د. عبدالخالق حسين
الأحد 21/ 12/ 2008
ثقافة الحضيضد. عبدالخالق حسين
إن التصرف الصبياني الحذائي الذي قام به الصحفي العراقي الشاب المغرر به، والمعروف بانتمائه البعثي-الصدري، باستخدامه الحذاء (القندرة) بدلاً من الكلمة، لم يكن غريباً، خاصة بعد كل هذه الردة الحضارية التي سببها تسلط الأيديولوجية القومية العربية وبنسختها الفاشية البعثية على حكم العراق لأربعة عقود. كذلك ليس غريباً أن يصدر تأييد حار وبمنتهى الحماس من الشارع العربي الغارق في الأمية والجهل، كما ولن نستغرب من تأييد بعض المثقفين العراقيين والعرب من الدرجة العاشرة من كتبة العرائض والذين تعج بهم مواقع الانترنت. ولكن أن يصدر هذا التأييد الحار من مثقفين كنا نكن لهم كل التقدير والاحترام من وزن الأستاذين، حسن العلوي وفاضل الربيعي، مثار استغراب شديد، وأسف بالغ، وإن دل على شيء فإنما يدل على تأزم الثقافة العربية، ومدى انحدارها إلى الدرك الأسفل من الحضيض، فأمة يتنافس مثقفوها في كيل الثناء على ثقافة القندرة، لابد وأنها في أزمة ثقافية حقيقية، و في انتظارها كوارث كبيرة وكثيرة.
ولهذه الأسباب، يجب أن لا نستغرب من استمرار الأنظمة العربية المستبدة وبقاءها جاثمة على صدور شعوبها لنحو قرن من الزمان، تقودها بالأحذية، أو بالعصا الغليظة والكلاب كما يقود راعي الغنم ماشيته. فرغم نجاح الديمقراطية في بلدان كثيرة في العقدين الأخيرين والتي كانت أكثر تخلفاً من البلدان العربية، نجد الأخيرة في عداء مستحكم ضد من يريد مساعدتها في بناء الأنظمة الديمقراطية. وتأييد هؤلاء المثقفين لاستخدام الحذاء بدلاً من الكلمة من قبل الصحفي لدليل على أن هناك خلل كبير في الثقافة العربية - الإسلامية، وتأكيد لمقولة أرسطو: (كما تكونوا يولىّ عليكم).
لا نريد أن نقلل من ثقل الإعلام البعثي الذي هيمن على رقاب العراقيين لنحو أربعة عقود، وما يلعب من دور في التضليل الآن، حيث سرق الثروات وأقام له إمبراطورية إعلامية أخطبوطية مترامية الأطراف، تغلغلت في وسائل الإعلام العربي، وبدد المليارات من الدولارات في شراء ذمم المئات من مثقفي كوبونات النفط العرب والأجانب، ليشنوا هجومهم المتواصل على العراق الجديد، وتشويه سمعته، وبالأخص هجومهم المحموم على الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي حرر الشعب العراقي من أبشع نظام دموي همجي عرفه التاريخ. والكل يعرف، بمن فيهم أصحاب النوايا الحسنة المحتقنين بالعداء لأمريكا، أن العراق ما كان له أن يتحرر من نظام المقابر الجماعية إلا بالدعم الأمريكي. وليس غريباً أن يقوم مجرمو فلول البعث وحلفاؤهم من أتباع القاعدة الإرهابية وإيران وسوريا بنشر الخراب في العراق، ليقوم مثقفو الكوبونات النفطية انتقاماً لولي نعمتهم صدام، بمحاولاتهم اليائسة لعرقلة العملية السياسية الديمقراطية في العراق وشن حملة واسعة لتشويه سمعة العراق المحرر، ونشر الإرهاب في ربوعه وترويع شعبه، وليلقوا اللوم في هذا الإرهاب على الرئيس بوش، ووصفه بالإرهابي الأكبر، وأنه يستحق مثل هذه المعاملة.
لقد كتب كثيرون من المثقفين المتنورين، العراقيين والعرب، في إدانة هذه الجريمة وأكدوا أنها أهانت الشعب العراقي أكثر مما أهانت الرئيس بوش، إذ في الحقيقة أظهرت هذه الحادثة الرئيس بوش رابط الجأش، مالكاً لزمام نفسه، حيث اتخذ وعلى الفور من العملية مثار سخرية ليبعث جو المرح. فلنتصور، ولو لحظة، حالة أي زعيم عربي لو حصلت له هذه الجريمة في مؤتمر صحفي وفي بلده عربي وألقي الحذاء عليه.. فماذا كانت النتيجة؟ ولا نريد أن نقول لو ألقي الحذاء على صدام حسين أو أصغر مسؤول من أعوانه، إذ تكون النتيجة في هذه الحالة معروفة كما تصورها وأشار إليها العديد من الكتاب الأفاضل.
فالسلوك الصبياني الحذائي من الصحفي العراقي قد تسبب في تشويه سمعة الشعب العراقي أكثر بكثير، بل كان الرئيس بوش المنتصر الوحيد في هذه العملية الصبيانية، لأنها أثبتت وجود الحرية التي وفرها لهم بوش، ولكن في نفس الوقت أثبتت أن العراقيين غير مؤهلين بعد للتمتع بالحرية وبروح المسؤولية، ولا يستحقونها. لأن المسؤولية شرط لا فكاك منه في شروط ممارسة الحرية، وحرية بلا مسؤولية لا يعرفها إلا الحيوان في الغابة. وقد أثبت هذا الصحفي البعثي أنه حيوان وليس إنسان مدرك لمسؤولياته كصحفي. وتأييد العرب الحار لهذا السلوك الأهوج ساهم في تشويه سمعتهم أيضاً. ومن ردود الأفعال السيئة على سمعة العراقيين والعرب هو ما أشار إليه بعض زعماء العالم مثل رئيس الوزراء البرازيلي، لويس أيناسيو دي لولا، ورئيس الوزراء البريطاني غوردن بروان، إلى هذه الفضيحة خلال مؤتمراتهم الصحفية على شكل نكات سوداء يسخرون بها من العرب. وعليه فلن استغرب، وكما كتب لي صديق في رسالة له في هذا الخصوص أنه ليس مستبعداً أن يجبروا الصحفيين العرب أن يجلسوا خلف حواجز زجاجية سميكة في المؤتمرات الصحفية في البلاد العربية والأجنبية لحماية الزعماء من هكذا سلوك صبياني، وبذلك ينظر إليهم بالشك والريبة وسيعاملون بحذر كإرهابيين محتملين.
يعتبر البعض رمي الحذاء على الزعماء اختراع عراقي بامتياز، فكما كان العراق مهداً للحضارة البشرية حيث اخترع أجدادهم العجلة والكتابة والعلوم والرياضيات وغيرها قبل آلاف السنين، فكذلك اخترع هذا العراقي البعثي سلاحاً فتاكاً ألا وهو استخدام الحذاء للتعبير عن احتقانه بدلاً من الكلمة. فخلال الألف سنة الماضية لم تكن للعرب أية مساهمة إيجابية في الحضارة البشرية ماعدا التفنن في صنع الحكام المستبدين من أمثال صدام حسين والقذافي وبشار الأسد، وقادة الإرهاب مثل بن لادن والظواهري والزرقاوي. والآن أضافوا إلى قائمة اختراعاتهم "مفخرة" جديدة يتباهون بها، ألا وهي رمي الأحذية على الزعماء الذين يختلفون معهم كأسلوب للتعبير.
إن أمة تفتخر بالحذاء كوسيلة من وسائل التعبير لدى صحفيها بدلاً من الكلمة، لدليل قاطع على ثقافة السقوط إلى الحضيض. إذ كما قال الكاتب اللبناني حازم صاغية: " من يدخل التاريخ بحذاء فبالأحذية يُخرَجْ منه".