د. عبدالخالق حسين
الأحد 20/ 4 / 2008
دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة
(1-2)د. عبدالخالق حسين
توضيح لابد منه
حكاية هذا المقال أو البحث "حكاية طويلة" حيث باشرت في كتابته قبل أكثر من عامين بعد قراءتي لكتاب العالم الأمريكي الموسوعي، جارد داياموند، الموسوم بـ(الانهيار Collapse) يشرح فيه أسباب انهيار بعض المجتمعات ونجاة مجتمعات أخرى. يتطرق المؤلف في أحد فصول الكتاب إلى حروب الإبادة في الدول الفقيرة، مع التركيز على ما حصل في رواندا عام 1994. وكان العنوان الذي اخترته للمقال هو (دور المالتوسية في حروب إبادة الجنس في العالم الثالث) مع التركيز على ما يجري في العراق. ولكني ترددت في نشره خوفاً من أن يساء فهمه فيوجه لي البعض تهمة تبرير حروب إبادة الجنس، وتبرئة لوردات الحروب من هذه الجرائم أو حتى تأييدها معاذ الله!! وعليه عرضت البحث على عدد من الأصدقاء، طالباً منهم رأيهم، وفيما إذا كانوا ينصحونني بنشره أم لا. معظمهم أيدوا مضمون المقال وشجعوني على نشره، مع تغيير العنوان ونشره على حلقات لأنه مطوَّل.. الخ. لكن صديقاً يعمل في عالم الصحافة في إحدى دول الخليج اختلف معي كلياً واقترح عليَّ عدم نشره قائلاً أنه لولا يعرفني ويعرف مواقفي التقدمية والإنسانية لظن أن كاتب المقال ذو نزعة فاشية..!!. كذلك جاء تأييد هذا الرأي من قارئة واسعة الإطلاع نصحت بعدم نشره في الوقت الحاضر على الأقل، لأنه سيساء فهمه.
ولهذه الأسباب أخرت نشر المقال طيلة هذه المدة إلى أن دعاني في أواخر العام الماضي الصديق الشاعر والباحث الأستاذ جمال جمعة إلى المساهمة بمقال لي غير منشور سابقاً لنشره في العدد الأول من مجلتهم الفصلية الوليدة (أقواس). فبعثت له ثلاث مقالات، من بينها هذا المقال، تاركاً له حق الاختيار. وخلافاً لتوقعاتي، فقد أختار الأخ جمال هذا المقال مع تغيير بسيط في العنوان فجعله (مقارنة بين رواندا والعراق) ونشره مشكوراً في العدد الأول من المجلة الصادر في يناير/كانون الثاني 2008.
وطيلة هذه المدة، برزت أدلة جديدة تؤكد صحة فكرة البحث، لذلك كنت بين حين وآخر أجري عليه بعض التعديلات، مضيفاً فقرات أخرى حسب ما يتوافر من معلومات جديدة لها علاقة بالموضوع. وعليه فهذه النسخة هي معدلة وموسعة عن النسخة الأصلية التي كتبت قبل عامين، معتقداً أنها تحوي أدلة أكثر ومناقشة أوسع في الاستدلال على تأكيد صحة نظرية المالتوسية ودورها في إشعال الحروب.
مقدمة
خلال أربعة عقود الماضية وقعت حروب إبادة الجنس في مناطق عديدة من العالم الثالث وتحت مختلف الواجهات والأسباب. فقد حصلت حروب الإبادة في تيمور الشرقية وجزيرة جاوة على أيدي الجيش الإندونيسي في الستينات من القرن الماضي، كذلك في عدد من دول جنوب شرقي آسيا. كما وقعت مجازر رهيبة في رواندا عام 1994 بين الهوتو والتوتسي بذريعة الاختلاف القبلي راح ضحيتها 800 ألف إنسان، وحصل اقتتال في الجزائر عام 1992 ومازال مستمراً لحد الآن هلك فيه نحو ربع مليون مواطن بذريعة الحرب بين الإسلام السياسي والحكومة الجزائرية، ومازالت حروب الإبادة مستمرة في دارفور جنوب السودان لأسباب عنصرية وبدعم من الحكومة السودانية. وفي جمهورية الكونغو وقعت حروب بين قوات الحكومة وقوات المعارضة خلال العشر سنوات الأخيرة قتل فيها نحو أربعة ملايين نسمة.
كذلك ارتكب حكم البعث الصدامي في العراق مجازر ضد الأكراد سميت بعمليات الأنفال قتل فيها نحو 180 ألف إنسان، ومجزرة حلبجة الكردية التي قتل فيها بالغازات السامة نحو خمسة آلاف نسمة أي معظم سكان المدينة الصغيرة، ومجازر إبادة ارتكبتها حكومة صدام حسين ضد الشيعة العرب في وسط وجنوب العراق لسحق انتفاضة آذار عام 1991 قتل فيها نحو 300 ألف نسمة. ثم الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) التي قتل فيها نحو مليونين من الجانبين، وأخيراً وليس آخراً، حروب الإبادة في العراق بعد سقوط حكم البعث الفاشي على أيدي فلول الحكم البائد وحلفائهم التكفيريين، والتي أخذت طابع طائفي وديني وعرقي والمقاومة الوطنية ضد الاحتلال... الخ. ومازال القتال جار بمنتهى الوحشية في مناطق عديدة من العالم، مثل أفغانستان وغزة وباكستان وغيرها. كما وأعتقد أن هناك بلداناً كثيرة في العالم الثالث وخاصة عدد من البلاد العربية مرشحة لمثل هذه الحروب.
أسباب حروب الإبادة في العراق
حاول عدد من المفكرين والمهتمين بالشأن العراقي إيجاد تفسير لظاهرة حرب الإبادة الجماعية الوحشية الجارية في العراق منذ سقوط نظام البعث في 9 نيسان/أبريل 2003 وإلى الآن. فالسبب الظاهر للعيان لهذه الإبادة عند معظم الأوساط الإعلامية والسياسية يعود إلى الصراع الطائفي (سني- شيعي)، حتى اقترح بعض دهاقنة السياسة في العراق وأمريكا، أن الحل الوحيد لهذه المجزرة هو تقسيم العراق إلى كانوتات طائفية. أعتقد أن دعاة الفيدرالية الطائفية لم يفهموا طبيعة المجتمع العراقي ولا الأسباب الحقيقية وراء هذه المجازر. إن إلقاء تبعات القتل المجاني والانتحار الجماعي على الطائفية وحدها خطأ كبير، فالتعددية الطائفية في العراق كانت موجودة منذ 14 قرناً ولم يعرف الشعب العراقي هذا النوع من الصراع الدموي بسببها، فما الذي فجر هذا البركان ليهلك الحرث والنسل في القرن الحادي والعشرين؟
لذا أعتقد أن إلقاء اللوم على الطائفية لا يقدم تفسيراً مقنعاً لما يجري في العراق لأن القتال ليس متوقفاً بين السنة والشيعة، بل هناك اقتتال بين المليشيات الشيعية-الشيعية، وكذلك بين مجموعات سنية-سنية، وضحايا من أتباع الديانات الأخرى، كالمسيحيين والصابئة والأيزيدين، وتشريدهم من ديارهم. كما ولحقت الإبادة الفقراء الغجر المعدَمين، ولم يسلم من القتل حتى الحلاقين والخبازين والفرق الرياضية والنساء السافرات، واللواتي يسقن السيارات. كما ويقوم القتلة بتفجير المدارس والمستشفيات دون أي تمييز بين ديانة أو مذهب الضحايا. فهل يكفي أن نلقي تبعة هذا القتل العشوائي على الاختلاف المذهبي والعرقي ونركن إلى هذا الرأي لنرتاح من عناء التفكير؟ أو نميل إلى نظرية المؤامرة كما عند الذين يرددون أن هذا القتل هو من تخطيط أمريكا والصهيونية العالمية، وحرب صليبية جديدة مخططة ضد الإسلام والمسلمين للسيطرة على البلاد العربية ومنابع النفط، وأن أمريكا خططت مسبقاً لتدمير العراق؟
لقد اكتفى معظم الباحثين في تفسير ظاهرة الحروب وحروب الإبادة إلى أسبابها المباشرة المرئية منها فقط مثل الخلافات الدينية والطائفية والعنصرية والقبلية...الخ، ورغم أهمية هذه الأسباب ودورها المباشر في إشعال فتيل الحروب في العالم الثالث، إلا إننا نعتقد أنهم أغفلوا سبباً مهما، وربما هو السبب الأساسي غير المرئي، ولكنه المحرك لتفعيل الأسباب المرئية المباشرة لإشعال فتيل الأزمة، ألا وهو الانفجار السكاني، أي المالتوسية.
ما هي المالتوسيّة؟
تُنسب المالتوسية الى الاقتصادي البريطاني، القس توماس مالتوس Thomas Maltose (1766-1834) الذي حذر من خطر تكاثر السكان في العالم في كتاب له نشر عام 1798. ناقش فيه أن البشر يزدادون وفق متوالية هندسية (1، 2، 4، 8، 16، 32....)، بينما المواد الغذائية تزداد وفق متوالية عددية (1، 2، 3، 4، 5...الخ). فمثلاً إذا كان سكان بلد ما 20 مليوناً عام 2000، ويتضاعف كل عشرين عاماً، فسيكون تعداد نفوسه 40 مليوناً عام 2020، و80 مليوناً عام 2040 و160 مليوناً عام 2060 وهكذا... بينما الإنتاج الغذائي لا يزداد بهذه الوتيرة. وهذا يعني أن سرعة الزيادة في السكان تفوق سرعة الزيادة في إنتاج الغذاء. وإذا فاقت زيادة السكان إنتاج الغذاء، فلابد وأن تتوقف هذه الزيادة بسبب المجاعة والأمراض والحروب. هذا ملخص نظرية الاقتصادي القس مالتوس.
لاقت هذه النظرية في معارضة شديدة من الاقتصاديين والسياسيين في العالم، ولكنها في نفس الوقت حفزت الخبراء والحكومات، ولأول مرة في التاريخ، على إجراء دراسات ديموغرافية منتظمة، ومنها بدأت عمليات إحصاء السكان بشكل دوري كل عشر سنوات. وفي القرن العشرين كانت الأحزاب الشيوعية واليسارية بصورة عامة من أشد المعارضين لنظرية مالتوس، فكانوا يروجون ضدها ويصفونها بأنها كذبة استعمارية إمبريالية، الغرض منها تبرير المجاعات في العالم، وإن سبب هذه المجاعات ليس الزيادة في السكان وإنما النهب الذي تتعرض له شعوب العالم الثالث من قبل الدول الاستعمارية والإمبريالية، وعدم توزيع الثروة بصورة عادلة على سكان المعمورة، وأن التقدم العلمي والتكنولوجي والنظام الاشتراكي العادل في المستقبل كفيل بتوفير الغذاء للجميع، ولا داعي لتحديد النسل. قد تكون هذه التبريرات صحيحة في ظروف معينة عندما كانت الحروب والأوبئة تحصد الأرواح بالجملة، خاصة والكثافة السكانية كانت واطئة جداً قبل القرن العشرين. ولكن هل صحيح السماح للنمو السكاني إلى ما لا نهاية ودون حدود أو ضوابط، خاصة بعد اكتشاف اللقاحات ضد الأوبئة والتحسن المطرد في الخدمات الصحية؟
والمفارقة أن أول دولة فرضت قانون تحديد النسل وتنظيم العائلة قسراً على شعبها كانت جمهورية الصين الشعبية (الشيوعية) قبل أكثر من ثلاثة عقود. وبتبنيها برنامج تحديد النسل بصرامة، فقد قدمت الحكومة الصينية أعظم خدمة إنسانية نبيلة ليس لشعبها فحسب، بل وللبشرية جمعاء. ورغم أن هذا الإجراء رافقته حملات إعلامية ظالمة ومضلِلَة من قبل وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان في العالم وبالأخص في الغرب من باب النفاق والانتهازية ولأغراض سياسية بحتة، إلا إن المحصلة النهائية كانت في صالح البشرية دون ريب. فلولا هذه السياسة العقلانية الصارمة لكانت نفوس الصين الآن نحو ثلاثة مليارات نسمة، أي ما يعادل نصف سكان المعمورة تقريباً. وهذا العدد يشكل كارثة بيئية رهيبة، بينما نفوس الصين الآن حوالي مليار وثلاثمائة مليون نسمة فقط!!! وقد رافقت تحديد النسل هذا خطط تنموية بشرية واقتصادية رشيدة ناجحة جداً، حققت بموجبها دولة الصين أعلى نسبة في الناتج القومي الإجمالي (GDP) في العالم والتي هي بمعدل 10 بالمائة سنوياً حيث غزت البضائع الصينية أسواق العالم بما فيها الدول الغربية المتقدمة.
ما علاقة المالتوسية بحروب الإبادة في العالم الثالث؟
خصص العالم الدكتور جارد داياموند، فصلاً كاملاً من كتابه (الانهيار Collapse) لحرب إبادة الجنس في رواندا التي وقعت عام 1994 والتي راح ضحيتها نحو 800 ألف ضحية معظمهم من التوتسي. ذكر المؤلف أن رواندا تعتبر من أفقر البلدان الأفريقية، وأكثرها كثافة بالسكان، فنسبة الزيادة السنوية نحو 4.1%، أي أن عدد السكان يتضاعف كل 17 سنة، حيث تبلغ الكثافة السكانية فيها حوالي 760 نسمة في الميل المربع، أي أعلى من بريطانيا (610) وتقترب من هولندا (950). في حين تتمتع بريطانيا وهولندا بمكننة الزراعة وغزارة في الإنتاج، بينما الزراعة في رواندا بدائية والشعب فقير جداً. وكانت حصة الفرد من الأرض الزراعية في رواندا نحو 2 أيكر قبل عقود، انخفضت إلى أقل من ربع هذه المساحة قبيل المجازر عام 1994. وهناك ازدحام خانق في السكن، فكل عائلة مكونة من ثلاثة أجيال تعيش في بيت واحد يفتقر إلى أبسط شروط العيش الصحي، ونحو 70% من الشعب دون الثلاثين من العمر، معظمهم يعانون من البطالة والفقر والفاقة. وفي أواخر الثمانينات أصدر البنك الدولي قرار التقشف ضد رواندا بسبب انهيار أسعار القهوة، المادة التي يصدرها هذا البلد. وهكذا انقسم الشعب إلى فقراء وفقراء جداً. لذا يؤول يعطي دياموند دوراً للانفجار السكاني في حرب الإبادة حيث بلغ عدد السكان نقطة حرجة لم يستطع معها اقتصاد البلد إلى سد احتياجاتهم في الغذاء وأسباب البقاء على الحياة.
قد يعترض البعض على هذه الفرضية قائلاً أن هناك العديد من الدول مزدحمة بالسكان مثل الدول الأوربية وخاصة هولندا، فلماذا لا تحصل فيها حروب الإبادة؟ الجواب هو أن الكثافة السكانية العالية وحدها لا تكفي لإشعال حروب الإبادة، بل عدم التوازن بين عدد السكان ومصادر الرزق، أي كثافة سكانية عالية مع هبوط شديد في الاقتصاد، أي تفشي الفقر. فإذا بلغت النسبة النقطة الحرجة، أي أن مصادر الغذاء لا تكفي لسد حاجة السكان، فعندها يحصل الانفجار والاقتتال بين الناس وتحت مختلف الذرائع، دون أن يدركوا السبب الحقيقي غير المرئي، بل يؤولونه إلى أسباب أخرى مرئية مثل الانقسامات الطائفية والعرقية والصراعات السياسية وغيرها. فمثلاً هناك كثافة سكانية عالية في بنغلادش، ولكن لم تقع حروب إبادة في هذا البلد. السبب في رأيي هو أن بنغلادش رغم فقرها، إلا إنها تواجه اقتتالاً من نوع آخر وهو الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والأعاصير وتفشي الأوبئة التي تحصد الأرواح بالجملة والتي تحقق نفس الغرض الذي تحققه الحروب. صحيح إن أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم هي هولندا، ولكن الناتج الاقتصادي في هذا البلد يفوق حاجة سكانه إلى حد التصدير وتحقيق ثراء كبير وناتج قومي عال جداً.
فالمالتوسية تفرض نفسها دون إرادة البشر ودون وعيهم وتحت واجهات مموهة. وعلى العكس من هولندا، كانت قد عاشت القبائل العربية في الصحراء دون كثافة سكانية عالية، ولكن موارد الصحراء شحيحة لا تكفي إلا لعدد قليل من البشر، أي عدم التوازن بين عدد السكان وموارد الصحراء، لذلك فالبدو من سكان الصحراء كانوا في حالة مجاعة دائمة وحروب دائمة. وهذه الحروب كانت تعمل على حفظ التوازن بين عدد الأفواه الآكلة وكمية الأرزاق الشحيحة في الصحراء. كما وكانت بعض القبائل تقوم بعملية الوأد قبل الإسلام، أي قتل الأبناء وخاصة الإناث عند ولادتهن، لا خوفاً من العار كما يعتقد البعض، بل خوفاً من الفقر، فكما جاء في القرآن: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطأً كبيرا- سورة الإسراء /31). ومعنى الإملاق الفقر. فكان الوأد وسيلة من وسائل تحديد النسل عند العرب ولكن بطريقة بدائية ولا إنسانية. لذا نوضح ونؤكد ثانية، أن الكثافة السكانية وحدها لا تكفي لتفجير الوضع وإشعال الحروب الأهلية، بل عدم التوازن بين عدد السكان والإنتاج الاقتصادي، أي عندما يكون الناتج القومي غير كاف لإشباع حاجة السكان إلى حد نقطة الانفجار الذي يؤدي إلى إشعال الحروب الأهلية وتحت مختلف الواجهات.
مقاربة بين العراق ورواندا
العوامل التي ذكرها المؤلف داياموند في كتابه المذكور أعلاه في رواندا تشبه ظروف العراق إلى حد ما. فالعراق مثلاً، رغم سعة مساحته (438 ألف كم مربع) والكثافة السكانية ليست عالية بالنسبة للمساحة الكلية، إلا إن نحو 80% من مساحته صحراء غير صالحة للزراعة والسكن. لذلك فالعراق كغيره من بلدان العالم الثالث، يعاني من الانفجار السكاني، والكثافة السكانية عالية جداً. إذ كان تعداد نفوس العراق عام تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921م، نحو 1.5 مليون فقط، تضاعف هذا العدد إلى 26 مليوناً حسب إحصاء عام 1997، أي بعد 77 عاماً فقط، ويقدر الآن بنحو 30 مليوناً، أي تضاعف العدد عشرين مرة خلال ثمانية عقود فقط. ومما زاد في الطين بلة، أن رافق هذه الزيادة الهائلة في السكان تدهور شديد في خصوبة التربة واتساع رقعة التصحر وارتفاع الملوحة، وشح المياه، مما أدى إلى أن ترك عدد كبير من الفلاحين الزراعة والفلاحة، وصار الاعتماد الكلي على موارد النفط واستيراد الغذاء، وحصلت هجرة واسعة من الأرياف إلى المدن الكبرى مثل بغداد والموصل والبصرة وكركوك وغيرها دون توفير الإمكانيات في هذه المدن لتقبل الأعداد الهائلة من المهاجرين للسكن فيها.
وفي العراق كما في رواندا، تجد كل عائلة مكونة من ثلاثة أجيال يعيشون معاً بازدحام خانق في دار واحدة صغيرة تفتقد لأبسط الشروط الصحية (مدينة الثورة مثالاً). والشباب بلا عمل أو أمل مما أدى إلى احتقان شديد. كذلك قضى نظام البعث على الطبقة الوسطى وأحال معظم الشعب العراقي إلى فقراء وفقراء جداً نتيجة لسياساته الطائشة وحروبه العبثية والحصار الاقتصادي، وحصر الثروة في طبقة صغيرة من الأثرياء جداً من أنصاره.
قد يعترض البعض على أنه من المجحف تشبيه العراق برواندا، فرواندا بلد فقير جداً، بينما العراق بلاد الرافدين ثري جداً وعائم على بحر من النفط، وله تاريخ عريق حيث كان مهداً للحضارة، وعلم البشرية الكتابة..الخ. كل هذا صحيح، ولكن ما دور التاريخ إذا كان الحاضر بمنتهى السوء، وما قيمة هذه الثروة إذا كان الشعب محروماً منها؟ وهل استفاد الشعب العراقي من نفطه وثرواته الهائلة طيلة حكم البعث؟ إن الثروة النفطية صرفت على عسكرة المجتمع وشن الحروب على دول الجوار، إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على حكم البعث بعد غزوه للكويت. وبذلك فرغم وجود النفط، إلا إن أبناء الشعب كانوا غير مستفيدين منه. وهذا الوضع يشبه المريض المصاب بداء السكري، إذ ترتفع نسبة السكر في دمه ولكن خلايا جسمه في حالة جوع لغياب مادة الإنسولين اللازمة لإدخال السكر إلى داخل الخلايا لكي تتم الاستفادة منه. وهذه الحالة توصف بـ(المجاعة في مجتمع الوفرة). فالشعب العراقي رغم تمتعه بثروة نفطية هائلة، ولكنه كان محروماً من ثرواته، وبذلك فحالته تشبه حالة الشعوب الفقيرة جداً مثل رواندا.
يتكون الشعب في رواندا من 85% هوتو و14% توتسي و1% من الأقزام pygmies . وهناك مئات الألوف من الزيجات المشتركة بين الهوتو والتوتسي. وقد اعتمد الاستعمار الألماني والبلجيكي على تغذية وتكريس التمييز العرقي بين مكونات الشعب، فقربوا التوتسي (الأقلية) في إدارة شؤون الدولة، وأصروا على ذكر الانتماء العرقي، هوتو أو توتسي، في الهوية الشخصية. وهذا الإجراء ساهم في تصعيد العداء والكراهية بين الفريقين عبر الأجيال.
وفي العراق، يتكون الشعب من 55-65% من الشيعة العرب، 15-20% من السنة العرب، و15-20% كرد و5% أعراق وديانات أخرى. (هذه النسب تقريبية). كذلك هناك مئات الألوف من الزيجات المشتركة بين السنة والشيعة والمكونات الأخرى. كما وحاول الاستعمار البريطاني في العراق زرع التمييز الطائفي والعرقي بمنح السنة العرب امتيازات في إدارة الدولة على حساب المكونات الأخرى، وقد ساهم قادة الشيعة الدينيين في هذا التمييز أيضاً بسبب مواقفهم الخاطئة من الإنكليز الذين حرروا العراق من الإستعمار التركي العثماني، وتبنوا سياسة معاداة الدولة الوليدة وعدم دعمها كما يعمل السنة العرب اليوم. ولكن هذا التمييز الطائفي كان في طريقه إلى الزوال لولا اغتصاب التيار القومي العربي وخاصة بنسخته المتطرفة المتمثلة في حزب البعث وأيديولوجيته الفاشية، للسلطة منذ عام 1963 والذي عمل على إذكاء سعار الطائفية من أجل استغلال أبناء الطائفة لدعم حكمهم. وهذه السياسة ساهمت في تنامي الأحقاد بين مكونات الشعب والتي بلغت الذروة في عهد حكم البعث الصدامي. وكما في رواندا، قضى البعث على الطبقة الوسطى وأفقر الجميع، وصار العراقيون فقراء وفقراء جداً، وذلك بسبب الحروب العبثية والحصار الاقتصادي بعد غزو الكويت.
وكما ذكرنا في مناسبات أخرى، أن تعددية مكونات السكان العرقية والدينية والطائفية موجودة في معظم شعوب العالم، وأغلبها مرت في صراعات دموية وحروب دينية وطائفية خلال مراحل تطورها، كما حصل في أوربا من حروب طائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في عصور النهضة والأنوار. ولكن التعددية هذه لا تكفي لوحدها تفجير الحروب فيما بينها ما لم تكن هناك منافسة شرسة بين هذه المكونات على السلطة ومصادر الرزق. فتكاثر السكان وتناقص الأرزاق لا بد وأن تصل إلى النقطة الحرجة التي تؤدي في النهاية إلى تفجير الصراعات الدموية لتخفيض عدد السكان إلى مستوى يتناسب مع مصادر الأرزاق. وهذه هي سنة الطبيعة كما يذكرها تشارلس داروين في كتابه أصل الأنواع، أي الصراع بين الأنواع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح. وتوماس مالتوس سبق تشارلس داروين بهذا الخصوص، فالمالتوسية هي التعبير الاقتصادي عن الداروينية في مبدأ الصراع بين البشر في المنافسة على مصادر الرزق من أجل البقاء.
الشعوب المتحضرة في العالم الأول استقرت تلقائياً على مستوى معين من عدد النفوس وذلك نتيجة لظروف موضوعية ولمتطلبات الحياة المتمدنة المعقدة، فاستخدمت بموجبها الوسائل الحضارية في تحديد النسل وعن وعي وقناعة. بينما الشعوب المتخلفة تستمر في الازدياد بلا ضوابط إلى أن تتدخل الطبيعة بأساليبها الفضة القاسية في تحقيق التوازن بين عدد السكان ومصادر الغذاء وذلك عن طريق الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية. فالآن ابتليت الشعوب الأفريقية وغيرها من شعوب العالم الثالث الفقيرة بمرض الأيدز مثلاً، والذي أصاب نحو 25% من السكان بين مصابين بهذا المرض أو حاملين لجرثومة الـ HIV ، وهذه النسبة في تصاعد مطرد، إضافة إلى الحروب الأهلية في بعض المناطق. كذلك تؤدي حالة عدم التوازن بين السكان ومصادر الغذاء إلى عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية وتصاعد موجة الجريمة المنظمة في هذه البلدان كما هو الحال في جمهورية هايتي الفقيرة جداً وبعض الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية، كلها وسائل بشعة تفرضها الطبيعة لتنفيذ المالتوسية. كما وتوفر المالتوسية البيئة الملائمة لتفشي الأيديولوجيات المتطرفة في المجتمعات الفقيرة والمأهولة بالسكان، تعرقل التنمية البشرية والاقتصادية والتقدم الحضاري، وبذلك تنجب قيادات سياسية متخلفة تقود مجتمعاتها إلى صراعات دموية وعدم الاستقرار السياسي، كما هي الحال في معظم بلدان العالم الثالث.
يتبع