجذرها. وفي جميع هذه العمليات كانت نسبة المشاركة عالية وفق جميع المقاييس. أما نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة فكانت نحو 51%، وقد تبدو هذه النسبة واطئة قياساً إلى النسب السابقة، ولكن يجب أن لا ننسى أنه حتى في الدول الديمقراطية العريقة تكون المشاركة في انتخابات الحكومات المحلية لا تتجاوز الـ 40% في أحسن الأحوال.
2- كانت المشاركة كثيفة في المنطقة التي سميت بـ(المثلث السني) التي كانت المشاركة فيها ضعيفة جداً في الانتخابات السابقة، لأنها كانت منطقة ساخنة وتحت سيطرة الإرهابيين، ففي محافظة صلاح الديني (تكريت) مثلاً، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة 65%. والسبب هو أن توصل الأخيار من رؤساء العشائر في هذه المنطقة منذ عام 2006 إلى قناعة أن الإرهابيين يريدون الشر بهم وبالعراق، لذلك كانت حركة صحوة العشائر العربية التي قامت بتنظيف المنطقة من الإرهابيين، فقرروا إعمال العقل والمشاركة في العملية السياسية، واستخدام صناديق الاقتراع في تحقيق الحقوق بدلاً من الرصاص والتفجيرات وقتل الأبرياء.
3- حكم الشعب على إفشال ورقة استغلال الدين والشعائر المذهبية للأغراض السياسية، ففي الرمادي انحسرت مكانة الحزب الإسلامي (الأخوان المسلمون) لصالح مرشحي الصحوة. وفي المناطق الشيعية، دخلت "قائمة شهيد المحراب التي تتألف من المجلس الإسلامي الأعلى، بزعامة عبد العزيز الحكيم، ومنظمة بدر - الجناح العسكري السابق للمجلس، وحزب الله وحركة سيد الشهداء وبعض القوى المستقلة، قد دخلت بكل ثقلها في محافظات وسط وجنوب العراق في الانتخابات، إلا أنها لم تحصد ما حصدته قائمة (إئتلاف دولة القانون) التي ابتعدت عن الصبغة الدينية، ويرأسها رئيس الوزراء نوري المالكي، وهي التي تتألف من حزب الدعوة، وحزب الدعوة - تنظيم العراق، والحزب التركماني الإسلامي، بحسب النتائج الأولية (تقرير الشرق الأوسط). كما وكانت هناك مناطق مغلقة في بغداد للأحزاب الإسلامية في الانتخابات السابقة، اقتحمتها الأحزاب العلمانية في الانتخابات الأخيرة وحققت نجاحات واسعة.
4- ونظراً لعلم قادة الأحزاب الدينية بفشل مشروع زج الدين بالسياسة، وفشلهم في حل مشاكل الشعب وفق منظور الإسلام السياسي، ونبذ الشعب لاستخدام الورقة الدينية، فقد خاضت بعض القوى الإسلامية الانتخابات تحت أسماء علمانية. ففكما ذكرنا أعلاه دخلت قائمة حزب الدعوة مثلاً باسم (إئتلاف دولة القانون)، وكذلك فعل التيار الصدري باختيار قائمة «الأحرار المستقلون». وهذه نقلة نحو الحكم المدني ونبذ الحكم الديني الطائفي.
5- حقق العلمانيون تقدماً ملحوظاً في هذه الانتخابات، وخاصة في محافظة البصرة وبغداد، ومن المؤشرات الأخرى على الابتعاد عن الأحزاب ذات الصبغة الدينية، تمكن رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي من البروز مجدداً في مواقع متقدمة في محافظتين شيعيتين وأخرى سنية على الأقل. (نفس المصدر).
6- كانت الانتخابات مؤشراً لحكم الشعب العراقي على أداء السيد نوري المالكي شخصياً خلال الثلاث سنوات الأخيرة من رئاسته للحكومة، حيث حققت قائمته (إئتلاف دولة القانون) نجاحاً باهراً رغم حملة (قائمة شهيد المحراب) المنافسة له، والتي حاولت تشويه صورة حزب الدعوة الذي يقوده المالكي، فاتهمته بمعاداة شعائر الطائفة الشيعية مثل اللطم والتطبير والزحف على البطون وغيرها من الطقوس الوثنية التي أدانها معظم رجال الدين الشيعة الكبار خلال القرن الماضي وإلى يومنا هذا. إلا إن هذه اللعبة لم تنطل على الجماهير الشيعية، فصوتت الغالبية لصاح قائمة المالكي وخسرت قائمة شهيد المحراب. ولهذا الموقف الشعبي دلائل إيجابية عظيمة تشير إلى بدء يقظة الشعب وافتضاح أمر اللاعبين بالورقة الطائفية.
7- برز السيد نوري المالكي كقائد سياسي وطني فوق التحزب الديني والطائفي، أقرب إلى العلمانية أو الحكم المدني منه إلى حكم ديني رغم أن حزبه (الدعوة) إسلامي، فنجاح قائمته هو مكافئة الناخبين له على ما حققه في مجال الأمن عندما تعرض للمليشيات الشيعية في البصرة ومدينة الثورة والمحافظات الأخرى وانتصر عليها، حيث حقق نجاحاً باهراً في تقليم أظافر هذه المليشيات وإعادة حكم القانون.
8- كما وأفادت وكالات الأنباء أن هذه الانتخابات كشفت التطور الإيجابي الذي حصل في القوات الأمنية العراقية وقدراتها، ونموها بوتيرة متسارعة في التجهيز والاستعداد لتحمل المسؤولية وأداء الواجب في حفظ الأمن وسلامة الشعب. إذ كتب صحفي غربي قائلاً، إذا تسافر اليوم من زاخو إلى البصرة فلم تجد أي موكب من مواكب الجيش الأمريكي كما كان في السابق، وأن المنطقة الخضراء في بغداد هي الآن تحت سيطرة القوات العراقية. وهذا ما يساعد على تسريع سحب القوات الأمريكية من العراق.
9- رفض الشعب العراقي مشروع السيد عبدالعزيز الحكيم، زعيم المجلس الإسلامي الأعلى، الداعي إلى فيدرالية الجنوب. وهذا رد حاسم على دعاة تمزيق العراق إلى كيانات هزيلة تحت واجهة الفيدرالية، ليسهل ابتلاعها من قبل دول الجوار وخاصة إيران. كما وإن فوز قائمة المالكي على قائمة الحكيم لدليل قاطع على رغبة الشعب في حكومة مركزية قوية تستطيع حماية البلاد من عبث عصابات الجريمة المنظمة في الداخل و العدوان الخارجي، على خلاف الذين يطالبون بإضعاف الحكومة المركزية بحجة الخوف من عودة الديكتاتورية. إنه قول حق يراد به باطل.
10- فضحت هذه الانتخابات التدخل الإيراني الفج في الشأن العراقي حيث حاول القنصل الإيراني دخول أحد المراكز الانتخابية في البصرة بصورة غير قانونية. إذ صرح عضو المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، قائلا «بالفعل تم إخراج القنصل الإيراني من المركز الانتخابي، وقد راح يتجول بسيارته على بقية المراكز الانتخابية من غير أن يتمكن من الدخول إليها». وقد أجمعت كيانات سياسية عراقية على رفض هذا التدخل، مطالبين باتخاذ الإجراءات اللازمة ضده. كما ووصفت الخارجية العراقية تصرف القنصل الإيراني في البصرة بأنه «غير مقبول، ومنافٍ للأعراف الدبلوماسية». (تقرير الشرق الأوسط، 1/2/2009).
11- خلافاً لما روج له الإعلام العربي وأعداء تحرير العراق من الفاشية البعثية، تشير هذه الانتخابات إلى نجاح مشروع الرئيس جورج دبليو بوش في زرع الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، بادئاً بالعراق، وما نجاح الديمقراطية في العراق إلا أول الغيث. وهو رد بليغ على أعداء العراق والديمقراطية والرئيس بوش. فهؤلاء حاولوا دائماً عرقلة المشروع وإفشاله بشتى الوسائل من إرهاب وحملات إعلامية بإظهاره كما لو أنه فشل فعلاً ولا أمل في بث الحياة فيه، ذلك من أجل تخويف شعوبهم من "شرور" الديمقراطية في بلدانهم!! ولكن في نهاية المطاف نجح المشروع بامتياز.
وختاماً، نتمنى على قادة الكتل السياسية الذين شاركوا في هذه الانتخابات أن يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية في التعامل مع النتائج بروح رياضية عالية، ويتقبلوها بصدر رحب ليعطوا للعالم انطباعاً أن السياسي العراقي قد بلغ سن النضج، وأن الديمقراطية قد تجذرت في المجتمع العراقي خلال فترة قياسية، وصار المواطن العراقي يتعامل معها بقناعة تامة ويرضى بنتائجها ومهما كانت. لذا نرجو من الذين لم يحالفهم الحظ بالفوز هذه المرة أن يقدموا التهنئة إلى الفائزين، وأن هذه الانتخابات هي ليست نهاية التاريخ، وما السنوات الأربع القادمة التي يحكم فيها الفائزون إلا مرحلة اختبار لهم وتحت مراقبة شديدة من الناخبين لامتحانهم في مدى تحقيق ما وعدوا به من وعود في خدمة الشعب.