موقع الناس http://al-nnas.com/
آخر الحروب في الصراع العربي ـ الإسرائيلي
د.عبدالخالق حسين
السبت 26/8/ 2006
بادئ ذي بدء، أقول ربَّ ضارة
نافعة، فالحرب شر مستطير، ولكن مهما كان موقفنا من الشر، فالخير والشر هما ساقا
التطور اللتان تسير عليهما البشرية في التقدم الحضاري. وبتعبير آخر، الخير يلد من
رحم الشر، ولولا الشر لما عرف الخير. فكما فتحت حرب عام 1973 بين مصر وإسرائيل
الباب لاتفاقية السلام التي تم التوقيع عليها في كامب ديفيد عام 1979 وبموجبها
استعادت مصر جميع أراضيها المحتلة بدون سفك دماء وكانت آخر حرب بين الدولتين، كذلك
أتوقع أن تكون الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، هي آخر الحروب، ليس بين
إسرائيل ولبنان فحسب، بل وربما ستكون هي آخر حرب في سلسلة الحروب الكارثية في
الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
فالكارثة التي تعرض لها الشعب اللبناني المسالم بسبب مغامرة حزب الله غير المحسوبة،
قد يلد منها حل جذري ليس للبنان فقط، بل ولمنطقة الشرق الأوسط كلها. لذلك لا غرو أن
بشرت الدكتورة كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، بولادة (الشرق الأوسط
الجديد)، المشروع الذي تلقفه القومجيون والثورجيون بتهكم شديد وبعقلية نظرية
المؤامرة وانهالوا عليه شتماً وقذفاً حتى قبل أن ينشر أي تفاصيل عنه، لأنهم دائماً
يصدرون الأحكام المسبقة على قرارات دون قراءتها ومعرفة تفاصيلها. وهذا مرض عضال
مزمن ابتلى به العرب، منذ فجر الإسلام أو حتى قبله، فكما قال النبي محمد (ص): (نحن
قوم لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب). كذلك قال عنهم موشي دايان: "العرب قوم لا يقرؤون
وإن قرؤوا لا يفهمون وإن فهموا لا يطبقون". فمعظم القيادات السياسية العربية ووسائل
إعلامها همها تهييج الجماهير العربية وإثارتها وتضليلها ودغدة الغرائز البدائية
فيها وتبديد طاقاتها في الحروب العبثية الكارثية، بدلاً من قيادتها لحياة أفضل ورفع
مستوى وعيها السياسي بالعقل والحكمة نحو الحلول الصحيحة وتوظيف طاقاتها للتنمية
البشرية والاقتصادية.
فمن المؤكد أن قيادة حزب الله نادمة على فعلها في اختطاف الجنديين الإسرائيليين يوم
12 تموز الماضي، العملية التي أشعلت فتيل الحرب المدمرة على لبنان، بدليل أنهم
صرحوا بأنهم ما كانوا يتصورون أن يكون رد فعل إسرائيل بهذه القسوة والوحشية، والقوا
اللوم على إسرائيل بأن اختطاف جنديين لا يستحق أن يقود إلى حرب واسعة وبهذه الضراوة
والهمجية. وهذا يعني أن حزب الله نادم على ذلك وأنه سوف لن يكرر هذه المحاولة مرة
أخرى. كذلك كان قرار مجلس الأمن الدولي1701 لم يكن في صالح حزب الله، بل في صالح
إسرائيل وخاصة في مادته الأولى التي أكدت على إن حزب الله هو الذي بدأ الهجوم على
إسرائيل،... كما وأكدت على إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين المختطفين دون شروط.
وهذا يعني من الناحية القانونية إعفاء إسرائيل من مسؤولية الحرب والتعويضات عن
الدمار الذي سببته للبنان.
لقد بات معروفاً لدى الجميع أن لبنان قد زج به في حرب همجية مدمرة دون إرادته وضد
مصلحته، وكانت النتائج وبالاً على شعبه. وقد سمعنا من المواطنين اللبنانيين عبر
الإعلام الغربي أن معظمهم متذمرون من مغامرة حزب الله، وكأن لسان حالهم يقول: (كفى
استهتاراً بحياة الشعب). كما وجاء على لسان المسؤولين في الحكومة اللبنانية عبر
قرارات وتصريحات في المؤتمرات الصحفية. فإحدى النقاط السبع التي طرحها الرئيس
اللبناني فؤاد السنيورة تنص على: (بسط سلطة الحكومة اللبنانية على كامل ترابها
بواسطة قواتها المسلحة، على ألا يكون ثمة سلاح أو سلطة عدا سلاح الدولة اللبنانية
وسلطتها كما ينص على ذلك "اتفاق الطائف". وقد أشرنا إلى أن القوات المسلحة
اللبنانية مستعدة وقادرة على الانتشار بجنوب لبنان، إلى جانب قوات الأمم المتحدة
هناك، عندما تنسحب إسرائيل إلى الحدود الدولية.) (مقالة الرئيس السنيورة في لوس
انجلس تايمز، ترجمة إيلاف، 10/8/2006). والجدير بالذكر أن قرار مجلس الأمن1701 تضمن
جميع النقاط السبع. وهذا يعني نزع سلاح حزب الله. ومهما تشدق قادة هذا الحزب، إلا
إنهم وكما يبدو من نبرة تصريحاتهم إنهم وصلوا إلى نهاية طريق مسدود، ومن مصلحتهم أن
يحلوا مليشياتهم، إلا إنهم يبحثون مع المسؤولين اللبنانيين والعرب والدوليين عن
مخرج من هذا المأزق مع حفظ ماء الوجه.
كما وقال وزير الدفاع اللبناني الياس المر يوم الأحد 20 آب الجاري في مؤتمر صحفي،
إن الجيش سيتعامل بقسوة مع أي طرف في لبنان ينتهك الهدنة التي أقرتها الأمم المتحدة
والتي أوقفت حرب الـ 34 يوما. وأضاف المر أن "... أي صاروخ سيطلق من الأراضي
اللبنانية سيكون لمصلحة إسرائيل" في إشارة منه إلى أن هذا العمل سيمنح الدولة
العبرية ذريعة لمهاجمة لبنان. (بي بي سي العربي، 20/8/2006). وفي النشرة الإخبارية
من راديو بي بي سي باللغة الإنكليزية جاء على لسان السيد المر أن أي صاروخ يطلق من
الأراضي اللبنانية يعتبر خيانة وطنية لأنه سيمنح إسرائيل ذريعة لتدمير لبنان. وهذا
يعني أن بلغ السيل الزبى، وأن المسؤولين اللبنانيين يشعرون بفداحة ما قام به حزب
الله من منح إسرائيل الذريعة لتدمير لبنان، وأن ليس بإمكان هؤلاء المسؤولين السكوت
إلى ما لا نهاية إزاء هذه الأعمال.
الحلول الصائبة
قلنا في مقال لنا قبل أكثر من عام أن البشر لن يتبنوا الحلول الصائبة إلا بعد أن
يستنفدوا جميع الحلول السيئة ويدفعوا ثمناً باهظاً من جراء أخطائهم. هذه الحكمة
قالها تشرتشل بحق الأمريكان، ولكنها تنطبق على معظم البشر، إنها اللعنة التي ابتلت
بها البشرية في كل مكان. فهل كان من الضروري أن يتعرض الشعب اللبناني لكل هذا
الخراب من أجل أن يتوصل قادته إلى قناعة أن الحرب ليست الطريق الأمثل لحل الصراع
الإسرائيلي-اللبناني؟ وهل كان من الضروري أن تجرب الحكومات العربية الحروب منذ عام
1948 إلى الآن من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة؟ فإلى متى يبدد العرب طاقاتهم البشرية
والاقتصادية في حروب عبثية مع إسرائيل، معروفة نتائجها مسبقاً وهي الهزائم تلو
الهزائم؟
فالنظام السوري هو أجبن من أن يخوض حرباً مع إسرائيل لاستعادة هضبة الجولان، لأنه
يعرف النتائج مسبقاً وهو دماره الشامل وسقوطه الأبدي، لذلك يستأسد هذا النظام على
لبنان ويحرص على جعله ساحة لحربه مع إسرائيل بالوكالة بواسطة وكيله حزب الله، ليدفع
الشعب اللبناني الثمن الباهظ من دماء أبنائه وممتلكاته. لقد أثبت الرئيس السوري
بشار الأسد في خطابه الأخير عدم نضجه عندما تهجم على زعماء العرب ووصفهم بأنهم
أنصاف رجال واتهم الزعماء اللبنانيين من مجموعة 14 آذار بأنهم عملاء لأمريكا
وإسرائيل، التهمة التي أدانها وتبرأ منها حتى أحد نواب حزب الله في البرلمان
اللبناني والحليف للنظام السوري. كذلك النظام الإيراني هو أجبن من أن يخوض حرباً مع
أمريكا أو إسرائيل، لذلك يدفع نظام الملالي التنظيمات الإسلامية التي يموِّلها، حزب
الله في لبنان ومليشيات الجيش المهدي في العراق وغيرهما، لخوض حروب بالوكالة عنهم
مع أمريكا. نؤكد لهؤلاء أن جميع محاولاتهم العبثية هذه ستذهب إدراج الرياح ولن
يحصدوا منها غير الهزائم والمزيد من الخسائر المروعة في الأرواح والممتلكات. لقد
نجح هؤلاء في اختطاف قضية عادلة ألا وهي القضية الفلسطينية عندما هيمنوا على حركة
حماس وربطوها بتحالفاتهم مع قوى الإرهاب في المنطقة مثل منظمة القاعدة وفلول البعث
وحلفائهم التكفيريين في العراق، والعمل من أجل إفشال الديمقراطية في المنطقة. لا شك
أنهم منهزمون، لأنهم على الضد من قوانين حركة التاريخ واتجاه مساره. فكما فشل صدام
حسين ومن قبله بول بوت وميلوسوفيج وهتلر وموسوليني، كذلك سيخسر محمود أحمدي نجاد
وبشار الأسد ونصر الله وخالد المشعل ومن على شاكلتهم. وبعد كل الكوارث والخسائر
سيصلون إلى حقيقة مفادها أن ليس هناك أي حل عن طريق الحروب العبثية، وأن الحل
الصحيح والوحيد هو عبر توقيع معاهدات السلام.
يجدر بنا أن نشير إلى حقيقة مهمة يجهلها قادة الحكومات المارقة مثل حكام طهران
ودمشق وقادة الأحزاب التي تسير في فلكها، وهي أن المسار التاريخي لأي بلد مرتبط
بالضرورة بالمسار التاريخي للعالم ككل والذي تسيِّره العوامل الدولية التي تتحكم
بقوانين حركة التاريخ، ولا يمكن لأي بلد مهما كان مركزه، أن يتطور ويعيش بسلام
بمعزل عما يجري في العالم. فنحن نعيش اليوم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، مرحلة
العولمة والنظام العالمي الجديد بقيادة القطب الواحد الدولة العظمى، أمريكا. لقد
صارت مصالح الدول مترابطة ومتشابكة ولا يمكن لأي بلد مهما كان غنياً أن يعيش بسلام
وانسجام مع العالم المتحضر ما لم يخضع للقوانين الدولية ويحترمها. لذلك يسير العالم
الآن نحو التقارب والتلاقي ويسعى لإطفاء بؤر التوتر في مختلف المناطق الملتهبة التي
تهدد السلام العالمي. ولا يمكن أن يسمح هذا العالم لقادة الحكومات المارقة أن تعيث
بأمن وسلامة الشعوب. وهذا يعني أن لا مستقبل للنظام الإيراني والسوري ولا لذيولهما
من المنظمات السياسية السائرة في فلكهما.
ومما تقدم نعرف أنه قد آن الأوان لإحياء معاهدات السلام وتخليص المنطقة من الحروب
العبثية وحكم المغامرين. فكما أكد الدكتور شاكر النابلسي في مقاله القيم الموسوم
(لا خلاص للبنان إلا في معاهدة سلام دائم؟ ) في إيلاف يوم 15 آب الجاري، "يجب على
لبنان أن يقرر بحزم وقوة، ولكي تكون هذه الحرب آخر حروب لبنان مع اسرائيل ومع العرب
أيضاً، أن الوقت قد حان لتوقيع معاهدة سلام بينه وبين إسرائيل أسوة بمعاهدة كامب
ديفيد بين إسرائيل ومصر 1979، وأسوة باتفاقية أوسلو 1993 بين الفلسطينيين وإسرائيل،
وأسوة باتفاقية وادي عربه بين الأردن واسرائيل 1994."
أجل هذا هو الدرس الذي يجب على القيادة اللبنانية استخلاصه من هذه الحرب الجنونية
وأن تكون آخر حرب بين العرب وإسرائيل. نعرف من التاريخ الحديث أنه ليس هناك شعب خاض
حروباً مدمرة أكثر من الشعب المصري. فجميع الحروب التي خاضتها الحكومات العربية مع
إسرائيل انتهت بكوارث وهزائم مخزية على العرب. لأن العرب دخلوا هذه الحروب دون
تحضير ودون أن يمتلكوا أسباب النصر على عدو مدجج بسلاح العصر، العلم والتكنولوجيا
والتخطيط المسبق والتحضير الكلي وسلاح الدمار الشامل. أما العرب فقد دخلوا هذه
الحروب بالشعر الحماسي والخطابات البلاغية وسلاح عنترة بن شداد والاستعداد لتقديم
التضحيات، حتى أصبحت التضحيات بحد ذاتها هدفاً وغاية من هذه الحروب دون أي اعتبار
لقيمة الحياة. وكانت النتيجة معروفة ومتوقعة مسبقاً، هزائم وكوارث. ولكن لا توجد
كلمة هزيمة في القاموس العربي، ولا يعترفون بها، إذ يفسرون الهزائم انتصارات باهرة
والانتصارات الحقيقية هزائم مخزية. فالانتصار الوحيد الذي حققته مصر على إسرائيل هو
ذلك الانتصار الذي حققه الراحل أنور السادات في اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، التي
استرجع بموجبها جميع أراضيه المحتلة بدون إراقة دماء. ولكن يصر العرب على تسمية تلك
الاتفاقية باتفاقية الهزيمة والعار. رحم الله السادات، فقد توصل إلى الحكمة بعد أن
خاض حروباً فاشلة وتأكد من عدم جدوى الحروب، فكان شجاعاً تبنى السلام، وقد قتلته
الأيادي الآثمة ولكنه انتصر عليهم في موته، فالشعب المصري مازال ينعم بالسلام. ويا
للفضيحة حيث قام حكم الملالي في إيران بتسمية شارع في طهران باسم القاتل. ألا يدل
ذلك على إصرار هؤلاء على الجهل والإرهاب؟ العرب في تناقض مع أنفسهم، فنظرياً يمجدون
المهاتما غاندي وتعلقه بسياسة اللاعنف، ولكنهم عملياً ينظرون بازدراء إلى أي قائد
عربي يركن إلى اللاعنف في حل الصراع العربي-الإسرائيلي.
لقد أثبت الرئيس السنيورة بدموعه أمام وزراء الخارجية العرب نزاهته وإخلاصه لشعبه
وحبه الصادق لوطنه لبنان. ولكن الدموع وحدها لا تكفي في مثل هذا المنعطف التاريخي
الصاخب. فهل كان اللبنانيون بحاجة إلى دفع كل هذه التضحيات البشرية والخسائر
المادية ليتأكدوا أن الحرب مع إسرائيل لا تؤدي إلى نتيجة في صالح الشعب اللبناني؟
وهل كان الشعب المصري بحاجة إلى أن يخوض تلك الحروب العبثية المدمرة ليتأكد أن
الانتصار الحقيقي لا يمكن تحقيقه بالحروب، بل بتوقيع معاهدات السلام فقط وليس
غيرها؟
لقد آن الأوان للرئيس فؤاد السنيورة أن يعمل كما عمل الراحل أنور السادات، وكما عمل
الراحل الملك حسين، ومعه الحكومة اللبنانية والقيادات السياسية وخاصة مجموعة 14
آذار، أن يتحدى أعداء لبنان الذين يريدون أن يجعلوا منه كبش فداء وساحة لحروبهم
بالوكالة، أن ينهض ويبرم إتفاقية سلام مع إسرائيل على غرار إتفاقية كامب ديفيد بين
مصر وإسرائيل عام 1979، وعلى غرار اتفاقية وادي عربه بين الأردن وإسرائيل 1994.
خاصة وإن الظروف المحلية والعربية والدولية هي في صالح عقد مثل هذه المعاهدات وأفضل
بكثير مما كانت عليه قبل ربع قرن في عهد المرحوم السادات. فالحرب الأخيرة وفرت
الظروف المناسبة لهذه الإتفاقية الآن، ليس للبنان وحده بل ولجميع العرب أن يستخلصوا
هذا الدرس القاسي. فالحقيقة تؤكد لنا جميعاً أنه ليس في الحرب مهزوم أو منتصر، بل
هناك خسائر فقط. ولكن هناك من تكون خسائره أكثر من خسائر الآخر. وغني عن القول أن
خسائر العرب في جميع الحروب العربية ـ الإسرائيلية كانت تفوق خسائر إسرائيل بعشرات
المرات، والانتصار الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا بالإتفاقيات السلمية وتوقيع
معاهدات السلام لتنعم شعوب المنطقة بالسلام وتوفر على نفسها مزيداً من الدماء
والدموع والخراب. فهل من مجيب؟ أم ما زالوا يريدون المزيد من الخسائر إلى أن
يتوصلوا إلى هذه الحقيقة؟