د. عبدالخالق حسين
الأربعاء 4 /1/ 2006
نتائج الانتخابات العراقية والاستقطاب الطائفي
د. عبدالخالق حسين
إن سياسة النعامة في دس رأسها في الرمال هي السياسة المتفق عليها ويتبعها العرب في كل مكان، حكومات ومؤسسات المجتمع المدني والرأي العام أو ما يسمى بالشارع العربي، والعراق ليس استثناءً. فهؤلاء جميعاً يرفضون كشف الحقائق ومعرفتها كما هي، لأنهم جميعاً خلقوا لأنفسهم عوالم مختلفة في مخيلاتهم وصوّروها كما يتمنون ويشتهون حتى ولو كانت هذه التصورات خاطئة، أشبه بالمدمنين على تعاطي المخدرات هروباً من الواقع المزري. والويل لمن يحاول أن يكشف لهم الحقيقة المخالفة لتصوراتهم، ذلك لأنهم يفضلون العيش في الأحلام بدلاً من الواقع.
أجل، يرفض العرب الإحصائيات ونتائج الانتخابات وعمليات استطلاع الرأي، خاصة إذا ما جاءت الأرقام مخالفة لتصوراتهم وتوقعاتهم. فعندها، وبدلاً من إعادة النظر في حساباتهم، يصرخون بالويل والثبور وعظائم الأمور، رافضين هذه الأرقام ويشتمون الجهات التي توصلت إليها ويتهمونها بالزيف ويعملون على تجريدها من المصداقية وبالتالي تصفيتها، كما نلاحظ ذلك في الحملة ضد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لحد الآن لا توجد في البلاد العربية أية إحصائية علمية معتمدة لمعرفة مكونات الشعوب العربية، الأثنية والدينية والمذهبية. فهذه تعتبر سر من أسرار الدولة، وكشفها يهدد أمن الأمة ويعرضها للخطر! كيف لا والأمة مهددة بالخطر من قبل الصهيونية والاستعمار والصليبية الحاقدة!!. فليست لدينا إحصائيات حتى عن الأمراض التي تسبب الوفيات، وحتى إن وجدت فهي تخمينية مستنسخة من دول مجاورة ومن الجهات الأجنبية. وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لديها إحصائيات موثقة عن شعبها في معظم المجالات.
ليس في العراق من لا يستنكر الطائفية، ولكن في نفس الوقت ليس في العراق من لا يمارسها بشكل وآخر ولمئات السنين ولو بدرجات متفاوتة. وقد بلغت الطائفية الذروة الآن نتيجة الظلم الفظيع الذي أنزله النظام البعثي الفاشي الساقط على مختلف مكونات الشعب لأسباب عرقية وطائفية لما يقارب 35 عاماً من حكمه الجائر. أجل، الطائفية يمارسها الجميع، بمن فيهم العلمانيون. إنها أشبه بالماكيافيلية، (الغاية تبرر الوسيلة) الكل يمارسونها ولكن في نفس الوقت يشتمون مؤسسها مايكيافيلي ليل نهار، وهو بالمناسبة، يعتبر مؤسسا لعلم السياسة.
بعد سقوط النظام البعثي الفاشي في العراق انفجر الخرّاج الطائفي وراح يقذف قيحه المتعفن المحتقن لقرون. لم نكن نتصور أن الحقد بين مكونات الشعب العراقي قد بلغ إلى هذا الحد بحيث يحصل القتل على الهوية المذهبية وتهبط قيمة الإنسان إلى ما دون قيمة الحشرة. لقد صار كل شيء في العراق، من تشكيل الوزارة مروراً بالبرلمان إلى تشكيل الفرق الرياضية وفق المحاصصة الطائفية. وفي هذه الحالة راحت كل طائفة تدعي لنفسها رقماً أعلى بكثير من حجمها الحقيقي في الشعب. فالشيعة يشكلون 60-70% والسنة العرب نحو 50% كما يدعي الأكراد أنهم أكثر من 25% وهكذا التركمان وغيرهم من أثنيات والطوائف. وإذا جمعنا هذه النسب فقد تصل إلى 200% وهي نسبة غير ممكنة في علم الرياضيات. ولهذا كتبت قبل عام مقالاً بعنوان ( مقترحات حول الإحصاء السكاني القادم في العراق) طالبت فيه أن تحتوي استمارة الإحصاء القادم على حقول خاصة بالانتماء العرقي، والديني والمذهبي، ولو لمرة واحدة، من أجل الإحصاء فقط ولوضع حد للتخمينات والادعاءات الباطلة، ومنع ذكر هذه الانتماءات في الهوية الشخصية لكي لا يتعرض المواطن إلى أي شكل من أشكال التمييز في الوظائف وغيرها. وعندها ثارت ثائرة البعض من جميع الأطراف، بحجة أن التطرق إلى هذه الانتماءات في الإحصاء سيؤجج الصراعات العرقية والطائفية ولا داعي لها. في الحقيقة إن هذه الصراعات هي مؤججة أصلاً ودفن الأرقام لا يحل المشكلة بل يساعد على تأجيجها أكثر. إن سبب رفضهم لمعرفة الأرقام الحقيقية عن نسبة مكونات الشعب ناتج عن خوفهم الشديد من أن تثبت خلافاً لتصوراتهم وبالتالي تحطم أحلامهم وتضع حداً لتخميناتهم وتخرصاتهم.
ونتيجة لمساوئ عدم وجود الأرقام الحقيقية عن مكونات الشعب العراقي، نعيش الآن هذه الأزمة التي تهدد الانتخابات البرلمانية الأخيرة حيث راح البعض الذين جاءت النتائج ليس بمستوى توقعاتهم، يشككون بنتائجها متهمين مفوضية الانتخابات بالتزوير ورفعوا عقيرتهم صارخين ومهددين بالحرب الأهلية. وهذا ليس بالأمر الغريب في هذا البلد غير الأمين، خاصة وأن الشعب العراقي لم يتعود على اللعبة الديمقراطية بعد، إذ لم نتوقع من الخاسر في الانتخابات أن يرفع سماعة التلفون ويقدم لمنافسه الفائز التهنئة بفوزه ويتقبل الهزيمة بروح رياضية عالية كما هو المعتاد في البلدان الديمقراطية العريقة في الغرب.
نعم، كانت الانتخابات عبارة عن عرس الديمقراطية وقد باركها الشعب العراقي الذي كسب إعجاب العالم بمشاركته العالية بنسبة فاقت 70% رغم تهديدات الإرهابيين لهم بالموت. كذلك تلقت هذه الانتخابات الترحيب من المراقبين الدوليين حيث قالوا أن "الانتخابات العراقية استجابت للمقاييس الدولية". كما أشاد كل من الأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي انان ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بها وبجهود المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وفرق الأمم المتحدة الموجودة في العراق لإجراء التحقيقات اللازمة في جميع الشكاوى المتعلقة ... (راديو سوا في 30/12/2005). كما "وصفت إحدى افتتاحيات «نيويورك تايمز» الانتخابات العراقية بأنها «نجاح باهر» و«انتصار كاسح ومفرح جدا». وعلى موقع خاص بأعوان أبو مصعب الزرقاوي رجل القاعدة في العراق، جاء تحذير من أن ما حدث في الأسبوع الماضي قد يترك الإرهابيين بدون «أي سبب للاستمرار في الجهاد». (أمير طاهري، الشرق الأوسط، 23/12/2005).
ولكن هناك جهات هدفها ذبح فرحة الشعب ووضع العراقيل أمام العملية السياسية من أجل إفشالها لأنها تعرف أنها لا تستطيع تحقيق أغراضها عن طريق صناديق الاقتراع فتلجأ إلى الإرهاب وتجريد الانتخابات من مصداقيتها والتهديد بالحرب الأهلية. لذلك أثار هذا البعض ضجيجاً عالياً ضد نتائج الانتخابات لأنها جاءت مخالفة لتوقعاتهم ولإنهم يريدون تحويل العرس الديمقراطي إلى مأتم على طريقة الانتحاريين الإرهابيين. إذ يبدو أن هناك رغبة جامحة عند هؤلاء لحرب أهلية أو (كونة أخرى) على حد تعبير صدام حسين، وهم يسعون بكل حماس لتحقيق هذه الرغبة وكأنهم فرق رياضية يسعون للمشاركة في سباقات الدورة الأولمبية. إنهم يرقصون رقصة الموت، يسيرون نحو الهاوية وهم نيام.
وتكملة لمقال سابق لي بعنوان ( نتائج الانتخابات العراقية بين الرفض والقبول ) ومرور أكثر من أسبوعين على إجراء هذه الانتخابات، وبعد أن هدأت العاصفة ضدها نسبياً وإعلان ما يقارب ال 90% من النتائج، فقد آن الأوان لإعادة النظر فيها، خاصة على ضوء الأرقام والمعلومات المتوفرة فيمكن تحليل النتائج الآن بشكل أفضل.
هناك اتهامات بخروقات وانتهاكات موجهة خاصة نحو لائحة (الإئتلاف العراقي الموحد) الشيعية إثناء الحملة الانتخابية مثل استخدام أسماء المراجع الدينية وحصول العنف إلى حد القتل وتمزيق بوسترات اللوائح المنافسة...الخ. هذه الاتهامات أغلبها صحيحة ولكنها متوقعة في بلد حديث العهد بالديمقراطية مثل العراق حيث تعصف به موجات العنف. كذلك يجب أن نعترف أن هذه الخروقات قد تحصل حتى في البلدان العريقة بالديمقراطية ولو بشكل أخف حيث تأخذ أحياناً الحملات الانتخابية منحىً قذراً من أجل تشويه سمعة المنافسين وكسب أصوات الناخبين. إلا إن هذه الأعمال رغم لاإخلاقيتها فإنها لا يمكن أخذها ذريعة في التشكيك بالنتائج والمطالبة بإلغائها وإعادة الانتخابات.
كما ذكرت مراراً، إن الشعب العراقي يعيش الآن، شئنا أم أبينا، حالة من الاستقطاب العرقي والطائفي، فالمشاعر القومية والطائفية مشتعلة وسائدة على الشارع العراقي. وهذه مرحلة عصيبة لا بد منها بعد سقوط الفاشية. وفي هذه الأحوال تجد القوى العلمانية الديمقراطية نفسها محاصرة ومعزولة ولا حول لها ولا قوة. وهناك أسباب عديدة لاستفحال هذه الظاهرة: منها السياسة الطائفية التي تبناها نظام البعث الساقط، والإرهاب الآن موجه بدوافع طائفية وعرقية ضد الشيعة والكرد. وأخيراً وليس آخراً، أن زعماء الكتل السنية (التوافق، الحوار، المصالحة)، راحوا يهددون بالحرب الأهلية والتي تفسر أنها تعني استهداف الشيعة. وفعلاً، قاموا بتحريك جماهيرهم في المدن السنية وغربي بغداد، التي خرجت بعد انتهاء صلاة الجمعة في مظاهرات للاحتجاج على النتائج الجزئية للانتخابات وهي تردد هتافات وشعارات تنضح بالطائفية مثل: "يا يران بره بره خلي بغداد تبقى حرة"... و"احلف والله والنبي الجعفري مو عربي" و"يا صولاغ ياجبان يا عميل الامريكان" (تقرير إيلاف، /12/2005). وبالمقابل خرج الشيعة في مدينة الثورة غربي بغداد ومدن شيعية أخرى بمظاهرات مؤيدة للانتخابات ومرددة هتافات معاكسة.
من المؤسف أن (لائحة العراقية الوطنية) بزعامة الدكتور علاوي انساقت وراء هذا الضجيج بدلاً من تهدئة الوضع، فشكلوا مع 40 كياناً سياسياً ما يسمى بجبهة (مرام). أعتقد أن نتائج الحملة ضد الانتخابات ستكون معكوسة على القائمين بها. وهناك خطر كبير من سيطرة دعاة العنف في هذه الجبهة الذين لهم علاقة بما يسمى ب"المقاومة الشريفة" سيجرون العلمانيين المنضوين في قائمة (العراقية الوطنية) وغيرها من الكيانات إلى مواقعهم ضد العملية السياسية. ففي حديث على الهاتف مع صديق ذو إطلاع واسع بالقضية العراقية ومتابع لها وهو وزير سابق، قال لي أنه أقنع أقرباءه وأصدقاءه في العراق أن يصوتوا لصالح قائمة الدكتور أياد علاوي باعتبارها قائمة العلمانيين الديمقراطيين. ولكن بعد هذا الضجيج والتهديد بالحرب الأهلية اتصلوا به وقالوا له بالحرف الواحد أنهم ندموا على منح أصواتهم للعلمانيين ولو أعيدت الانتخابات فإنهم سيصوتون في هذه المرة لقائمة (الإئتلاف العراقي الموحد). وهذا الموقف يكاد يكون عاماً، لأن القضية باتت واضحة، فإن حملة رفض الانتخابات ستؤدي إلى المزيد من التخندق الطائفي وتضييق ومحاصرة العلمانيين.
هل هناك تزييف في النتائج؟
نجد الجواب عند الدكتور جابر حبيب جابر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد قائلاًً: « ولو ركنا الى الارقام، فنجد انه في الانتخابات الماضية في بداية العام حصلت القائمة العراقية على 40 مقعدا، وفي هذه الانتخابات على ما يقارب 25 مقعدا اي بخسارة 15 مقعدا في حين ان الائتلاف حصل في الانتخابات الماضية على 148 مقعدا في حين في هذه الانتخابات حصد ما بين 130 – 132 مقعدا بخسارة 18 مقعدا، والاكراد حصلوا في الانتخابات الماضية على 75 مقعدا وفي هذه الانتخابات على 57 مقعدا بخسارة 18 مقعدا، ويلاحظ ان ما خسره كل كيان يكاد يكون متقاربا، وان ما خسروه مجتمعين 51 مقعدا التي كان حصولهم عليها في الانتخابات الماضية بسبب من المقاطعة السنية للانتخابات، وهي تقارب ما حصلت عليه الان الكتل السنية مجتمعة (التوافق والحوار والمصالحة) 57 مقعدا». (د. جابر حبيب جابر، الشرق الأوسط، 1/1/2006). أعتقد بصحة هذا التحليل والذي يؤكد صحة النتائج، وإن كان هناك تزييف فهو بنسبة ضئيلة جداً بحيث لا تؤثر على النتائج النهائية بشكل عام.
الموقف من المفوضية العليا المستقلة للانتخابات
والملاحظ أن زعماء جبهة الرفض (مرام) صبوا جام غضبهم على (المفوضية العليا المستقلة للانتخابات) وطالبوا بإقالتها وعملوا على تشويه سمعتها واتخذوا منها كبش الفدى وذلك لأن هذه الهيئة غير مدعمة من جهة حزبية قوية لذا يسهل إلقاء اللوم عليها، وكما يقول المثل العراقي (حائط نصيِّص). في الحقيقة إن هذه الهيئة تمثل جميع أطياف الشعب العراقي وتم انتقاء أعضائها ضمن أكثر من 1500 مرشح. وقد أداروا عمليات التصويت (انتخابين برلمانيين، واستفتاء على الدستور) إضافة إلى انتخابات محلية لمجالس بلدية في مراكز المحافظات وفي ظروف صعبة في بلد متخلف ينهض تواً بعد أربعة عقود من النظام الشمولي الاستبدادي. ولا شك إن أعضاء هذه الهيئة قد تراكمت عندهم خبرة جيدة في هذا المجال خلال الثلاثة أعوام الماضية يجب عدم التفريط بها. وهذا لا يعني أن هذه الهيئة هي فوق النقد والمساءلة، فالنقد أساس التقدم كما يقول ماركس. ولكن في نفس الوقت يجب أن نكون منصفين بحق هؤلاء الذين هم هدف من أهداف الإرهاب البعثي-السلفي في العراق. فتركيز الحملة ضدهم يصب في خدمة تحالف الإرهاب البعثي-السلفي.
وحسناً فعلت المفوضية بدعوة خبراء ومراقبين دوليين من الأمم المتحدة للتحقيق في الانتخابات ونتائجها لوضع حد لهذه الشكاوى والتقولات والاتهامات. إن هذه الهيئة ربما وصلت الآن في بغداد ويجب أن تقبل جميع الأطراف بحكمها. والسؤال هو: ما هو موقف زعماء جبهة الرفض أو (مرام) فيما لو برأت هيئة الأمم المتحدة ساحة المفوضية العليا المستقلة وأقرت بصحة نتائج الانتخابات؟
أغلب الظن أن زعماء جبهة الرفض سيواصلون الشكوى والتشكيك لأنهم لم يعتادوا لعبة الديمقراطية و الاعتراف بالنتائج ما لم تكن في صالحهم. ونحن نعرف مسبقاً أن زعماء الكتلة السنية (التوافق، الحوار، المصالحة) لهم اجندتهم وأهدافهم الخاصة بهم وهي تخريب العملية السياسية برمتها ما لم يعيدوا مجدهم الزائل الذي زال عنهم بزوال نظام البعث الصدامي الفاشي يوم 9 نيسان(أبريل) 2003 الأغر. وننصحهم أن يصغوا إلى صوت العقل والحكمة والبدء بالمشاركة في العملية السياسية لخدمة العراق وشعبه ورحمة بأبنائهم ومناطقهم من الدمار. فمهما عملوا ومهما ملئوا الدنيا ضجيجاً فالنصر النهائي للشعب العراقي والديمقراطية.