د. عبدالخالق حسين
الأحد 25 /12/ 2005
تمخضت الانتخابات المصرية الأخيرة عن فوز "الأخوان المسلمون" ب 88 مقعداً من مجموع 444 مقعداً تنافس عليها المرشحون مما أثار مخاوف الكثير من العلمانيين الديمقراطيين، المصريين خاصة والعرب عامة، الذين يناضلون من أجل قيام أنظمة علمانية ديمقراطية في البلاد العربية، وفصل الدين عن الدولة، واحترام حقوق الإنسان وإقرار المواطنة الكاملة وتحريم التمييز بسبب العرق واللون والجنس والدين والطائفة. فجاءت النتائج مخيبة لآمالهم ومفرحة للتيار الإسلامي، ليس في مصر فقط، بل وفي جميع بلدان العالم الإسلامي. أعتقد أن الخوف من مجيء التيار الإسلامي إلى الحكم في مصر مبالغ به وهناك تضخيم للصورة وسأوضح ذلك لاحقاً.
الأخوان المسلمون في ضوء نتائج الانتخابات المصرية
د. عبدالخالق حسين
شخصية الشعوب
الشعوب كالأفراد، لها شخصيتها وخصوصياتها المتميزة،
تختلف بعضها عن البعض في الثقافة الموروثة والسلوك
والمزاج...الخ. فالشعب المصري على سبيل المثال، يتمتع بروح
النكتة والمرح وحبه للحياة وللفنون والتقدم والانفتاح على
العالم المتحضر..الخ. وهو أول شعب بدأ النهضة الحديثة منذ
احتلال نابليون لمصر عام 1789. وقد أنجب هذا الشعب المعطاء
عدداً كبيراً من المفكرين الكبار الذين ساهموا في النهضة
العربية الحديثة، مثل الشيخ محمد عبده والأخوين علي ومصطفى
عبدالرازق وقاسم أمين وهدى شعراوي وطه حسين واحمد لطفي
السيد وعبدالرحمن بدوي وجرجي زيدان وسلامة موسى وغيرهم
كثيرون. كذلك من أعلام الفن في الموسيقى والغناء مثل سيد
درويش وزكريا أحمد ومحمد عبدالمطلب ومحمد عبدالوهاب وأم
كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ ورياض السنباطي
وغيرهم، إضافة إلى النهضة الكبيرة في المسرح والسينما
والرواية والآداب والعلوم وغيرها. فكيف يمكن محو كل هذه
المنجزات الحضارية بواسطة التيار الديني المتفشي في الوقت
الحاضر؟
كذلك لا يمكن إلقاء اللوم على 76% من الذين امتنعوا عن
التصويت بأنهم كانوا على خطأ، فللعقل الجمعي لأي شعب حكمته
ومبرراته. لقد اختارت هذه النسبة من الشعب المصري، في
الظروف الراهنة،عدم المشاركة في التصويت كعقوبة للحزب
الحاكم والأحزاب المصرية المشاركة في الانتخابات وذلك لعدم
ثقتها بهؤلاء المرشحين ولا ببرامجهم الانتخابية. وهنا يبرز
الاختلاف في شخصية الشعبين المصري والجزائري مثلاً. فالشعب
الجزائري صوت لصالح التيار الإسلامي عام 1992، ليس إيماناً
منه ببرامج هذا التيار بل عقاباً للحكومة الجزائرية بسبب
تفشي الفساد الإداري ومعاناة الشعب من هذا الفساد والأزمة
الاقتصادية والبطالة. لذلك حقق التيار الإسلامي في الجزائر
نصراً كاسحاً. ونتيجة لانتصار الإسلاميين الجزائريين
وتصريحات قادتهم ضد الديمقراطية ووصفها بأنها كفر وإلحاد
وأنهم سيلغونها عند استلامهم السلطة، وأن الحل في الإسلام،
والقرآن دستورهم وسيفرضون حكم الشريعة الإسلامية..الخ، كل
ذلك أثار مخاوف أكثر من ثلاثة ملاين جزائري الذين اتخذوا
قراراً في الهجرة الجماعية والذي أثار بدوره هلع الدول
الأوربية وخاصة فرنسا في مواجهة ملايين اللاجئين، الأمر
الذي حدا بالحكومة الجزائرية إلى إلغاء نتائج الانتخابات
وكان ما كان من حرب أهلية دامت أكثر من عشر سنوات والتي
أودت بحياة ما يقارب ربع مليون إنسان. لحسن الحظ سلك الشعب
المصري طريقا مختلفاً عن الشعب الجزائري، فبدلاً من
التصويت للتيار الإسلامي اختار الجلوس على التل ومقاطعة
الانتخابات كإجراء أقل ضرراً لمعاقبة الحكومة على فسادها.
ما العمل؟
1- على المسؤولين، الحكوميين وغير الحكوميين، أن
يدركوا جيداً أن الديمقراطية هي سمة العصر، وأنها آتية إلى
مصر بدون ريب، إن عاجلاً أم آجلاً، وهي كالقدر، حتمية
تاريخية في التطور الحضاري. وأن مصر لا يمكن أن تبقى في
الخلف ومتحفاً لحكم العسكر، فحتى ألبانيا التي كانت متحفاً
للستالينية في عهد أنور خوجة، يتمتع شعبها الآن بالنظام
الديمقراطي، فلماذا لا تكون مصر كذلك؟ كما وعلى الرئيس
حسني مبارك أن يدرك جيداً، أن هذه هي ولايته الأخيرة في
رئاسة الجمهورية، وبإمكانه أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه
ويترك ذكراً طيباً له إذا قام هو بقيادة التحولات
الديمقراطية الحقيقية في بلاده وبصورة سلمية والحفاظ على
سلامة الشعب من الزلازل السياسية العنيفة التي تصاحب عادة
هذه التحولات إذا فلتت الأمور من يد الحكام، وبذلك يوفر
على الشعب المصري المسالم مما حصل في العراق وأفغانستان
وغيرهما من أعمال العنف. وهذا ليس بالأمر الصعب على الحاكم
إذا توفرت عنده النوايا الحسنة، خاصة وأن هناك جيش من
المثقفين المتنورين في مصر الحبيبة لو سمح لهم باستخدام
طاقاتهم في هذا المجال لصنعوا المعجزات.
2- على السلطة نبذ الموقف الانتهازي بالتزلف إلى المؤسسات
الدينية على حساب المؤسسات المدنية الديمقراطية، وليأخذوا
من الرئيس الراحل أنور السادات عبرة، حيث طارد
الديمقراطيين وتظاهر بالتدين وتلقب بالرئيس المؤمن وتقرب
إلى الإسلامويين ولكن في النهاية قتلوه. لذا فعلى السلطة
التوقف عن اضطهاد العلمانيين ولجم المنابر الديمقراطية
العلمانية، بل عليها العمل على لجم التيار الديني وخاصة
السيطرة على المدارس والمعاهد الدينية التي صارت معامل
لغسل عقول الشبيبة وأوكاراً لنشر ثقافة الكراهية والتطرف.
3- على السلطة منح إجازة العمل لحزب الأخوان المسلمين،
وهذا أفضل وسيلة للجمهم وكبح جماحهم وجر البساط من تحت
أقدامهم. فرغم المنع الصوري على حزبهم، إلا إنهم وحدهم من
خارج السلطة الذين يتمتعون بحرية العمل تحت غطاء المساجد
والمدارس والمعاهد الدينية، وفي نفس الوقت استفادوا من
الحضر الرسمي المعلن على حزبهم فاستثمروه في الدعاية
لصالحهم وراحوا يصرخون ويتباكون أمام الشعب أنهم مضطهدون
وممنوعون من العمل وبذلك كسبوا عطف بسطاء الناس، فكل ممنوع
متبوع، كما تقول الحكمة. لذا فأفضل طريقة لفضح كذبهم
ودجلهم وخلو برامجهم من أية فكرة موضوعية لحل مشاكل الشعب
هي بإجازة حزبهم وفق قانون إجازة الأحزاب والمنظمات
الاجتماعية، ولا بد من وجود قانون من هذا القبيل وبذلك
يمكن مطالبتهم، أسوة بغيرهم من الأحزاب الأخرى، بالالتزام
بالعلنية والشفافية واحترام القوانين ومحاسبتهم في حالة
مخالفتهم لهذه القوانين.
4- على مؤسسات المجتمع المدني وخاصة قيادات الأحزاب
السياسية والمنظمات الاجتماعية تفعيل منظماتهم والعمل على
إطلاق طاقات الجماهير الخلاقة ودفعهم إلى المشاركة بالنشاط
السياسي ورفع وعي الجماهير وخاصة القطاع النسوي بحقوق
المواطنة وزجها في النضال من أجل نيل حقوقها الإنسانية
والترويج للديمقراطية وروح التسامح.
5- الدفاع عن حقوق الأقليات، الأقباط والنوبيين والشيعة
وغيرهم ونشر ثقافة التآخي والمساواة ونبذ التمييز بين
مكونات الشعب والعمل على تثبيت حقوق المواطنة. فعلى سبيل
المثال لا الحصر، يشكل الأقباط ما بين 10-15 بالمائة من
الشعب المصري أن يتخلوا عن موقفهم السلبي من السياسة وأن
يخرجوا من عزلتهم والانخراط في النشاط السياسي، إذ لا يمكن
تحقيق حقوق المواطنة إلا من خلال النضال السياسي وذلك
بالمشاركة في الأحزاب والانتخابات البرلمانية والنقابات
المهنية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وليكن شعارهم
(ما ضاع حق وراءه مطالب). يقول إدموند بيرك بهذا الخصوص:
"كلما يحتاجه الشر لينتصر هو أن يقف الأخيار مكتوفي
الأيدي".
6- من الأفضل لو يتم تبني نظام انتخابي يلائم الديمقراطية
الوليدة في مصر. فالنظام الانتخابي الحالي النظام الفرنسي
First past the post ويتم على مرحلتين، الأولى يشترك فيها
كل المرشحين، والذي يحصل على أكثر من 50% من الأصوات في
المرحلة الأولى في أية دائرة انتخابية يعتبر فائزاً. أما
إذا لم يحصل أحد المرشحين على نسبة أعلى من 50% فيدخل
الأول والثاني فقط في اقتراع المرحلة الثانية في تلك
الدائرة. هذه الطريقة تصلح للدول العريقة في الديمقراطية
حيث الأحزاب فيها قليلة العدد وكبيرة الحجم، مثل بريطانيا
وفرنسا. أما في البلدان النامية والتي مازالت ديمقراطيتها
حديثة وهشة وذات أحزاب صغيرة وعديدة وأثنيات مختلفة، فمن
الأفضل لها إتباع نظام التمثيل النسبي proportional
representation في الانتخابات. وبهذه الطريقة يمكن عدم
الإفراط بأصوات الناخبين، فيكون لكل حزب أو فئة أثنية
حصتها من المقاعد في البرلمان تتناسب مع عدد الأصوات التي
حصلت عليها في الانتخابات.
الخلاصة والاستنتاج
خلافاً للمخاوف السائدة في أوساط الديمقراطيين
والحريصين على سلامة مصر، لقد كشفت الانتخابات المصرية
الأخيرة أن "الأخوان المسلمون" حتى وهم في ذروة قوتهم
وشعبيتهم وفي أفضل الظروف التي خدمتهم، ورغم حصولهم على
30% من أصوات الناخبين وخُمس مقاعد البرلمان، إلا إن نسبة
الأصوات هذه تمثل 3.75% فقط من المسجلين في قوائم التصويت
و 2.4% من مجموع البالغين الخمسين مليون نسمة و1.6% فقط من
مجموع الشعب البالغ 75 مليون نسمة. وقد حصدوا 88 مقعداً في
البرلمان لا بسبب شعبيتهم الواسعة بل نتيجة لامتناع
الأغلبية الساحقة من خصومهم عن التصويت. (يعني غاب القط
العب يا فأر!!). وهذه النسبة حققها الأخوان المسلمون وهم
في أعلى مدهم وهي نسبة ضئيلة لا تشكل خطراً على مستقبل مصر
وفق جميع المقاييس والحسابات، خاصة وأن أفضل الظروف التي
خدمت التيار الديني قد انتهت بعد 11 سبتمبر 2001 وبدأ
الجزر وانتهاء الحرب الباردة. وعلى السلطة المصرية وبالأخص
الرئيس حسني مبارك التخلي عن أنانيتهم وإتباع العقلانية
بقيادة البلاد نحو الديمقراطية عن طريق تخفيف الضغط بواسطة
صمام الأمان وإلا فالضغط يولد الانفجار ويأتي آخرون رغماً
عنهم فيرفعوا غطاء قدر الضغط المغلي دفعة واحدة كما حصل في
العراق ويحصل الطوفان. كما ويجب إطلاق الطاقات الثقافية
الهائلة الكامنة في جيش المثقفين الليبراليين في مصر
والاستفادة منها إلى أبعد الحدود. والله يحمي الشعب المصري
العزيز من كل مكروه.