موقع الناس http://al-nnas.com/
في العراق، القتل من أجل القتل
د.عبدالخالق حسين
السبت 2/9/ 2006
في نقاش بين نخبة من المثقفين حول
الأزمة العراقية، أثار صديق عدداً من الأسئلة المهمة التي تدور في بال معظم
العراقيين وغيرهم، طالباً الإجابة الوافية عليها، والأسئلة هي: هل أن ما يجري في
العراق منذ 9/4/2003، لأن الأمريكان لم يعملوا بشكل أفضل، أو كان مخططاً من قبلهم
أن تسير الأمور بهذا الشكل؟ وهل كان لا بد من هذه الفوضى العارمة، أم كان ممكناً
تفاديها فيما لو اتخذت إجراءات مناسبة؟ وهل الستة أشهر الأولى التي تلت سقوط النظام
البعثي هي المسؤولة عما حدث فيما بعد؟ ولماذا تركت الحدود مفتوحة للإرهابيين؟
لا شك أن هذه الأسئلة مشروعة والإجابة عليها تحتاج إلى مقالات وربما كتب. كما ولا
بد أن تختلف الإجابات بعدد المجيبين وحسب اختلاف وجهات نظرهم، إذ يعتمد الجواب على
مواقفنا من النظام البعثي الساقط والعراق الجديد، ومن أمريكا ومن الإرهاب والحرب
عليه، والعولمة والديمقراطية وطريقة تفكيرنا وموقفنا من الغرب...الخ. مختصر مفيد،
في رأيي أن ما جرى ومازال يجري في العراق كان لا بد منه بعد حصول هذا التغيير
الهائل الذي يشبه الزلزال بأعلى درجات ريختر. وبالتأكيد لا يمكن إعفاء أمريكا من
مسؤولياتها ومن بعض الأخطاء التي ارتكبتها قبل وإثناء الحرب على البعث، ولكن
بالتأكيد أيضاً لم يكن مخططاً من قبل أمريكا أن تحصل هذه الفوضى لأنها ليست في
صالحها. وإذا كان هناك تخطيط لهذه الفوضى فهو بلا شك كان من قبل النظام السابق
وعدداً من دول الجوار مثل إيران وسوريا. كذلك لم يكن ممكناً تفادي ما حصل ولكن كان
بالإمكان التخفيف منه ومن نتائجه الكارثية. كما ويمكن القول أن ما حصل يعود إلى
مجموعة من الأسباب وليس إلى سبب واحد، لها علاقة مباشرة بالشعب العراقي من حيث
تعددية مكوناته المعقدة والمتنافرة، وموقع العراق الجغرافي حيث تحيط به جيران
معادية له مثل إيران وسوريا، وشراسة النظام القمعي الساقط وتركته الثقيلة المدمرة
التي أنتجها خلال حكمه الجائر لأربعين عاماً. لذلك ولهذه الأسباب مجتمعة، كان الشعب
مبرمجاً ومحكوماً عليه أن يمر بهذه الإرهاصات العاصفة خلال مرحلة الانتقال من نظام
القمع المفرط إلى الديمقراطية المفاجئة والحرية المنفلتة.
لماذا يحصل هذا القتل الوحشي في العراق؟
يقال أن القط هو الحيوان الوحيد الذي يقتل من أجل القتل لذاته وليس من أجل
إشباع غريزة الجوع كما هو الحال عند الوحوش الضارية التي تفتك بالفريسة لتأكلها.
لكن في العراق ومنذ سقوط النظام البعثي يوم 9 نيسان/أبريل 2003، بدأ الإنسان ينافس
هذا الحيوان في القتل من أجل القتل. إذ برزت ظاهرة غريبة على إخلاقية وتقاليد
وأعراف المجتمع العراقي، بل وحتى على الطبيعة البشرية، أسميها بـ (ظاهرة ما بعد
صدام Post- Saddam Syndrome). وهي حالة مَرَضية نفسية مستعصية أصابت شريحة واسعة من
المجتمع العراقي، ومن أعراضها أن يقوم المصاب بعمليات القتل الوحشي ويتلذذ بسادية
مفرطة برؤية الدم والأشلاء البشرية المتناثرة، في حين لا توجد أسباب مقبولة لتبرير
هذا القتل لا في المجتمع العراقي سابقاً ولا في أي مجتمع من المجتمعات البشرية
الأخرى. ولكن في نفس الوقت يتفنن القتلة ومَنْ وراءهم في إيجاد مبررات لا يقبلها
العقل السليم، مبررات غير مألوفة ومرفوضة من جميع الأديان والمجتمعات والأعراف
والتقاليد والقوانين، الشرعية والوضعية لتبرير جرائمهم. ونحن لا نتحدث هنا عن
القتلة الزرقاويين من جماعة القاعدة الوافدين من خارج الحدود، فهؤلاء مبرمَجون
بالفكر السلفي التكفيري الذي يجعل من قتل غير المسلم أو حتى المسلم من المذاهب
الأخرى كالشيعة مثلاً، واجباً دينياً عندهم. بل نتحدث عن تلك الشريحة من العراقيين
الذين يمعنون في قتل أبناء جلدتهم من الأبرياء وبدون أي سبب معقول. لذا ففي هذه
المداخلة أود مناقشة هذه الظاهرة الغريبة وطرحها على من يهمه الأمر من المتخصصين في
علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلاسفة وغيرهم من الباحثين الأفاضل
لدراستها، أملاً في إيجاد العلاج الناجع لها وعدم الاكتفاء بتعليق غسيلنا القذر على
المؤامرات الإمبريالية-الصهيونية!!
ففي كتابه القيم الصادر حديثاً بعنوان (الإنهيار Collapse)، يبحث العالم الموسوعي
الأمريكي، جارد دياموند، عن الأسباب التي أدت إلى انقراض بعض المجتمعات وسبب بقاء
وصعود البعض الآخر منها في التاريخ. أي لماذا أفلت مجتمعات وصعدت أخرى. يضع هذا
العالم خمسة مجاميع من الأسباب: تغييرات في البيئة ودور الإنسان في تخريبها،
تغييرات المناخ وتأثيرها المدمر على الأنواع الأخرى من الأحياء وبالتالي اختفاء
مصادر الغذاء، الاقتتال الداخلي، ووجود جيران معادية، أو جيران صديقة يعتمد عليها
مجتمع ما في البقاء ولكن في مرحلة ما تتخلى عن الدعم فينهار هذا المجتمع المعتمد
على غيره..الخ. وليس بالضرورة أن تتوفر جميع هذه الأسباب في مجتمع ما لكي ينهار
وينقرض، بل يكفي وجود حتى ولو سبب واحد منها ليؤدي إلى انهيار ذلك المجتمع. وفي
الحالة العراقية تتوفر مجموعتين من هذه الأسباب وهما: الاقتتال الداخلي وجيران
معادية. كما ويذكر المؤلف أن المجتمعات التي انقرضت لسبب أو أكثر، لجأت إلى القتال
فيما بينها، ولما بلغ بها شح الغذاء حداً مروعاً عادت إلى أكل بعضها البعض أي صاروا
يقتلون أبناء جنسهم من أجل أكل القتيل Cannibalism. في العراق لم يصل المجتمع إلى
مستوى أكل الضحية بعد والحمد لله، بل ما زالوا في مرحلة القتل من أجل القتل أي
الغريزة القطية، لأن سبب الاقتتال ليس شح الغذاء، بل بسبب تحفيز وتفعيل الغرائز
البدائية وإعادة المجتمع إلى المراحل الوحشية. أما كيف أمكن إعادة المجتمع العراقي
إلى هذا الدرك وإحياء النزعات الوحشية فيه، فهناك أسباب كثيرة سنأتي على ذكرها
لاحقاً.
دور الطائفية
كما بينا، يحاول القتلة إيجاد المبررات المختلفة لجرائمهم البشعة التي نغصوا
بها حياة الشعب وشرَّدوا الملايين، ولكن المبرر الأكثر شيوعاً والذي نال حصة الأسد
من الأهمية والتركيز في الإعلام وتعليقات الكتاب السياسيين عليه هو الاختلاف
المذهبي، أي الصراع الطائفي والقتل على الهوية المذهبية. في هذه الفرضية (القتل من
أجل القتل) ازعم أن القتل في العراق ليس بسبب الاختلاف الطائفي، ولو إن الطائفية
اتخذت ذريعة وغطاءً في أغلب الحالات، وإنما صار القتل بحد ذاته هدفاً وحاجة نفسية
لإشباع نهم القاتل، بسبب عقد نفسية ابتلت بها هذه الشريحة نتيجة لتعرض الشعب
العراقي إلى الظلم والقهر والاستلاب والحروب والحصار والتجهيل المخطط والمتعمد،
ونشر ثقافة العنف وغسيل الدماغ من قبل حكم البعث الساقط ولفترة طويلة. ومن أعراض
هذه الظاهرة أن المصاب يكون قد فقد الشعور بالانتماء إلى الشعب والوطن، حاقداً على
البشرية، كما فقد الشعور بقيمة الحياة، سواءً حياته هو أو حياة أقرب الناس إليه
وغيرهم، إذ تساوت عنده قيمة حياة البشر مع الحشرات الضارة، وصار يحب القتل ورؤية
الدم والتدمير دون أن يهتم بحياته لأنه لا يملك شيئاً يخاف عليه ولا يربطه بالحياة
أي رابط، لأنه فقد الأمل وطعم الحياة وقيمتها.
هؤلاء الأفراد هم مرضى ساديون يتلذذون بتعذيب البشر وذبحهم، يحبون رؤية الدم وتناثر
الأشلاء الممزقة. لقد كتب عن هذه الحالة المتفشية في العراق، الباحث الصحفي
الأمريكي مارتن ووكر الذي رافق القوات الأمريكية في الحرب التي أسقطت النظام
البعثي، وشاهد كيف يتلذذ جنود صدام بعرض جثث القتلى الأمريكان على شاشات التلفزيون،
وكانت هذه المناظر مصدر تمتعهم برؤية الدم، وقد أطلق ووكر على هذه الحالة
pornography of blood"".
نماذج من القتل
كما بينا أعلاه، يبحث القتلة عن أتفه الأسباب لتبرير أفعالهم الشنيعة، ويحاولون
إيجاد تبريرات دينية وطائفية، ومعهم الإعلام العربي الذي أسندهم وأعطاهم زخماً
كبيراً للمبرر الطائفي. بينما نسمع من معظم رجال الدين ومن مختلف الطوائف الإسلامية
في العراق، قادة ومواطنين عاديين، إدانة شديدة للطائفية وللقتل الذي يتم باسمها،
والتأكيد على التعايش السلمي بين مختلف الأديان والطوائف كما كان في الماضي. ومن
المؤسف أن عدوى هذا التبرير الطائفي للقتل وصلت حتى بعض المخلصين من ذوي النوايا
الحسنة، فراحوا يثنون على صدام حسين لأنه استطاع إبقاء "الوحدة الوطنية" ويلقون
باللائمة على القوات التي حررت الشعب من النظام الفاشي، وعلى الحكومة الجديدة أنها
فشلت في الحفاظ على الوحدة الوطنية، ناسين ما عمله البعث بالشعب العراقي وما نشره
من مقابر جماعية وأنفال وغيرها. فالوحدة العراقية التي فرضها نظام البعث، كانت وحدة
خادعة أشبه بالسراب الذي يبدو للناظر ماءً، فرضت عن طريق أحواض الأسيد والمقابر
الجماعية وليست وحدة اختيارية. ولا يمكن لمثل هذا الوضع أن يستمر إلى ما لا نهاية،
بل لا بد وأن ينتهي بشكل وآخر. لذا فنحن لا نعتقد أن الاختلاف الطائفي هو السبب
وراء هذا الإقتتال، بل هناك أسباب أخرى لا علاقة لها بالطائفية. فالاختلاف الطائفي
كان موجوداً خلال 14 قرناً ولم يكن سبباً للاقتتال في أي وقت مضى. فهناك مئات
الألوف من العائلات العراقية المختلطة من السنة والشيعة وكذلك العشائر العراقية،
فلماذا ينفجر اليوم البعبع الطائفي وفي القرن الحادي والعشرين ليكون دافعاً لهذه
الإبادة الجماعية؟ إذ هناك معلومات مؤكدة ومن مصادر عديدة تصلنا من العراق تفيد أن
القتل صار يشمل جميع مكونات المجتمع وفئاته وبدون أي تمييز بين المذاهب والمهن وذلك
كما يلي:
1- يحصل القتال بين السني والسني وبين الشيعي والشيعي، كما ويحصل بين السني
والشيعي. ومعظم القتل يحصل بين أبناء الطائفة الواحدة، كما يجري بين مليشيات مقتدى
الصدر (جيش المهدي) ومليشيات بدر في مناطق مختلفة من العراق، في السماوة والبصرة،
وكما حصل بين قوات الشرطة وأنصار الصرخي في كربلاء، وقبل أيام جرى قتال شرس في
الديوانية بين مليشيات الصدر وقوات الشرطة راح ضحيتها نحو 60 من أتباع الصدر و40
قتيلاً من رجال الشرطة، وكل هذا الاقتتال تم بين الشيعة أنفسهم. علماً بأن أتباع
الصدر مشاركين في الحكومة والبرلمان بحصة الأسد، فلماذا هذا الاقتتال إذَنْ؟ كذلك
وقعت تفجيرات انتحارية وسيارات مفخخة في المدن السنية مثل تكريت والموصل والرمادي
والفلوجة، راح ضحيتها الألوف من أهل السنة، وكان القتلة من السنة أيضاً.
2- في أغلب الأحيان يتم قتل أبرياء دون معرفة انتماءاتهم المذهبية، إذ يحاول القتلة
إيجاد المبررات الواهية جداً لجرائمهم، مثل قتل حليقي الذقون، أو لابسي بناطيل
الجينز، أو الرياضيين بالشورت، بحجة أنها ملابس غربية ضد تعاليمنا الإسلامية، أو
قتل المرأة غير المحجبة، أو التي تسوق سيارة..الخ كذلك عمليات تفجير محلات بيع
الخمور وحوانيت بيع الأقراص المدمجة وصالونات الحلاقة والتجميل. كما وطال القتل حتى
بائعي الثلج والخبازين بحجج تافهة جداً كقولهم لم يكن الثلج والمخابز موجودة في عهد
النبي محمد (ص) لذا فاستعمالها حرام يستوجب القتل!! كما وأمعنوا في قتل العلماء
والأطباء ومئات من أساتذة الجامعات بغية شل العقل العراقي. والأغرب من كل ذلك أنهم
استهدفوا العاملين في أجهزة الصدى echography لأنهم يكشفون جنس الجنين، وهذا سر
إلهي يجب أن لا يعرفه الإنسان حسب اجتهاد القتلة.
4- قتل أصحاب الديانات الأخرى من الصابئة المندائيين والمسيحيين والإيزيديين
وغيرهم.
5- مجزرة المحمودية: قال شهود عيان لوكالة رويترز للأنباء أن "مجاميع مسلحة دخلت
الى سوق شعبي في المحمودية من جهة حي المرتضى الذي يقع شرقي المحمودية في وقت كان
فيه السوق مزدحما جدا بالمتسوقين وفتحوا النار بشكل عشوائي وكثيف عليهم ... وقد
سبقه هجوم بقذائف الهاون سقطت على المنطقة." كما وقال مسؤول طبي من مستشفى
المحمودية ان المستشفى استقبل "56 شهيدا و67 جريحا." فبالتأكيد لم يميِّز المهاجمون
بين الشيعي والسني في هذا السوق المزدحم عند ارتكابهم لجريمتهم.
6- استلمت رسالة من صديق من سكان بغداد، متتبع لهذه القضايا، فقد تم اختطاف ولديه
ولحد الآن لم يعثر عليهما، جاء فيها:
(قد تسمع في الأخبار عن جرائم القتل والاختطاف، ففي الحقيقة هي ليست طائفية بقدر ما
هي عمليات انتقامية، وأذكر لك حادثة كي تصل إلى قناعة فيما يحدث ... أعلنت الحكومة
أنها ألقت القبض على مجرم خطير وقاتل في الشعلة لقبه (العقابي). وبالصدفة علمتُ قصة
هذا الرجل حيث أنه أرسل أبيه وأمه وزوجته وأطفاله الى كربلاء لغرض الزيارة وعلى
طريق اللطيفية أختطفوا من قبل المسلحين وقتلوا جميعهم. أن هذا الرجل قد جن جنونه
الى درجة أن بدأ يقتل من أجل القتل فقط للتنفيس وللانتقام لعائلته من المجتمع وبشكل
عشوائي. و لو يحاكم هذا الرجل في محكمة بريطانية فبالتأكيد لا يجرَّم وإنما يحال
إلى مصح عقلي).
ويضيف الصديق: (ان الهاونات التي تطلق على الأحياء السكنية ـ ابوغريب والشعلة
والغزالية والبكرية والعامرية والدورة وحي الجهاد وربما هناك أحياء أخرى أيضاً
وسكان جميع هذه الأحياء من السنة والشيعة وغيرهم ـ تؤدي عند سقوطها إلى تدمير الدور
السكنية دون تمييز بين عائلة شيعية أو سنية. وبالنتيجة ترى ان الجميع يتركون بيوتهم
إلى مناطق يعتقدون انها اكثر أمناً ولهذا تشاهد الأحياء المذكورة أعلاه خالية من
السكان تقريباً. إن البعض من أمثالي يتساءل من وراء هذه العملية وما الغاية منها،
البعض يقول ان الكرخ يجب ان تكون سنية والرصافة شيعية وهذا الأمر من سابع
المستحيلات والسبب ان العائلة العراقية والعشيرة العراقية هي خليط من كِلتا
الطائفتين ولم يسبق في تاريخ العراق القديم والحديث أن حدث ما يحدث اليوم من اصطفاف
طائفي قادهُ رجال الدين من الطائفتين كانوا يختبئون في زمن صدام كالجرذان وإذا بهم
بين ليلة وضحاها يتصدرون الحركة السياسية وبتشجيع من الأمريكان .. ).
7- لم يكتف هؤلاء المجانين بالقتل، بل فرضوا إرادتهم العبثية على الناس فقاموا حتى
بمنع بعض الأكلات الشعبية مثل الفلافل وغيرها، فمن يصدق هذا الكلام ولماذا يفرض
هؤلاء باسم الدين هذه الأوامر القرقوشية على المجتمع؟
فهل هذه الأسباب المذكورة أعلاه معقولة ومبررة لقتل الناس وباسم الاختلاف المذهبي؟
كيف تحول هؤلاء إلى قتلة؟
والجدير بالتأكيد أن هذه الحالة النفسية المشوهة عند هؤلاء القتلة ليست وليدة
اللحظة بعد سقوط النظام البعثي، أو من صنع الأمريكان والموساد، كما يدعي البعض، بل
هي نتاج عملية تربوية وغسيل دماغ قطاع واسع من الشعب خلال ما يقارب الأربعة عقود من
حكم الفاشية البعثية في العراق. فقد شاهدنا أفلام وثائقية من العراق توضح كيف كانوا
يدربون مئات الألوف من فدائيي صدام وجيش القدس وغيرهم على القسوة والرعونة والسلوك
الوحشي وإضفاء صفة الشجاعة والبطولة والرجولة على هذه الوحشية. فمن التمارين التي
كانوا يتدربون عليها، ومعظمهم شباب في العقد الثالث وما دون من أعمارهم، يجلبون لهم
حيوانات وحشية، ثعالب وذئاب وكلاب سائبة حية، يلقونها على مجموعات من هؤلاء
الفدائيين إثناء التدريب وهم يطلقون الصراخ وفي حالة هيجان وهستيريا صاخبة، يقومون
بتمزيق الحيوانات إلى أشلاء ويأكلون لحومها طرية والدماء تسيل عليهم، تماماً كما
تتقاتل الوحوش الضارية الجائعة على الفريسة. والغريب أن مليشيات الحكومة السودانية
في دارفور المعروفة بالجنجويد، قد استوردت هذه التمارين (الاختراع البعثي) من نظام
البعث في العراق كما شاهدناهم في تقرير مصور على تلفزيون بي بي سي في العام الماضي.
والسؤال هو، كيف يمكن إعادة الإنسان إلى الوحشية؟ كما ذكرت في مقال سابق (الخراب
البشري في العراق) أن أصل الإنسان هو حيوان حسبما أكده تشارلس داروين وغيره من
علماء البايولوجيا والنفس والاجتماع. فالإنسان هو خزين من تراكمات الغرائز
الحيوانية التي مر بها إثناء عمليات التطور البايولوجي خلال بلايين السنين، تم
تهذيبها عبر آلاف السنين من التحضر. ولكن هذه الغرائز الحيوانية والنزعات البدائية
لم تختف منه تماماً في عملية التطور الحضاري، بل تم إخمادها وبقيت كامنة في العقل
الباطن يمكن إيقاظها وتحفيزها وتفعيلها تحت ظروف لا إنسانية معينة.
لقد وفرت آيديولوجية حزب البعث المناخ الفكري المناسب في تدمير القيم الاجتماعية
وخلق الظروف اللا إنسانية لمسخ الإنسان وإقامة نظام فاشي همجي متخلف في العراق حكم
شعبه بالقبضة الحديدية وقام بعملية غسيل الدماغ وزج به في حروب عبثية، داخلية
وخارجية طيلة فترة حكمه. إضافة إلى عمليات القمع وإبادة الجنس وحملات المقابر
الجماعية والأنفال ومجزرة حلبجة والدجيل والأهوار وتشريد نحو خمسة ملايين وقتل
مليونين والتسبب في إعاقة ملايين أخرى.. وغيرها كثير. أضف إلى ذلك، الحصار
الاقتصادي لمدة 13 عاماً الذي أذل الشعب العراقي أشد الإذلال وطعن كرامته في
الصميم. ثم العزلة التامة في الكهوف البعثية التي فرضت على الشعب لمدة طويلة، لا
يعرف خلالها ماذا كان يجري في هذا العالم المتحضر من قفزات في العلوم والتكنولوجيا
والفنون والاكتشافات والتحولات الديمقراطية ووسائل الاتصال والثورة المعلوماتية
وغيرها. كل هذه الإجراءات القمعية القاسية ولفترة طويلة كان لها الدور الكبير في
تدمير قطاع واسع من العراقيين وتحويلهم إلى ما هم عليه الآن، خاصة وإن 85% من الشعب
العراقي ولدوا خلال حكم البعث الفاشي وتعرضوا لهذا الإذلال والتجهيل، ونحو 50% منهم
دون العشرين من العمر.
كما وتمكن صدام حسين عن طريق العصا والجزرة ووفق برنامج خاص إخضاع حزب البعث
ومنظماته (الاستخبارات، فدائيي صدام، جيش القدس، الحرس الخاص، الحرس
الجمهوري...الخ) السيطرة التامة على هؤلاء الوحوش وترويضهم لإرادته كما يعمل بطل
السيرك في ترويض بعض الحيوانات الوحشية وإخضاعها لإرادته. وكان صدام قد أدخل في
السجون نحو 140 ألف من الذين لم يستطع ترويضهم كمجرمين عاديين، كان بينهم قتلة
سايكوباثيين خطرين على المجتمع. وقبل سقوط نظامه بأشهر أطلق سراح هؤلاء المجرمين.
ويمكن أن نتصور حالة الشعب العراقي بعد سقوط النظام، ماذا يحصل. 140 ألف مجرم جنائي
تم إطلاق سراحهم، مئات الألوف من فدائيي صدام وجيش القدس الذين تم تحويلهم إلى وحوش
ضارية مطيعة لإرادة صدام، وفجأة اختفى بطل السيرك المروض وأطلق العنان لهؤلاء
ليعيثوا في البلاد فساداً ولتنقض الوحوش على الفريسة دون رادع. إضافة إلى انهيار
مؤسسات الدولة، وخاصة الأجهزة الأمنية والقمعية البعثية التي انضمت هي الأخرى إلى
صفوف المجرمين لتنتقم من الناس كما كان مخططاً من قبل البعث مسبقاً.
أما العهد الجديد ومن الأخطاء التي تحسب على الأمريكان فإنهم لم يحسبوا مخاطر
التحول السريع من نظام قمعي فاشي نحو أربعة عقود إلى نظام ديمقراطي منفلت بين ليلة
وضحاها، دون قوانين وقوات ضبط الأمن. ففي عهد صدام كان قد ضبط أمن بغداد وحدها بـ
75 ألف من رجال الشرطة والأمن. فكيف لو تحول هذا العدد إلى مجرمين في غياب دولة
قوية؟
دور البعث في إثارة الطائفية
ما ذكرناه أعلاه لا يعني أنه لا يوجد صراع طائفي في العراق، ولكن هذا الصراع
كان لا يتجاوز الهمس، إلا إن من طبيعة البعثيين أن يستثمروا جميع نقاط الضعف في
المجتمع وتضخيمها وتوظيفها لخدمة أغراضهم، ومن أجل إشعال حرب طائفية بغية إفشال
العملية السياسية تمهيداً لعودتهم إلى السلطة. فكما ذكرت في مقال سابق لي، أن وجود
حزب البعث يعتمد بالأساس على مبدأ (فرق تسد) وإثارة الصراعات داخل المجتمع، ولا
يمكن أن يكتب له البقاء في النظام الديمقراطي ناهيك عن استلام السلطة بدون تطبيق
هذا المبدأ. لذلك يعتمد البعث على سياسة فرق تسد والتآمر والانقلابات العسكرية
للوصول إلى السلطة. والتفرقة الطائفية جزء مهم من آيديولوجية البعث، وذلك بالاعتماد
على فئة الأقلية في المجتمع ومنحها السلطة والامتيازات بغية أن تستميت هذه الفئة في
الدفاع عن سلطة الحزب. ففي سوريا مثلاً، اعتمد حزب البعث على الشيعة العلويين الذين
يشكلون نحو 20% من الشعب السوري. وفي العراق اعتمد البعثيون على السنة العرب لأنهم
يشكلون 20% من الشعب أيضاً. واعتماد البعث على هذه النسبة يشكل علاقة جدلية مهمة
لديمومة الحزب، لأن البعث ضد الديمقراطية والاعتماد على الأغلبية معناه تبني
الديمقراطية. لذلك فاعتماد البعث على الأقلية مسألة وجود أو فناء. ولو كان الشيعة
في العراق يشكلون 20% لاعتمد عليهم البعث كما الحال في سوريا.
إن إثارة الاقتتال تحت واجهة الطائفية هي لعبة بعثية خبيثة بامتياز ومن صلب
آيديولوجية وسياسة البعث. فالبعثيون لا يهمهم تدمير البلاد والعباد بقدر ما يهمهم
أن يكونوا في السلطة. وشعارهم (فليكن من بعدي الطوفان!!). لذلك يسعى البعثيون بكل
ما لديهم من وسائل الخبث والدهاء لإثارة الفتنة الطائفية. وجميع القتلة، سواءً
الذين في صفوف جيش المهدي أو في صفوف المتمردين "المقاومة الشريفة" هم من البعثيين،
يقتلون الشيعة باسم السنة ويقتلون السنة باسم الشيعة.
مثال آخر يؤكد صحة ما ذهبنا إليه، هو ما نشرت عنه الأنباء عن إلقاء القبض على أخوين
ينشران رسائل سرية على الناس في مدينة أبي الخصيب، جنوب البصرة، يهددونهم بالقتل ما
لم يغادروا المدينة. وأخيراً نجحت الأجهزة الأمنية بالقبض عليهما وتبين أنهما من
السنة وأعضاء نشيطين في حزب البعث. كذلك ألقي القبض على سيارة في البصرة فيها
صندوقين من الرسائل، أحدهما مليء برسائل تهديد موجهة إلى السنة والآخر برسائل تهديد
موجهة إلى الشيعة تأمرهم بالرحيل، كجزء من حملة التطهير التي يقوم بها البعث تحت
واجهة الطائفية. وذات اللعبة تجري في بغداد ومناطق أخرى من العراق. فماذا يعني كل
ذلك غير أن هذه الرسائل هي من مصدر واحد وهو البعث الساقط.
العوامل المساعدة
لا شك أن هناك عوامل مساعدة استفادت من هذه التركة الثقيلة والخراب البشري،
فاستطاعت جهات معينة توظيف هذا القطاع الواسع من العراقيين ضد مصلحة بلادهم لإفشال
العملية الديمقراطية، ومن هذه العوامل:
1- فلول البعث التي تسعى لتدمير العراق وإعادة حكم صدام بأي ثمن، وهؤلاء قد
استحوذوا على ثروة هائلة خلال حكمهم، فيرشون الفقراء من الناس لزجهم في عمليات
تفجير الأنابيب النفطية و مؤسسات إسالة الماء ومجاري الصرف الصحي والمدارس
والمستشفيات وغيرها. ففي تقرير لصحيفة بريطانية عن لقاء مع مهندس عراقي شاب في
البصرة، يعمل طباخاً في شركة، اعترف للصحفي أنه قام بتفجير أنبوب نفط مقابل 600
دولار.
2- الإرهاب الإسلامي الوافد من الخارج وبتأثير من أئمة وفقهاء الموت الذين أفتوا
بتدمير العراق وتحت مختلف المعاذير، والتركيز على مصطلحات مثيرة للفتنة مثل:
الروافض والنواصب،
3- استثمرت إيران وسوريا الفقر والجهل لدى قطاع واسع من العراقيين الشيعة، وخاصة
البعثيين منهم فتم تنظيم هؤلاء في مليشيات الصدر (جيش المهدي) وغيرها، حيث تصرف
مليارات الدولارات عليهم من أجل محاربة القوات المتعددة الجنسيات وإشعال حرب أهلية،
كما يعملون الآن في البصرة والمحافظات الجنوبية. كما وفتحت هاتان الدولتان حدودهما
وسهلت تسلل الإرهابيين الأجانب إلى العراق وتهريب كميات هائلة من الأسلحة لهم.
4- الإعلام العربي المضلل يعطي تبريراً للتخريب بحجة محاربة الاحتلال، وهذا العمل
يضفي القداسة والبطولة على قتل الأبرياء وتخريب الاقتصاد،
5- الخراب البشري لا يقتصر على الذين بقوا في العراق وعانوا من ظلم النظام البعثي
وجوره، بل شمل حتى البعض من الذين كانوا في الخارج وعادوا بعد التحرير، فاستغلوا
مناصبهم في الحكومة للنهب والثراء السريع وأعطوا صورة قبيحة عن عراق ما بعد صدام،
تصب في خدمة فلول البعث وأنصارهم وأعداء الديمقراطية. والبعض من هؤلاء يحملون
الولاء لإيران أكثر من ولائهم للعراق. فرغم الجرائم التي ترتكبها إيران ضد الشعب
العراقي، فالحكام الجدد من الأحزاب الشيعية يرفضون إدانة إيران على هذه الجرائم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، أول عمل قام به السيد عبدالعزيز الحكيم عند توليه رئاسة
مجلس الحكم أنه أطلق تصريحاً خطيراً طالب فيه العراق بدفع مائة مليار دولار لإيران
كتعويضات الحرب التي شنها صدام عليها، في الوقت الذي كانت أمريكا تتوسل بالدول
الدائنة أن تتخلى عن ديونها على العراق والبالغة نحو 120 مليار دولار. وفعلاً نجحت
أمريكا في سعيها بحذف نحو 90% من الديون.
6- ضعف الحكومة في مواجهة الإرهاب ناتج عن طبيعة الحكومة الإئتلافية التي تضم مختلف
الأحزاب والفئات المتصارعة فيما بينها، بما فيها جهات متعاطفة مع الإرهابيين، حيث
نجحت فلول النظام الساقط والمليشيات الموالية لإيران في اختراق مؤسسات الدولة من
الوزارات إلى القوات الأمنية وقوات الحرس الوطني.
أخطاء أمريكا
أخطأت أمريكا في عدم الاستعداد الكافي لمواجهة الفوضى بعد سقوط النظام، وكان
بالإمكان السيطرة على الوضع بمنع الفرهود، وحماية مؤسسات الدولة كما حموا وزارة
النفط. كذلك أخطؤا بتبني الديمقراطية بسرعة، إذ كان المفروض بهم الإهتمام أولاً
ببناء الدولة القوية ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع المدني، ومن ثم التدرج نحو
الديمقراطية، إذ لا يمكن نجاح نظام ديمقراطي بدون دولة قوية تستطيع فرض حكم القانون
والنظام.
أما تشكيلة مجلس الحكم على أساس طائفي وعرقي، لا أعتقد أنه كان السبب أو بنوايا
سيئة، إذ لم يكن هناك مفر من تلك الصيغة، فكان الغرض منه مشاركة جميع مكونات الشعب
في الحكم ولأول مرة في التاريخ. ومعظم الأحزاب السياسية كانت على أساس الطائفة
والقومية وهي من إفرازات مظالم النظام البعثي الجائر. فشعب العراق متعدد المكونات
ولا بد من مشاركة الجميع. وفي جميع الأحوال ما كان بالإمكان التخلص من تهمة
المحاصصة الطائفية.
خلاصة القول، أن ما يجري في العراق هو نتاج تلاقي عدة عوامل مدمرة، تركة
البعث الثقيلة، تخريب شريحة واسعة من العراقيين، إطلاق سراح 140 ألف مجرم، قيام
منظمات الجريمة المنظمة، تكالب فلول البعث، التساهل مع الإرهاب، التدخل الإيراني ـ
السوري الفض، تدفق الإرهاب الإسلامي من جماعات القاعدة، كل هذه الفئات جعلت من
العراق ساحة للحرب على الإرهاب العالمي، وهي بحق الحرب العالمية الثالثة غير
المعلنة. يمر العراق بمرحلة تحولات تاريخية عاصفة لا بد منها، ولم يكن ممكناً تجنب
العنف ولكن كان بالإمكان التخفيف منه لو تبنت أمريكا الإجراءات التي أشرنا إليها
أعلاه. لأن الفوضى ملازمة لسقوط أي نظام جائر، وكان لا بد لنظام البعث أن يسقط بشكل
وآخر. ومن حسن حظ الشعب العراقي أنه سقط على يد أمريكا، ولو سقط بصورة أخرى، لتمزق
العراق وصار أسوأ من الصومال بعد سقوط نظام محمد سياد بري، رغم أن الشعب الصومالي
متجانس قومياً ودينياً ومذهبياً.