د. عبدالخالق حسين
الثلاثاء 1/ 7/ 2008
إشكالية الليبرالية في العالم العربي *
د. عبدالخالق حسين
مقدمة
شهد العالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، نهضة حضارية واعدة، اتسمت بتقبل قيم الليبرالية وروح التسامح والانفتاح على الغرب، والاستفادة من علومه وأفكاره وقيمه النبيلة. بدأت حركة الليبرالية على أيدي الرواد الأوائل في مصر، رفاعة الطهاوي، ومحمد عبده، وطه حسين وغيرهم من طلبة البعثات الذين أكملوا دراساتهم في الغرب، فحاولوا نقل ما تعلموه وشاهدون إلى وطنهم. وحصل مثلك ذلك في بلاد الشام والعراق وبلدان شمال أفريقيا وغيرها. ونتيجة لذلك، بزغت نهضة حضارية، كانت تبشر بالخير بعد قرون من سبات عميق في ظلام دامس.
ولكن على العكس من منطق الأشياء، بدأت الأمور تتراجع خلال الخمسين سنة الأخيرة، إذ سار الخط البياني لتطور الديمقراطية والليبرالية من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، حيث شهد العالم العربي خلال هذه الفترة انحساراً لقيم الليبرالية، رافقه تصاعد المد الإسلامي السياسي المتشدد، الرافض للثقافات الأخرى، مع الغياب شبه الكامل لقيم الليبرالية وروح التسامح وحق الاختلاف وتقبل الفكر الآخر المختلف.
فيا ترى، ما هي الأسباب التي أدت إلى انتعاش الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين، وتراجعها في النصف الثاني منه وإلى الآن؟ وهل هذا التراجع ناتج عن قصور في أداء الليبراليين العرب، وخطأ في أسلوب عملهم، وعزلهم عن الجماهير كما يتهمهم البعض؟ أم لظروف موضوعية أقوى من قدراتهم، أدت بالضرورة إلى هذه النتيجة؟ نحاول في هذه المداخلة الإجابة على هذه التساؤلات وتفسير الظاهرة من منظور ليبرالي.
شروط نجاح الليبرالية
بدءً، لا بد من توافر شروط موضوعية معينة في أي مجتمع، لنجاح أية حركة فكرية أو سياسية، والفلسفة الليبرالية ليست استثناءً. إن حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية هو التأكيد على حرية الفرد وحقه في الاختيار، مع احترام حقوق وحريات الآخرين. وعلى الضد من الاتهامات التي يوجهها لها خصومها، الليبرالية لا تعني التحلل من الأخلاق أو الاستهانة بالأديان ومعتقدات الآخرين، لأنها في الحقيقة تطالب بحرية الاختيار للجميع وتنبذ فرض أية عقيدة بالإكراه. والجدير بالذكر أن الليبرالية حاجة ضرورية لمجتمع بلغ مستوىً متقدماً من الرقي الحضاري، وهذا يعني أنها ليست من أوليات متطلبات المجتمع الذي لم يصل بعد إلى إشباع حاجاته الأساسية (basic needs).
فما هي حاجات الإنسان؟
إن حاجات الإنسان متعددة وكثيرة ومتنامية بلا حدود مع الزمن وفق تطوره الحضاري، ابتداءً من المجتمع البدائي، وصعوداً إلى المجتمع الراقي في سلم التحضر، وذلك كالآتي:
1 –غريزة الحفاظ على الحياة، أي الحاجة للطعام والشراب،
2- غريزة الحفاظ على النوع (species)، أي الحاجة لإشباع غريزة الجنس،
3- توفير المأوى، للحماية من قسوة الطبيعة،
4- توفير الأمان من المخاطر التي تهدد الحياة، مثل الأمراض والعدوان والحيوانات الضارية،
5- توفير التعليم والثقافة والتنمية البشرية،
6- إشباع الحاجات الروحية في تحقيق الرفاهية، وذلك بتوفير الفنون الجميلة والكماليات المادية.
7- توفير الديمقراطية والليبرالية وحرية الفرد لإشباع حاجات الإنسان في تأكيد ذاته وإطلاق طاقاته في الإبداع والإنتاج، واستقلال شخصيته وشعوره بأهميته في المجتمع.
ومن هنا نرى أن الحاجات الأربعة الأولي هي الأساسية لضمان البقاء واستمرارية النوع، وهي الحاجات التي لا يستغني عنها أي إنسان في جميع مراحل التطور الاجتماعي. والحاجة الخامسة تأتي في مرحلة وسطى من التقدم الحضاري، كما هو الحال في معظم بلدان العالم الثالث. أما الديمقراطية والليبرالية وحرية التعبير، فتأتي في المرتبة المتقدمة من سلَّم التطور الحضاري، أي بعد أن نجح الإنسان في تأمين إشباع الحاجات الأساسية للبقاء والحفاظ على النوع من الانقراض، وظهور شريحة واسعة من المثقفين في الطبقة الوسطى من المجتمع. فالإنسان الجائع أو الجاهل أو المريض أو المحروم من الأمن والاستقرار، لا مجال لديه للتفكير في الديمقراطية والحرية والفلسفة الليبرالية، إما لأنه لا يعرفها، أو لأنه يعتبرها من الترف والكماليات وليست من أولويات المرحلة. إذ ماذا يعمل الإنسان الأمي الجاهل بحرية التعبير إن لم يكن لديه ما يقوله وما يعبر عنه؟
نستنتج من كل ذلك أن الديمقراطية والليبرالية يحتاجهما الإنسان في مجتمع قطع شوطاً واسعاً في سلم التطور الحضاري بعد أن نجح في إشباع حاجاته الأساسية الأخرى.
والسؤال الآخر هو: أية مرتبة تحتلها المجتمعات العربية الآن في سلم تطورها الاجتماعي حسب مراحل إشباع الحاجات، المادية والثقافية والروحية؟
وجوابنا هو، أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية (عدا النفطية) مازالت في مراحل تحقيق إشباع الحاجات الأساسية الأولية. كما وهناك عدة ألغام موقوتة تهدد هذه المجتمعات بانفجارات مدمرة ربما على شكل حروب أهلية في المستقبل إن لم تسارع الحكومات لنزع فتيلها قبل فوات الأوان، وهي كما يلي:
أولاً، الانفجار السكاني، حيث يتضاعف عدد السكان البلدان العربية كل ربع قرن.
ثانياً، تدهور الوضع الاقتصادي، وتفشي الفقر المدقع في قطاعات واسعة من الشعوب العربية بوتيرة متسارعة.
ثالثاً، تفشي الأمية والجهل، (40% بين الذكور، و60% بين الإناث)، كما وهناك نقص مريع في المعرفة، أي الأمية الثقافية. (تقرير الأمم المتحدة عام 2002 و 2003 عن «التنمية البشرية في العالم العربي»).
رابعاً، اضطهاد المرأة التي تشكل 50% من الشعوب العربية، وهدر حقوقها وشل طاقاتها ومنعها من المشاركة في عملية البناء.
خامساً، الثقافة العربية-الإسلامية السائدة ذات الجذور العميقة في هذه المجتمعات، هي بالأساس ضد الديمقراطية والليبرالية وحرية الفرد، وحقوق المرأة.
وسادساً وأخيراً، تفشي الفساد الإداري والمحسوبية وعدم الاكتراث بالمسؤولية في مؤسسات الدولة.
هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى خلق تربة خصبة لتفشي التطرف الإسلامي بين الشباب المحروم من أبسط متطلبات الحياة. ونظراً لضخامة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها الشعوب العربية، وفشل حكوماتها شبه العلمانية في إيجاد حلول ناجعة لها، تقدمت قوى الإسلام السياسي، طارحة شعارها المعروف (الحل في الإسلام). لذلك لم يجد الشباب العاطل عن العمل سوى الانخراط في هذه الأحزاب الإسلامية المتطرفة على أمل تحقيق أحلامها في حياة أفضل، إما في هذه الدنيا أو في الآخرة، خاصة وليس في هذه الدنيا ما يغري الشباب العربي بالتعلق بالحياة، بينما ضمَّن له دعاة الإسلام السياسي جنة النعيم بعد الموت. ومن هنا نعرف أن الظروف الحالية التي تعيشها المجتمعات العربية هي ليست في صالح الليبرالية.
أسباب صعود الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين
والسؤال المهم الآخر الذي يتبادر إلى الذهن هو، إذا كان الوضع العربي بهذا السوء الآن، فكيف انتعشت الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين، رغم أن نسبة الأمية والجهل والفقر كانت أعلى بكثير مما عليه الآن؟
وجوابنا على ذلك كالآتي:
في النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن هناك انفجار سكاني، إذ كان عدد السكان في معظم البلاد العربية أقل من عشر العدد الحالي. وكان الحكم بيد النخب المثقفة التي كانت في علاقة ود وتعاون وحتى تحالف مع الغرب، وكان هناك نوع من العزل أو مسافة بين مجتمع النخب المثقفة والسواد الأعظم من الشعب الذي كان غارقاً في ظلام الجهل والأمية، ومعظمه من الفلاحين الفقراء القاطنين في الريف. ورغم معانات هؤلاء من الفقر وظلم الإقطاع، ولكن لتفشي الجهل بينهم، كانوا يعتبرون الظلم كالقدر المكتوب عليهم لا مفر منه. فالظلم وحده لا يكفي للتمرد عليه، بل الوعي والشعور بالظلم هو الذي يدفع المظلوم إلى التمرد على الظالم. أما النخب المثقفة فكانت تقيم في المدن وفي عزلة تامة عن الجماهير البائسة، لم يعكر عليها صفو حياتها أحد، تمارس حياتها كما تريد، تجلب كل ما ينتجه الغرب من حداثة وأفكار بحرية دون مقاومة تذكر. لذلك انتعشت الفنون والآداب، وقيم الليبرالية في هذه الأوساط، وخاصة في مصر ولبنان.
والعامل الآخر في صالح الليبرالية آنذاك أنه لم تكن هناك تنظيمات الإسلام السياسي المتطرف لملاحقة الليبراليين، إذ لم يكن الإسلام مسيَّسياً كما هو اليوم، بل كانت وظيفته تأكيد العلاقة بين الخالق والمخلوق، يدعو إلى مكارم الأخلاق، وإلى المحبة والتسامح والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع وفق الشعار السائد آنذاك: (الدين لله والوطن للجميع). ففي تلك الفترة كان الإسلام السياسي مازال في مرحلته التكوينية أو الجنينية، يتهيأ للمرحلة اللاحقة. وقد جاءت ثماره خلال الخمسين سنة الأخيرة. وهذا يفسر لنا انتعاش الليبرالية في تلك الفترة.
أسباب تراجع الليبرالية خلال الخمسين سنة الأخيرة
في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت الانقلابات العسكرية ذات الأيديولوجية القومية العربية في عدد من البلدان العربية، مصر والعراق وسوريا وليبيا وغيرها. ورغم سلبياتها الكثيرة، إلا إن هذه الانقلابات أو الثورات، حققت نجاحاً لا يستهان به في مجال الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع أو شبه الاقطاع، ونشر التعليم المجاني والإلزامي لكل الشعب، وتضييق الفجوة بين المدينة والريف. ونتيجة لهذه السياسة، ظهرت أجيال من المتعلمين، محرومة من حقوقها، ولكنها واعية لمظلوميتها، زحفت على المدن وخاصة العواصم، بحثاً عن حياة أفضل، مكوِّنة أوراما سكانية كبيرة على أطراف المدن التي ازدحمت بالمهاجرين من الريف، تفتقر مساكنهم إلى أبسط الشروط الصحية. كما ونقلت هذه الجموع الغفيرة معها قيمها الريفية والقبلية إلى المدن، وراحت تزاحم سكانها الأصليين في أسلوب حياتهم وعاداتهم وقيمهم المدنية، فأذيب مجتمع النخب المثقفة في زحام من الريفيين المهاجرين، وخلق وضعاً اجتماعياً هجيناً غير متجانس وغير مألوف، وصراع بين قيم المدينة والريف مما أعاد المجتمع إلى الخلف.
تزامن ذلك مع صعود الإسلام السياسي المتمثل في حزب الأخوان المسلمين، والذي تبنى عقيدة الوهابية المتشددة التي تؤمن بإلغاء الآخر وممارسة العنف باسم الجهاد في سبيل الله ضد من يخالفهم ويعارضهم في تحقيق غاياتهم بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وتطبيق مبدأ (الحاكمية لله). وانتعشت الأحزاب الإسلامية بانتعاش الثروات النفطية في الدول الخليجية التي صرفت عشرات المليارات من الدولارات في دعم الإسلام السياسي ونشر تعاليم العقيدة الوهابية المتشددة في البلاد العربية وغيرها، مستفيدة من التطور السريع الذي حصل في تكنولوجية الاتصال والمواصلات في نشر تعاليمهم وإيصالها إلى الجماهير على نطاق واسع.
المفارقة هنا، أن نجاح الحكومات العربية في نشر التعليم المجاني بين الجماهير الفقيرة، من الابتدائية إلى الجامعة، حمل معه بذور مشاكل اجتماعية كبيرة، ألا وهي عدم قدرة هذه الحكومات على خلق وظائف كافية لاستيعاب الملايين من المتعلمين. فوجد المتعلمون أنفسهم في أحضان البطالة، وصيداً سهلاً للقوى الإسلامية بكيل الوعود المعسولة لهم في الدنيا والآخرة، لتزج بهم في الجهاد ضد هذه الحكومات.
عوامل أخرى ضد الليبرالية في العالم العربي
إضافة إلى ما تقدم، إن كفة الصراع بين التيارات الفكرية والسياسية في العالم العربي ليست في صالح التيار الليبرالي، نوجزها كالتالي:
1- تواجه الليبرالية ثلاثة تيارات فكرية- سياسية فاعلة على الساحة في البلاد العربية وهي: التيار الإسلامي، والتيار القومي العروبي، والتيار اليساري الماركسي. ورغم الصراعات العنيفة بين هذه التيارات التي هي في حالة عداء مستفحل فيما بينها، إلا إنها تلتقي في مسألتين رئيسيتين وهما: العداء للغرب وقيمه الحضارية، والعداء لليبرالية باعتبارها من نتاج الحضارة الغربية، وضد أيديولوجياتهم. كما ويستخدم هؤلاء الاتهامات الجاهزة ضد الليبراليين العرب إلى حد التخوين والتكفير والتحقير، إضافة إلى تكوين صورة نمطية دونية عنهم، تصل إلى حد اتهامهم بالعمالة للغرب وخيانة أوطانهم.
2- هناك تحالف غير معلن بين الحكومات العربية مع التيار الإسلامي بشقيه الديني والسياسي (الإسلاموي)، حيث تستخدم الحكومات الإسلام في مواجهة أفكار القوى العلمانية والديمقراطية، وبالأخص الليبرالية منها وتكفيرها، والتضييق على الليبراليين ومطاردتهم حتى في معيشتهم.
3- في مجال الإعلام، تمتلك التيارات المعادية لليبرالية وسائل إعلام واسعة من فضائيات وإذاعات وصحافة، ومواقع الإنترنت، إضافة إلى المساجد والمنابر الدينية التي هي طبعاً تحت سيطرة الإسلاميين، وفتح عشرات الألوف من المدارس الدينية، يربون الصغار على التطرف ونشر ثقافة الكراهية وروح العداء ضد الليبرالية والليبراليين ولغير المسلمين. كما ويتمتع هؤلاء بحرية واسعة في نشر أفكارهم دون رقيب، بينما تضيِّق وسائل الإعلام والحكومات الخناق على الكتاب الليبراليين، فلم يكن لديهم سوى بعض مواقع الانترنت في الخارج، ومعظمها محجوبة في البلاد العربية.
4- يواجه الليبراليون معوقات كثيرة في نشر كتبهم. فنحو 95% من الكتب المعروضة في المكتبات ومعارض الكتب في البلدان العربية هي دينية وتراثية. وفي كثير من الأحيان يلجأ مشايخ الإسلام إلى إصدار فتاوى لمنع نشر كتب الليبراليين، وحتى هدر دمهم واعتبار هذه الكتب "أخطر من السموم القاتلة وأشد تحريماً من المخدرات" (1).
5- تمتلك التيارات العربية المحافظة خزين هائل من التراث الإسلامي والموروث الاجتماعي (culture) يستخدمونه ضد الليبراليين، إضافة إلى استفادتهم من تفشي الجهل والأمية والفقر في صفوف الجماهير العربية البائسة. بينما الليبرالية حركة حديثة، تعتمد بالأساس على الثقافة ونمو الوعي عند الإنسان.
6- استخدام العنف: يلجأ خصوم الليبراليين، وخاصة الإسلام السياسي المتشدد، إلى استخدام العنف ضد من يختلف معهم في الفكر والرأي، فكثير من الليبراليين تمت تصفيتهم على أيدي الإرهابيين في البلاد العربية. كما تمت تصفية أكثر من 130 صحفياً وكاتباً علمانياً ليبرالياً في الجزائر على أيدي الإسلامويين في التسعينات من القرن الماضي. كذلك قتل أكثر من خمسين صحفياً عراقياً ونحو 300 من مفكرين ليبراليين وأطباء وأساتذة جامعيين على أيدي الإرهابيين التكفيريين في العراق منذ سقوط حكم البعث عام 2003.
ونتيجة لتفشي الإرهاب الإسلاموي، استغلت بعض الحكومات العربية هذه الحالة الشاذة، فراحت أجهزتها الأمنية هي الأخرى تطارد الليبراليين وغيرهم من المعارضين، تهددهم بالقتل وتحسبها على "جهات مجهولة" والتي تعني المنظمات الإسلامية المتطرفة.
الليبراليون المتشائمون
ونظراً للصعوبات المذكورة أعلاه التي تواجهها الليبرالية العربية، تسرب اليأس إلى نفوس بعض الليبراليين من ذوي النفس القصير، فأصيبوا بالتشاؤم، وطالبوا زملاءهم من الكتاب بالاعتراف بالفشل ورفع راية الاستسلام، معتقدين أنه لا أمل من إصلاح العرب.
هذا الموقف مرفوض طبعاً، فالتحولات الحضارية لا تخضع لرغبات الليبراليين وخصومهم، ولا يمكن حرق المراحل، إذ كما قال هيغل: "لا يمكن تجاوز مرحلة تاريخية إلا بعد أن تستنفد شروط وجودها". فالتغيير الحضاري لا يحدث وفق رغبة النخبة، بل وفق مستوى العقل الجمعي للمجتمع. ومهمة النخب المثقفة وقادة الفكر هي نشر الفكر تنويري لقيادة المجتمع إلى مستويات أعلى في تكوين العقل الجمعي، ولكن ثمارها ليست آنية، بل تتحقق في المستقبل. فمعظم فلاسفة التنوير الأوربي لم يشهدوا ثمار جهودهم، بل ظهرت بعد مماتهم بعشرات ومئات السنين.
والشعوب الأوربية التي سبقتنا في هذا المضمار، كانت في القرون الوسطى تعيش حالة مشابهة لما تعيشه شعوبنا العربية من تخلف في الوقت الراهن، حيث كانت الكنيسة تسيطر على مصائر الناس، وأخبار محاكم التفتيش وحرق عشرات الألوف من النساء بتهمة السحر، وملاحقة الفلاسفة والعلماء بتهمة الهرطقة، وتعذيبهم وحتى حرقهم أحياءً، مازالت حية في ذاكرة الأوربيين.
مستقبل الليبرالية في العالم العربي
نستنتج من كل ما تقدم، أن الليبرالية هي حركة جديدة على الشعوب العربية رغم أنها بدأت أوائل القرن الماضي، فمائة عام فترة قصيرة في عمر الشعوب، ولم تفشل كما يتصور البعض، بل تواجه صعوبات لأسباب موضوعية كما ذكرنا، وأمامها نضال عسير لتبلغ مرحلة متطورة في سلم الرقي الحضاري. ورغم شراسة القمع والمقاومة العنيفة التي يواجهها كل فكر جديد في أول الأمر، إلا إنه مع الزمن لا بد وأن ينمو ويقوى على حساب القديم إلى أن ينجح وتتبناه غالبية أبناء المجتمع وتعتاد عليه. هكذا بدأت الديمقراطية والليبرالية في الغرب حيث واجهت مقاومة شرسة، ثم تقدمت تدريجياً إلى أن انتصرت وصارت جزءً لا يتجزأ من تقاليد وأعراف هذه الشعوب.
هناك مقولة تفيد أن الدول المتقدمة تمثل مستقبل الدول المتخلفة. وعليه فالعالم العربي يعيش اليوم في نفس المرحلة التي عاشتها أوربا قبل 300 عام. وكما نجح الليبراليون الأوربيون في تحرير شعوبهم من التخلف وسيطرة الكنيسة ومحاكم التفتيش، فلا بد وأن ينتصر الليبراليون العرب كذلك. وهذا لا يعني أن العرب يحتاجون إلى 300 عام من الآن ليحققوا الليبرالية، بل سيحققونها في فترة زمنية أقصر بكثير، ربما في ثلاثة عقود، وذلك بسبب العولمة والثورة المعلوماتية والتمازج بين الشعوب.
إن الصراع المحتدم في المجتمعات العربية الآن، هي نتيجة التغيير السريع الذي أدى إلى انقسام المجتمع إلى مؤيد ومعارض لهذا التغيير، الحالة التي أسماها عالم الاجتماعي العراقي الراحل علي الوردي بـ (التناشز الاجتماعي). لذا فإن الآلام التي تعاني منها هذه المجتمعات هي آلام المخاض العسير لولادة المجتمع الجديد المتحضر المنسجم مع الحضارة البشرية. ومد الإسلام السياسي هو نتيجة منطقية لفشل التيارين، اليساري الماركسي، والقومي العربي، في حل الأزمات الخانقة. لذا فتيار الإسلام السياسي هو الآخر يحمل معه بذور فشله وفنائه معه، لأنه ليس لديه ما يقدمه لحل الأزمات المستعصية، بل سيفاقمها. وما لجوء التيار الإسلامي إلى العنف والإرهاب إلا دليل قاطع على إفلاسه الفكري والسياسي والأخلاقي. فمرحلة الأيديولوجيات الشمولية قد ولت وانتهت إلى غير رجعة، وما يبدو على السطح من تراجع الليبرالية هو نسبي وشكلي ومؤقت، ينتظر دوره القادم الحتمي.
حصلت حادثة في مصر في الثلاثينات من القرن الماضي ذات مغزى، مفادها أن أستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد، رشح للانتخابات النيابية عن منطقة معظم سكانها من الفلاحين الأميين. فأشاع منافسه أن لطفي السيد ديمقراطي، وأن الديمقراطية تعني الكفر والإباحية والتحلل من الأخلاق، وتجيز للرجل الزواج من المحرم..الخ. وبعد أيام جاء لطفي السيد ليواجه الجماهير وهو لم يعلم بما أشيع عنه، فسأله الناس فيما إذا كان ديمقراطياً، ولم يكذب الرجل الخبر، فأجاب بالإيجاب، ويمكن أن نتصور ما حصل له.
سبحان مغيِّر الأحوال، إذ نجد اليوم حتى (الأخوان المسلمون) يدَّعون أنهم ديمقراطيون. ولكن تهمة الإباحية والتحلل من الأخلاق انتقلت هذه المرة إلى الليبرالية والليبراليين. وعليه، فكما حصل للديمقراطية بالأمس، فليس مستبعداً أن يدعي قريباً حتى ألد أعداء الليبرالية بأنهم ليبراليون، إنها مسألة وقت. إن عصر الأيديولوجيات الشمولية قد انتهى، والمستقبل هو للديمقراطية والليبرالية، لذا فنحن متفائلون بالمستقبل، وهذا هو منطق التاريخ.
هوامش:
* أعد هذا البحث استجابة لدعوة كريمة تلقاها الكاتب من هيئة تحرير مجلة (الديمقراطية) التي تصدر عن مؤسسة الأهرام، بصدد إعداد ملف عن إشكالية الليبرالية في العالم العربي ... وكيف أن غيابها على مدار الخمسين سنة الماضية قد ترك تأثيرات سلبية على المجتمع بسطوة الأفكار القومية والأفكار الدينية على حساب هذه القيم التي كانت لها تاثيرات إيجابية في مجتماعتنا في فترات سابقة. وقد نشر المقال في المجلة في عددها الصادر في شهر أبريل/نيسان من هذا العام.
1) موقع آفاق: (فتوى من كبار العلماء في السعودية: كتب أدونيس ونزار قباني أخطر من السموم القاتلة وأشد تحريماً من المخدرات). http://www.aafaq.org/news.aspx?id_news=4541