د. عبدالخالق حسين
الأثنين 20/7/ 2009
الخيار الكردي، بين الاستقلال والفيدراليةد.عبدالخالق حسين
مقدمة توضيحية
عاتبني بعض الأصدقاء الأكراد بأني أتجنب الكتابة في القضية الكردية، وأنه يجب عدم الصمت إزاء ما يجري في كردستان من تحولات وصراعات ومشاكل، سواء بين القوى الكردستانية ذاتها، أو بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية من توترات في العلاقة تنذر بشر مستطير. وكان جوابي دائماً هو: بما إن معظم كتاباتي تدور حول القضية العراقية، وأن كردستان جزء من الدولة العراقية الفيدرالية، فكتاباتي تخصها أيضاً.
ثم جاءتني قبل يوم رسالة من صديق كردي عزيز، حريص كل الحرص على وحدة وسلامة الشعب العراقي بجميع مكوناته دون أي تمييز، كتب لي قائلاً: "إذا حدث هذا يا عزيزي، فلا يمكن التكهن بحجم الكارثة التي ستحل بالعراق، لا جريحاً يلعق جراحهُ كي يطيب،... وخوفي هنا على الأبرياء والطيبين فقط...الخ".
أعرب صديقي الكردي عن قلقه هذا بعد أن قرأ مقابلة أجراها الصحفي الأمريكي أنتوني شديد في صحيفة «واشنطن بوست» مع السيد نيجيرفان بارزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان العراق، ونشرت صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية ترجمتها العربية، جاء فيها: "أن الإقليم والحكومة العراقية اقتربا من الحرب أكثر من أي وقت مضى منذ غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وتحدث بلهجة متشائمة عن التوتر الذي تصاعد بين الجانبين إلى حد اعتبره المسؤولون الأميركيون أخطر تهديد يواجهه العراق. وفي مقابلتين منفصلتين تناول نيجيرفان بارزاني ومسعود بارزاني، رئيس الإقليم، الجمود في جهود حل النزاع مع حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وكشفا عن أنه لولا وجود القوات الأميركية في شمالي العراق لكان القتال قد اندلع في أكثر المناطق سخونة." (الشرق الأوسط، 19/7/2009).
وبناء على ما تقدم، فإني بالتأكيد أشارك الحريصين على سلامة الشعب العراقي بجميع مكوناته، مشاعرهم وقلقهم على العراق من مغبة السياسات الخطيرة، والغرور الذي ركب رؤوسهم دون أي مبرر، فالفضل الأكبر في تحرير العراق يعود إلى أمريكا وتضحيات جنودها بالدرجة الأولى، وليس للحكام الجدد. لذلك فالمطلوب منهم التواضع وليس التبجح وتخريب ما حققته لهم القوات الأمريكية والدولية من مكتسبات. وعليه، رأيت من واجبي أن أدلوا بدلوي وأقول كلمتي بكل صراحة ودون أية مجاملة، حول ما يجري في العراق من استعدادات لخوض مجازر لا تبقي ولا تذر فيما لو قدر لها أن تحدث.
مشكلة الأخوة الأكراد وبمختلف اتجاهاتهم السياسية، عدا القلة منهم، ونتيجة للمظالم التي تعرضوا لها طوال التاريخ، صاروا حساسين جداً إزاء أي نقد لبعض التصرفات التي يمكن أن نراها ضارة بحقهم وحق العراق ككل، فنراهم يتطيرون بسرعة وينفعلون بشدة من أية نصيحة صادرة حتى من أقرب أصدقائهم من العرب الذين وقفوا إلى جانبهم في الملمات، فسرعان ما ينهالون عليهم بتهمة الشوفينية وأن هؤلاء النقاد أو الناصحين، لا يختلفون عن البعث المقبور ...الخ، لا لشيء إلا لأن هذا النقد جاء من عراقي عربي. لذلك أتمنى على الأخوة الأكراد أن يتعاملوا مع هذه القضية بمنتهى الصبر والعقلانية بعيدين عن التشنج والتوتر، مع أخذ المستقبل ومصلحة الجميع نصب أعينهم، وأن يعوا ما يخططه أعداء العراق للإيقاع بهم جميعاً، وإذا ما نجح الأعداء في تنفيذ مخططاتهم، لا سامح الله، فإنها ستجلب الوبال والبلاء على الجميع.
القضية الكردية
لم يكن الشعور القومي في العهد العثماني قوياً لدى الشعوب الإسلامية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية آنذاك، بل كان الشعور الموحد هو الانتماء الإسلامي، إلى حد أنه عندما دخلت القوات البريطانية العراق في الحرب العالمية الأولى، خرجت العشائر العربية الشيعية استجابة لفتاوى رجال الدين الشيعة في حرب الجهاد ضد "الكفار" دفاعاً عن دولة الإسلام وليس بدوافع وطنية أو قومية، ورغم عدم اعتراف الدولة العثمانية بالمذهب الشيعي.
ولكن بعد الحرب العالمية الأولى تغير الموقف، فتولد الشعور القومي لدى هذه القوميات، ومنها القومية الكردية. وفعلاً أقر الحلفاء للأكراد حقهم في تأسيس دولتهم الخاصة بهم في معاهدة سيفر في 10/8/1920، التي من بين بنودها قيام دولة كردية بموجب المواد 62، 63، و64، وذلك وفق مبدأ الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن: (حق الأمم في تقرير مصيرها). ولكن رفض الحلفاء فيما بعد هذا الحق، فألغيت هذه البنود وفق معاهدة لوزان في عام 1923 التي حلت محل معاهدة سيفر وأقرت تقسيم تركة الدولة العثمانية المنهارة فيما بينها ووضعها تحت انتداب الدول المنتصرة (بريطانيا وفرنسا). وبذلك حصل ظلم فاحش بحق الأكراد، حيث تم تقسيم بلادهم، كردستان، على أربع دول محيطة بها وهي إيران والعراق وتركيا وسوريا. ومنذ ذلك التاريخ بدأت المأساة الكردية ومعها مأساة شعوب هذه الدول مجتمعة ولحد هذا اليوم.
كردستان العراق
وإنصافاً للتاريخ، فإن أكثر ما تمتع به أكراد المنطقة من حقوق هم أكراد العراق دون غيرهم من أكراد دول أخرى في المنطقة. ففي تركيا مثلاً منع الأتراك عليهم حتى تسميتهم بالكرد، فأطلق عليهم (أتراك الجبال)، كما ومنعوا من استخدام لغتهم الكردية أو تسمية أبنائهم بأسماء كردية لحد وقت قريب. أما في العراق فأكثر ما لحق بهم من ظلم كان في العهد البعثي الصدامي، حيث بلغ الجور إلى حد حروب الإبادة الجماعية وخاصة في جرائم حلبجة والأنفال، والتهجير القسري، الداخلي والخارجي، وتدمير آلاف القرى. كل هذا مفهوم ولا يمكن نكرانه.
ولكن الحقيقة يجب أن تقال، أن الظلم لم يلحق الأكراد وحدهم من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة وخاصة في عهد حكم البعث الفاشي، بل لحق جميع مكونات الشعب العراقي ولكن بنسب مختلفة. والظلم بطبيعة الحال كان بسبب غياب الديمقراطية ودولة المواطنة والمساواة بين المواطنين، والإفراط في المركزية. لذلك كان المؤمل والمفترض أن يطبق في عراق ما بعد حكم البعث الصدامي، نظام ديمقراطي يضمن فيه حقوق جميع الأطياف بدون أي تمييز قومي أو ديني أو طائفي.
ولكن يبدو أن بعد تحرير العراق، حصل رد فعل عنيف للموروث السياسي من العهود السابقة. فمقابل الإفراط في الحكم المركزي سابقاً تولد عند الأكراد نزعة الإفراط والتطرف في اللامركزية إلى حد أنهم راحوا يطالبون بدولة شبه مستقلة مع إبقاء رابط ضعيف أوهى من خيط العنكبوت مع الحكومة المركزية في بغداد باسم الفيدرالية. ولذلك كتبوا لهم مشروع دستور أقره البرلمان الكردستاني، هو أقرب إلى دستور الدولة المستقلة منه إلى دستور إقليم ضمن دولة فيدرالية. فهذا الدستور له الأولوية على الدستور الفيدرالي، وحكومة الإقليم هي فوق الحكومة المركزية...الخ
فالأكراد هنا يريدون من جهة، التمتع بالاستقلال التام بإقليمهم، بما فيه ممارسة السياسة الخارجية وعقد الاتفاقيات مع الدول الأجنبية، والحفاظ على القوات العسكرية (البيشمركه) بإمرة رئيس الإقليم الذي صار هو القائد العام للقوات المسلحة، والسيطرة على الثروات الطبيعية في الإقليم للإقليم، مع الحفاظ على حصة الإقليم من الثروات الطبيعية في العراق، وعدم السماح للحكومة المركزية بأي دور في الإقليم، بينما يريدون مشاركتهم هم في حكم العراق وحصتهم من الميزانية العامة دون المساهمة فيها. والآن لا يسمح لأي عراقي عربي دخول إقليم كردستان إلا بفيزة (تأشيرة دخول) كما لو أنه يدخل دولة أجنبية، وهذا النوع من النظام فريد من نوعه وغير مسبوق في العالم كله وفي جميع مراحل التاريخ، لا في الإتحاد السوفيتي سابقاً، ولا في الولايات المتحدة الأمريكية، أو أية دولة فيدرالية في العالم الآن، ولا حتى في الوحدة الأوربية.
يبدو أن القادة الأكراد، كغيرهم من القادة العراقيين الجدد، لم يستخلصوا أي درس وعبرة من تاريخهم القريب. لقد جاءتهم فرصة ذهبية بعد ثورة 14 تموز 1958، وكان زعيم الثورة الراحل عبدالكريم قاسم عرف بتعاطفه مع القضية الكردية وحبه للشعب الكردي بشهادة السيد مسعود البارزاني. ولكنهم فوَّتوا الفرصة وتحالفوا مع البعثيين الشوفينيين، وساهموا في ذبح ثورة 14 تموز وقيادتها، ودفعوا الثمن باهظاً فيما بعد على شكل سلسلة من المجازر الرهيبة ضدهم، والتي بدأت بمجزرة الجزار صديق مصطفى في السليمانية في حزيران 1963، وما تلاها من مجازر الإبادة فيما بعد.
واليوم وبفضل الأمريكان، وبدلاً من أن يحل العراقيون مشاكلهم المتراكمة عبر قرون، خطوة خطوة وفق فن الممكن، نراهم مرة أخرى يعملون على تفويت الفرصة والتهيؤ لإعادة المجازر والتهديد بالحروب. في الوقت الذي نؤكد فيه أن بإمكان الأخوة الأكراد أخذ استقلالهم إذا شاءوا وبالوسائل السلمية ودون الحاجة بالتهديد بشن الحرب على بغداد، ولكن ماذا بعد الاستقلال، هل ستهدأ الأمور فيما بينهم ليعيشوا بسلام؟ أم هي بداية لحروب طاحنة بين الأكراد أنفسهم كما حصل في التسعينات؟ وهل ستسلم الجمهورية الكردية الوليدة من بطش الدول المجاورة مثل إيران وتركيا وسوريا، كما حصل لجمهورية مهاباد في إيران في الأربعينات من القرن الماضي؟ أليس أفضل لهم البقاء مع الدولة العراقية الفيدرالية الديمقراطية والحفاظ عليها والعمل على تكاملها تدريجياً، بدلاً من التهديد بتدميرها؟
الحل المقترح
وعليه وكما يبدو من العلاقة المتوترة بين بغداد وأربيل، وما جاء في مشروع الدستور، ومن تصريحات المسؤولين الأكراد التي تؤكد ما لديهم من احتقانات متراكمة ضد العراق، وأنهم لن يقبلوا بأقل من دولة مستقلة، وهذا من حقهم وفق مبدأ تقرير المصير وكما يعتقد البعض، وأنا منهم، أن الأكراد في نهاية المطاف سيحققون دولتهم ونحن نبارك لهم ذلك.
لذلك أقترح على رئيس الحكومة المركزية، أياً كان، السيد نوري المالكي الآن، أو غيره في المستقبل، أن تطرح على القيادة الكردستانية أن يختاروا واحداً من إثنين: إما أن يختاروا دولة كردية مستقلة، وبالسرعة الممكنة وبأقل خسائر، أو القبول بالحكم الذاتي (لا مركزي)، ضمن الفيدرالية العراقية الديمقراطية على غرار الفيدراليات المتبعة في العالم، مع حق الحكم المركزي في إدارة المالية والثروات الطبيعية، و شؤون العلاقات الخارجية، والدفاع عن الحدود، والجيش العراقي الموحد بما فيه البيشمركه الذي يجب أن يكون خاضعاً لقيادة المركز...الخ.
وعليه، أقترح الحل الجيكوسلوفاكي لهذه المشكلة. فعندما انهار النظام الشيوعي في جمهورية جيكوسلوفاكيا التي كانت مؤلفة من الجيك والسلوفاك، طالب السلوفاك نظاماً أشبه بما يطالب به أكراد العراق اليوم. وهنا أعترض الجيك وقالوا لهم نحن أيضاً نريد أن نستفتي شعبنا الجيكي فيما إذا يقبل بهذا النوع من الفيدرالية. وبالتالي عرض الجيك على السلوفاك، إما أن يقبلوا بالحكم الذاتي ضمن الجمهورية الجيكوسلوفاكية الفيدرالية، أو أن يأخذوا استقلالهم التام، فالجيك لا يقبلون بهذا النوع من الفيدرالية شبه المستقلة. ولذلك أخذ السلوفاك استقلالهم، وتكونت جمهوريتان، جمهورية الجيك، وجمهورية السلوفاك، وكفى الله المؤمنين شر الجدال والقتال.
أعتقد ينبغي على الحكومة المركزية في بغداد أن تتبنى الحل الجيكي للعراق والصراع الدائر بينها وبين حكومة الإقليم، ومن حق مكونات الشعب العراقي (من غير الأكراد) بأن يستفتوا فيما إذا كانوا يوافقون على هذا النوع من الفيدرالية شبه المستقلة مع الأكراد، وبأن تضع أمام القيادة الكردستانية أحد الحلين: إما أن تختار الفيدرالية الحقيقية التي أشرنا إليها في أعلاه، أو أن تأخذ الاستقلال التام بحدودها في 8 نيسان 2003 مع بعض التعديلات التي يفرضها الواقع السكاني في أية بلدة من البلدات الحدودية. فإذا أصبح العيش المشترك بن العراق وكردستان مستحيلاً، عندئذ، فـ"أبغض الحلال عند الله الطلاق".
وإذا اختارت القيادة الكردستانية خيار الدولة المستقلة، فنحن بدورنا نتمنى للشعب الكردي كل الموفقية والنجاح في دولته المستقلة، وأن تكون العلاقة بين جمهورية كردستان الوليدة وجمهورية العراق علاقة أخوية شبيهة بالعلاقة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وليست كالعلاقة بين الهند وباكستان، إذ لا نريد أن يهدر الشعبان طاقاتهما البشرية والاقتصادية في الحروب والدمار من أجل هذه البقعة من الأرض المتنازع عليها أو تلك، بل توفير هذه الطاقات للبناء والتقدم. كما وتقع على أمريكا مسؤولية أخلاقية في مساعدة الشعبين في هذا الحل ودون إراقة المزيد من الدماء.
ونصيحة أخرى أقدمها للأخوة الأكراد، وهي أن يستفيدوا من تجربة حركات القومية العربية، بجناحيها الناصري والبعثي، التي كانت تحلم بالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، فأهدرت كل طاقاتها في طلب المستحيل. فشعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) جلب الكوارث على الشعوب العربية. لذلك أحذروا التقليد!!، أرجو أن لا نقرأ يوماً شعار (أمة كردية واحدة ذات رسالة خالدة). فهذه الشعارات القومجية والأحلام الفنطازية جلبت الكوارث الماحقة على الشعوب التي رفعتها.
كما وأتمنى على الأكراد، أن يتجنبوا مبدأ (كل شيء أو لا شيء)، لأن الذي يصر على هذا المبدأ ينتهي دائماً بلا شيء. أنظروا إلى ما حصل للفلسطينيين الذين أصروا دائماً على مبدأ (كل شيء أو لا شيء) وتحرير الأرض من النهر إلى البحر، وإلقاء إسرائيل في البحر لتأكلهم الأسماك. نعلم الآن أن الذين صاروا طعاماً للأسماك كانوا من الفلسطينيين والعراقيين وغيرهم من العرب.
لذلك نقول: اللهم أحفظ العراق من العراقيين وأحفظ كردستان من الأكراد.
العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الإلكتروني الشخصي:
http://www.abdulkhaliqhussein.com /