د. عبدالخالق حسين
الخميس 25/ 9/ 2008
لماذا الضغوط لرفض الإتفاقية العراقية - الأمريكية؟د.عبدالخالق حسين
منذ عام تقريباً يدور سجال حاد حول الاتفاقية العراقية - الأمريكية الأمنية المزمع توقيعها بين البلدين. ومن البداية برز صراع بين مؤيدين للاتفاقية ومعارضين لها. إذ هناك معارضة داخلية وخارجية ضدها ولأسباب مختلفة، عن حسن نية أو سوئها. فأصحاب النوايا الحسنة ضد الإتفاقية من العراقيين، لديهم حساسية مفرطة ضد أية علاقة مع الغرب وبالأخص مع الولايات المتحدة الأمريكية، خشية المس بالسيادة الوطنية، خاصة وإن معظم هؤلاء تشربوا مع حليب الرضاعة بثقافة العداء لأمريكا في أجواء الحرب الباردة، والذي صار غذاءهم اليومي لحد الآن ومهما تغيرت الأحوال، حيث أصيبوا بما يسميه الماركسيون بـ"التحجر العقائدي"، وهو مرض عضال لم يكتشف له أي علاج لحد الآن، والمصيبة أن هذا المرض أكثر انتشاراً بين الماركسيين أنفسهم. ولم يخف بعض هؤلاء نواياهم، إذ كانوا يفضلون علناً بقاء حكم البعث الفاشي الصدامي على صدور العراقيين، على تحرير العراق من قبل أمريكا.
والملاحظ أن معظم العراقيين المناهضين للإتفاقية هم أؤلئك الذين يعيشون في الدول الغربية "الرأسمالية المتوحشة" بعد أن ضمنوا لأنفسهم حياة هانئة مريحة في هذه الدول، فلم يكلفهم شيئاً في المزايدات الكلامية على السيادة الوطنية، وليذهب الشعب العراقي إلى مصيره مع الإرهاب البعثي والقاعدي وعصابات الجريمة المنظمة.
وكما ذكرنا مراراً، نرى أن الجهة الأشد معارضة لتوقيع الاتفاقية هذه هي إيران التي اتخذت من العراق ساحة لها لتصفية حساباتها مع أمريكا وشن حربها عليها بالوكالة وبدماء العراقيين، رغم أن إيران استفادت أكثر من أية دولة أخرى من سقوط نظام البعث في العراق. ففي الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي إلى طهران، أمر (ولم أقل أشار أو نصح) "الولي الفقيه" السيد علي خامنئي، رئيس حكومتنا بعدم توقيع الاتفاقية، وأعطاه محاضرة في السيادة الوطنية. كما وقد شاهدنا على شاشات التلفزة كيف كان السيد المالكي في حيرة من أمره وهو جالس بجانب السيد خامنئي كتلميذ مطيع لا حول له ولا قوة. وهاهي الأنباء تفيد أن التلميذ المجتهد استجاب لتعليمات الأستاذ في مماطلة وتسويف التوقيع على الاتفاقية. وكذلك طالب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد برحيل القوات الأمريكية من العراق، وتعهد بإرسال قوات إيرانية لتحل محلها لملء الفراغ. وحكام إيران لم يعتبروا سلوكهم هذا تدخلاً فظاً في الشأن العراقي، ووجود قوات إيرانية في العراق لا يعتبر عندهم انتهاكاً لسيادته الوطنية.
لقد أفادت الأنباء، وكما جاء في تقرير لصحيفة القبس الكويتية في عددها الصادر 23/9/2008، "بان الضغوط الاميركية المكثفة على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لم تحقق اي نتيجة في توقيع الاتفاقية الأمنية ". والحقيقة، كان الأجدر بهذه الصحيفة أن تضع الخبر تحت عنوان: (الضغوط الإيرانية نجحت في عدم توقيع الاتفاقية). كما وتشير معظم تصريحات المسؤولين العراقيين أنه من المستبعد توقيع الاتفاقية قبل انتهاء ولاية الرئيس بوش. وهذا يعني، أن السيد المالكي قد أذعن أخيراً للضغوط الإيرانية، مضحياً بالمصلحة العراقية. نحن نعرف أن العراق مازال يعيش دور النقاهة بعد إجراء العملية الجراحية الكبرى على يد الجراح الأمريكي لاستئصال الورم السرطاني البعثي الخبيث الخطير. ومازال الوضع الأمني هشاً رغم التحسن الذي طرأ عليه أخيراً، إذ مازال العراق مهدداً بعودة البعث، أو تفتيته إلى إمارات إسلامية طالبانية شيعية تحت وصاية إيران، وسنية تحكمها القاعدة الوهابية.
ولم تكن وسائل الإعلام العربي أقل حماساً ضد توقيع الاتفاقية إياها، إذ نرى الكل يعزفون ذات النغمة ويرددونها في جوقة واحدة منسقة، يحذرون العراقيين، شعباً وحكومة، من توقيع الاتفاقية الأمنية هذه مع أمريكا. والسبب؟ هو كالعادة، البكاء وذرف دموع التماسيح على السيادة الوطنية العراقية. يبدو أن الأشقاء العرب والجارة إيران، هم أحرص على السيادة الوطنية العراقية من العراقيين أنفسهم، وأدرى بشعاب العراق ومصالحه من شعبه، وكأن العراقيين لم يبلغوا بعد سن الرشد ليميزوا بين ما يضرهم وما ينفعهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!
فهل حقاً، أن القصد من هذه الحملة الضارية ضد الاتفاقية هو حماية السيادة الوطنية العراقية؟ الجواب كلا وألف كلا. لأن معظم الحكومات العربية تسعى لنيل الدعم الأمريكي لها في مختلف المجالات، وتتمنى لو كان لها مثل هذه الاتفاقية مع أمريكا، فهي تعرف جيداً أن العراق هو المستفيد من هذه الاتفاقية أكثر من أمريكا، ولكن هؤلاء يريدون عراقاً ضعيفاً، غارقاً في ديونه وذا حكومة مركزية ضعيفة، ويبقى ساحة للإرهابيين، أفضل عندهم من عراق ديمقراطي، آمن، مستقر ومزدهر.
ولم يكتف الاعلام العربي بتحريض العراقيين على رفض الاتفاقية، بل وراح البعض منه يتبع أسلوباً جديداً وهو كيل الثناء والمديح للسيد نوري المالكي، لدفعه إلى جبهة المعارضة للاتفاقية، وإبرازه كما لو أنه في حالة صراع دموي مع أمريكا. فقد نشرت صحيفة السفير اللبنانية، المعروفة باتجاهها القومي العروبي والمناهض لتحرير العراق، نشرت قبل أسابيع نداءً وقعه عدد من المثقفين يطالبون فيه العرب، حكومات ومنظمات ومثقفين "بعدم ترك المالكي لوحده في صراعه مع أمريكا"، وكأن هناك معارك دموية حامية الوطيس بين أمريكا والحكومة العراقية، وأن الصراع هذا ليس بين العراق وأمريكا من جهة، وبين فلول البعث والإرهاب القاعدي والمليشيات المدعومة من إيران من جهة أخرى.
فموقف الحكومات العربية من أمريكا ومن تحرير العراق معروف، وأفضل مثال هو دولة قطر. فلهذه الدولة فضائية (الجزيرة) التي تحرض ليل نهار ضد العراق، وصارت بوقاً لمنظمة القاعدة، بينما توجد على أراضيها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم خارج أمريكا.
لذلك أود أن أؤكد للسيد المالكي والمحطين به من مستشارين ومساعدين، أنه ليس ثناءً له أن يأتيه مثل هذا الدعم الشكلي من بعض الجهات العربية وغير العربية المشبوهة، في التحريض برفض الإتفاقية. فعدم توقيع الإتفاقية كارثة على العراق ومكسب عظيم لأعدائه. إن تحريض هؤلاء ضد توقيع الاتفاقية مبني على أسوأ النوايا، وهم يلعبون على الحبلين لعبة مزدوجة. فمن جهة يحرض فريق منهم العراقيين على رفض الاتفاقية بحجة دافع الحرص على العراق وأنها تمس بالسيادة الوطنية. وفريق آخر، يؤلبون الأمريكيين على العراق ويقولون لهم، أنظروا أن حكومتكم ضحت بأكثر من أربعة آلاف جندي، ونحو 40 ألف جريحاً من شبابكم، ودفعت نحو 300 مليار دولار، في عملية تحرير الشعب العراقي من أبشع نظام دموي جائر، وهذه هي النتيجة، أن العراقيين يرفضون حتى توقيع اتفاقية أمنية مع أمريكا لمحاربة الإرهاب، وتفضل عليها العلاقة مع ألد أعداء أمريكا ألا وهي إيران. وبذلك فهم يريدون أن يعطوا للأمريكيين صورة سيئة عن الشعب العراقي بأنه شعب ناكر للجميل.
لا أحد يريد توقيع إتفاقية مع أية دولة أجنبية إذا كانت تسيء إلى السيادة الوطنية، ولكن هل حقاً هذه الاتفاقية تتعارض مع السيادة الوطنية؟ فمعظم النقاط الخلافية، إن وجدت، يمكن حلها بمواصلة الحوار الهادئ، لا بإصدار التصريحات التي يشم منها أنها إما نكران للجميل، أو وفي أحسن الأحوال، أنها للإستهلاك المحلي لإسكات المعارضين. وفي كلتا الحالتين، فهذه التصريحات لا تصب في المصلحة الوطنية. ولذلك نريد أن نوضح للسيد نوري المالكي أنه في حالة رفضه للإتفاقية، فسوف لن يسلم من اتهامات الإذعان لأوامر "الولي الفقيه" علي خامنئي، وأن العراق فعلاً واقع تحت تأثير حكومة الملاي في إيران. وهذه الوصمة سوف تبقى لاصقة بالمسؤولين العراقيين إلى أجل غير منظور، والتاريخ لا يرحم.
لذلك، ومرة أخرى، نهيب بالمسؤولين العراقيين وعلى رأسهم السيد نوري المالكي، أن لا يوفتوا الفرصة الذهبية، وأن لا يترددوا في توقيع الإتفاقية الأمنية مع أمريكا، وأن يفضلوا المصلحة العراقية على جميع الاعتبارات وأن يتحرروا من الضغوط الإيرانية وغيرها. أما الإصرار على وضع جدول زمني للإنسحاب النهائي لقوات التحالف فهو شرط تعجيزي، لأن وجود القوات هذه في العراق مرهون بوجود الإرهاب. فهل يستطيع أحد أن يحدد جدولاً زمنياً لإنهاء الإرهاب في العراق؟ فسحب القوات الأجنبية وبالأخص الأمريكية مرهون بالوضع الأمني في العراق، وجاهزية القوات العراقية في حماية أن المواطنين ودحر الإرهاب.
ومن الجهة الأخرى، فأمركا هي أحرص من غيرها في سحب قواتها من العراقي في أسرع وقت ممكن، لذلك نلاخظ أنها فعلاً بدأت بسحب قسم من قواتها فقلصت العدد من 170 ألفا جندي إلى 146، كما وقرر المسؤولون الأمريكان بسحب نحو 8 آلاف آخرين من جنودهم في شباط القادم. لذا على المسؤوليين العراقيين أن يكونوا واقعيين في تعاملهم مع القضايا الكبرى التي تخص مصير شعبهم وأن لا يذعنوا للضغوط الإيرانية والعربية التي تسعى لإبقاء العراق ضعيفاً تحت رحمتهم، وأن لا يبقى العراقيون يلدغون من جحر آلاف المرات.