د. عبدالخالق حسين
الجمعة 31 / 8 / 2007
مجزرة كربلاء ولعبة تجميد جيش المهدي
د.عبدالخالق حسين
مرة أخرى تقدم لنا أحداث العراق الدامية والمأساوية أن الإنسان لا يسيّره العقل، بل غرائزه البدائية، أما إذا تصرف بعقلانية، وتبنى قرارات صائبة فهذه تفرض عليه رغماً عنه بحكم الواقع وفق مقولة (أخاك مرغم لا بطل) وبعد أن تستنفد كل الحلول الخاطئة وتستهلك قوى الشر معظم طاقاتها. فمن يتأمل ما يجري في العراق خلال السنوات الأربعة الماضية من أعمال وحشية ضد الناس المسالمين، هو نوع من الجنون ونتيجة لانطلاق الغرائز الحيوانية، وغياب العقل وعدم الإصغاء لما تقدمه النخب الوطنية المثقفة من نصائح وأفكار. ومن هنا يقدم الواقع المزري في العراق أدلة متواصلة على صدق وصواب ما قاله الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز: " الانسان ذئب لأخيه الإنسان، والعالم هو غابة من الذئاب، وإذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب! لذلك ينبغي تنظيم المجتمع بطريقة عقلانية من أجل تحجيم هذه النزعة الوحشية الموجودة في أعماق الإنسان، ومن اجل التوصل إلى مجتمع مدني، متحضر".
لقد طالبنا مع غيرنا، مراراً وتكراراً، أن من بين الأمور التي يجب اتخاذها للخروج من المأزق العراقي، هو حل المليشيات الحزبية. ولكن مع الأسف الشديد، وكما كان متوقعاً، وقعت هذه الكلمات على آذان صماء. والسبب هو أن المليشيات وفرق الموت لقيت التساهل من قبل القوات الأمنية الحكومية، فتمادت في غيها، ولن تتردد في استخدام أخس الوسائل وأشدها وحشية لتحقيق أغراضها الدنيئة في القتل الجماعي والتخريب الشامل.
وأخيراً وبعد مجازر دامية في كربلاء، خلال يومي 27-28 من آب الجاري، بمناسبة الزيارة الشعبانية (ولادة المهدي المنتظر)، حيث ذهب ضحيتها 52 قتيلاً ونحو 300 جريحاً، إضافة إلى خسائر مادية هائلة في الممتلكات، أمر السيد مقتدى الصدر، وكما نقلته وكالات الأنباء بـ "تجميد جيش الإمام المهدي بلا استثناء لإعادة هيكلته بصورة تحفظ العنوان العقائدي لمدة أقصاها ستة شهور من تاريخ إصدار هذا القرار. كما نعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام وإغلاق مكاتب الشهيد الصدر في عموم العراق ولبس السواد وإقامة مجالس العزاء احتجاجاً على ما جرى في كربلاء. وأنصح الأطراف الحكومية بالتحقيق في ما حدث على أن يكون تحقيقا عادلا ومحايدا لكي لا تتكرر المأساة فالمحتل بيننا وفي بلادنا".
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل كان من الضروري أن تقع هذه المجزرة وبهذا الحجم من الخسائر المروعة لكي يقتنع السيد مقتدى الصدر ليتخذ قراره هذا بتجميد مليشياته ولمدة أقصاها ستة أشهر؟ في الحقيقة والواقع أن معظم الجرائم التي تقع بحق الشعب من قبل هذه المليشيات وخاصة مليشيات جيش المهدي، ممكن منعها لو اتخذت الحكومة إجراءات صارمة، وهي ممكنة وضمن إمكانياتها، وإن السبب وراء تفشي جرائم هذه المليشيات وتماديها في الإجرام هو تساهل الحكومة وعدم جديتها في الضرب على أيدي الجناة، إضافة إلى الدعم الكبير الذي تتلقاه هذه المنظمات الإجرامية من إيران وسوريا وغيرهما من أعداء العراق.
دلالات مجزرة كربلاء
إن ما حصل في كربلاء في الأيام الأخيرة له دلالات مهمة نود أن نسطرها أدناه، آملين من السادة أصحاب الحل والعقد في الحكومة وقادة الكتل السياسية، استخلاص الدروس والعبر منها، وإتباع ما تمليه الحكمة العامة common sense وبأقل ما يمكن من خسائر، لأن الصحيح في نهاية المطاف لا بد وأن يفرض نفسه، إن لم يكن اختياراً فبالقسر، لأن الواقع سيفرض الحل الصائب ولو بالقوة وبعد خسائر جسيمة وبعد أن تستنفد قوى الشر معظم طاقاتها ولن يبقى لديها لإنتاج المزيد من الشر كما ذكرنا أعلاه. ومن هذه الدروس ما يلي:
1- إن الصراع الدموي الدائر في العراق هو ليس طائفياً بين السنة والشيعة، (إذا ما استثنينا فلول القاعدة الوهابية الوافدة)، كما يروج له الإعلام العربي والعالمي، بل هو صراع بين الكتل السياسية من أجل السلطة والنفوذ والثروة. فمجزرة كربلاء الأخيرة وقعت بين مليشيات شيعية- شيعية وقوات حكومية التي معظم أفرادها من الشيعية أيضاً، وليس بين السنة والشيعة،
2- إن زج الدين بالسياسة ليس خطأً فقط، بل جريمة بحق الشعب والدين نفسه، ومخالف لقوانين حركة التاريخ والتطور الحضاري. وقد كشف المعممون السياسيون وغير المعممين منهم من الإسلامويين، سنة وشيعة، عن أغراضهم الحقيقية في هذا المجال، فغرض الإسلام السياسي هو ليس حماية الدين أو تطبيق الشريعة كما يدعون، بل استغلال الدين لأغراضهم الشخصية والفئوية من أجل السلطة والاستحواذ على الثروة، وكسب الجاه وغيره من الأغراض الدنيوية، وليست أغراض دينية كما يدعون.
3- إذا دخل الإسلاميون السياسة أفسدوها وجعلوا أعزة البلاد أذلة وصادروا العقل والحكمة وألغوهما. ولا بد أن يعيدوا البلاد والعباد القهقرى إلى الوراء، ويحرقوا الأخضر بسعر اليابس، وما يجري في العراق وإيران والسودان لدليل ساطع على صحة هذا القول، وسلوكهم هذا أدى إلى نفور الناس من الدين كما حصل في إيران على سبيل المثال لا الحصر.
4- إن جيش المهدي هو تجمع من فلول البعثيين الشيعة، وهو لا يختلف في سلوكه وأغراضه عن سلوك وأغراض فلول البعثيين من الإرهابيين الذين يعملون تحت يافطة السنة العرب، فهؤلاء يقتلون العراقيين من السنة والشيعة باسم جيش المهدي، وأولئك يقتلون السنة والشيعة أيضاً ولكن باسم البعث وجيش محمد وجيش عمر وأنصار الإسلام وغيره من المسميات التي يجيد صنعها البعثيون من السنة والشيعة بامتياز. إن الإيرانيين هم وراء تمويل وتأسيس جيش المهدي، وهم كالبعثيين، يجيدون استخدام الأسماء الدينية وإطلاقها على مليشياتهم لخدع فقراء الشيعة البسطاء وجرهم إلى هذه اللعبة القذرة بتوظيف الدين لأغراضهم السياسية الدنيئة.
5- إن القرار الذي أعلنه السيد مقتدى الصدر بتجميد مليشياته، لا يعني أنه صار عاقلاً ولا صادقاً فيه، بل هو إجراء تكتيكي مارسه في السابق، وفرضه الواقع المزري عليه الآن وبعد أن افتضح أمره، ويريد التخفيف من وطأة هزيمته وتغطية ضعفه. فقد أعلن هذا القرار لأن عصاباته تلقت ضربات ماحقة من الجيش الأمريكي بالاشتراك مع القوات الحكومية، ويسقط من أتباعه بالعشرات يومياً، إضافة إلى الضحايا من بؤساء مدينة الثورة وغيرها من المناطق الشعبية الفقيرة، غير مبال بهذه الأرواح، ولذلك توصل إلى قناعة أنه إما أن يصدر مثل هذا القرار للحفاظ على حياة من تبقى من أتباعه أو الإبادة التامة، كل ذلك من أجل تحقيق أغراض وإرضاء سيده علي خامنئي الذي اتخذ من العراق ساحة لتصفية حساباته مع أمريكا، على الأرض العراقية وبدماء العراقيين.
ما العمل؟
لقد آن الأوان لحكومة السيد نوري المالكي أن تتعامل مع عصابات الجريمة المنظمة والمليشيات المسلحة، وخاصة مليشيات جيش المهدي بمنتهى الجدية. أعتقد أنه من الواجب الوطني على السيد نوري المالكي أن يتخذ هذه المناسبة فرصة ذهبية لتوجيه ضربة ماحقة إلى مليشيات جيش المهدي وكافة المليشيات الأخرى وتجريدها من السلاح ومحاسبة المجرمين منهم على جرائمهم. فالعملية باتت ممكنة في الظروف الراهنة، خاصة بوجود قوات التحالف بقيادة القوات الأمريكية، والقيام بنزع سلاح كافة الأفراد من غير منتسبي القوات المسلحة الحكومية. كما ويجب عدم السكوت عن جرائم إيران وسوريا بحق العراق ودعمهما للإرهاب فيه، خاصة وقد قامت الحكومة الإيرانية بقصف مناطق حدودية مع كردستان العراق.
كذلك نهيب بالسياسيين العراقيين، من قادة الكتل الرئيسية الفاعلة، أن يعوا الموقف السياسي الحرج ويعلموا أن الوضع العراقي البائس الهش لا يتحمل المزيد من التدهور، وإنما يتطلب منهم وضع خلافاتهم الثانوية ومصالحهم الفئوية جانباً، والاهتمام بالأولويات لمصلحة الشعب العراقي قبل فوات الأوان.
وأخيراً، نطالب المرجعيات الدينية الشيعية وقادة الإسلام السياسي والحكومة العراقية إصدار تعليمات إلى الجماهير الشيعية بالتخفيف من هذه الزيارات ووضع ضوابط لها، فقد خرجت هذه الزيارات والطقوس عن المعقول، وصارت بحد ذاتها وسيلة تهدد الحياة ووبالاً على الاقتصاد، ومناسبة لجذب الإرهابيين وإثارة شهيتهم لنشر القتل في صفوف الجماهير، وفرصة لجذب المليشيات المتصارعة في الصدام فيما بينها. لذا يجب وضع ضوابط لهذه المناسبات الدينية التي صارت وسيلة من وسائل الإبادة الجماعية وإغراق البلاد في فوضى عارمة.
31/8/2007