د. عبدالخالق حسين
السبت 1/5/ 2010
لمصلحة من هستيريا المطالبة بتدويل تشكيل الحكومة؟؟د.عبدالخالق حسين
قال دانتي: "إن قعر جهنم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد عندما تكون القيم مهددة بالخطر"
استلمتُ رسائل من عدد من القراء الأعزاء يعاتبونني فيها بأني لم أقف على الحياد من الصراع الدائر بين القوى السياسية العراقية حول تشكيل الحكومة الجديدة. وكان جوابي لهم أنه ليس من الوطنية بشيء أخذ موقف الحياد عندما يكون الوطن مهدداً بالخطر، وبالأخص بخطر عودة البعث. فالحياد في المواقف مطلوب فقط إذا كان الصراع يدور بين مكونات متشابهة في المواقف الوطنية، والاختلاف بينها مسألة اجتهادات وبنوايا صادقة، ولكن ما يجري الآن على الساحة العراقية أن بعض القوى بدأت تكشف عن نواياها الحقيقية التي تهدد بعودة البعث، وإجهاض الديمقراطية الناشئة وبأساليب خبيثة فيها خلط الأوراق للتشويش على الرأي العام، وفي هذه الحالة من السذاجة أن نجلس على التل متفرجين بذريعة الحياد، فـالساكت عن الحق شيطان أخرس.
لقد عانى الشعب العراقي كثيراً من قتل ودمار وتشريد من قبل حكم البعث الفاشي خلال أربعة عقود، لذلك من السذاجة السماح له بالعودة ثالثة وتحت أي غطاء كان. فمن تجربتنا المريرة خلال أربعين عاماً من حكم التيار القومي العروبي والبعثي، نعرف أساليب البعث الخبيثة وغدره وقدرته على التلون في اغتصاب السلطة بمختلف الوسائل الممكنة، وهذه المرة يريد العودة عن طريق صناديق الاقتراع متسربلاً بلبوس الديمقراطية ومتخفياً وراء أسماء خادعة.
ففي جميع المناسبات التي تسلق فيها البعث الحكم كان عن طريق الآخرين. ففي انقلاب شباط عام 1963 الدموي جاء البعث بمساعدة الضباط القوميين والناصريين، فأغرقوا البلاد بأنهار من الدماء، ولما حاولوا إزاحة من جاء بهم إلى السلطة للإنفراد بالحكم، تغذّى بهم عبدالسلام عارف قبل أن يتعشوا به، فأزاحهم عن السلطة في انقلابه عليهم في تشرين الثاني من العام نفسه بعد أن انحطت سمعة البعثيين إلى الحضيض بإرهابهم الغاشم. واعتقدَ العراقيون وقتها أنه من المستحيل عودة البعث ثانية بعد كل ما ارتكبوه من جرائم فضيعة بحق مئات الألوف من الوطنيين العراقيين. ولكنهم اتبعوا طريقة جهنمية في عام 1968 في عهد الرئيس الراحل عبدالرحمن عارف، الرجل المسالم، فاستطاعوا اغتصاب السلطة هذه المرة عن طريق خدعهم لعدد من ضباط القصر الجمهوري، ولكن بعد أسبوعين فقط انقلبوا على من أتى بهم إلى الحكم، وركلوهم إلى الخارج واستحوذوا على السلطة لوحدهم، فعاثوا في البلاد والعباد فساداً وقتلاً وتشريداً لخمسة وثلاثين عاماً بحكمهم الجائر، وقائمة كوارثهم باتت معروفة للقاصي والداني، ولولا أن قيض منطق التاريخ أمريكا لتحرير العراق، لبقي البعث يواصل اضطهاد الشعب ونشر المقابر الجماعية إلى مستقبل غير منظور.
والآن وبعد سبع سنوات من التحرير، وبعد أن فشل البعثيون استعادة نظامهم الساقط عن طريق العنف المسلح مع حلفائهم من أتباع القاعدة، حاولوا استخدام الديمقراطية. إذ بدأت تتكشف الأمور بشكل أوضح، فظهرت حقيقة القوى السياسية ومواقفها من الديمقراطية الوليدة، إذ حصلت عملية إعادة اصطفاف القوى إلى أربعة إئتلافات كبيرة (إئتلاف دولة القانون، والائتلاف الوطني العراقي، وإئتلاف "العراقية"، والتحالف الكردستاني). وقدمت كتلة "العراقية" بزعامة الدكتور إياد علاوي نفسها للشعب على أنها الكتلة الوحيدة العابرة فوق الطائفية والعنصرية، ففيها ممثلون من جميع فسيفساء الشعب العراقي. ولكن في الحقيقة نجد هذا التنوع لمكونات الشعب في جميع الإئتلافات الأخرى وليس في العراقية وحدها. كما وهناك مسألة أخرى لم ينتبه إليها البعض، وهي أنه لو تأملنا مكونات قائمة "العراقية"، لوجدنا معظمهم إما بعثيين سابقين، أو مازالوا بعثيين متنكرين، ولكنهم جميعاً متعاطفين مع البعث ويعملون على مشاركتهم في العملية السياسية كخطوة أولى بذريعة "المصالحة الوطنية". كذلك كون علاوي زعيم القائمة شيعي، لا يعني أن مكونات القائمة لا تمثل مكونة مذهبية معينة، وأنها فوق الطائفية، فنحو 85% من المصوتين لمرشحيها هم في المحافظات العربية السنية، ولم يصوِّت لها في المحافظات التي غالبيتها شيعية إلا 10%. والجدير بالذكر أن قوى علمانية ليست بالضرورة غير طائفية، فالبعث الصدامي كان علمانياً، ولكنه مارس الطائفية بعنف وعلى المكشوف.
كذلك كشفت القائمة العراقية عن وجهها الحقيقي بتصرفاتها المريبة التي هي نسخة طبق الأصل من تصرفات وسلوك البعث. فمنذ إعلان نتائج الانتخابات وفوزها بـ 91 مقعداَ، أي بزيادة مقعدين فقط على منافستها قائمة دولة القانون، وإلى اليوم لم يتوقف قادة العراقية عن ابتزاز وتهديد منافسيهم بإغراق العراق بالعنف ما لم يشكلوا هم الحكومة وبرئاسة علاوي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، صرح السيد حسن العلوي، أحد البارزين في قائمة "العراقية"، بأن عدم تشكيل الحكومة بقيادة "العراقية" يعني تهميش السنة العرب «... وسيؤدي ذلك إلى عودة العنف المسلح». وهذا اعتراف ضمني بأن "العراقية" تمثل مكونة مذهبية معينة، وليس كل مكونات الشعب العراقي كما يدعون. (راجع مانشيت الشرق الأوسط: «القائمة العراقية: تحالف الائتلافين الشيعيين تنفيذ لإستراتيجية إيرانية هدفها إضعاف العراق».- الشرق الأوسط، 17/4/2010).
والسؤال هنا: هل من العدالة نعت الكتلتين الأخريين (دولة القانون والإئتلاف الوطني العراقي) بأنهما طائفيتان تنفذان إستراتيجية إيرانية، لا لشيء إلا لأن زعيميهما شيعيان، ولأن في الأولى يوجد حزب الدعوة، وفي الثانية المجلس الإسلامي الأعلى؟؟ في الحقيقة والواقع إن معظم المنتمين لهاتين الكتلتين هم من العلمانيين الديمقراطيين والمناهضين للطائفية ومن مختلف مكونات الشعب. فهل من الإنصاف نعت السيدة صفية السهيل، والدكتور مهدي الحافظ، والشيخ حاتم السليمان، والشيخ أحمد أبو ريشة، رئيس مجالس الصحوة، ومالك دوهان الحسن، والحزب الوطني الديمقراطي بقيادة السيد نصير الجادرجي، والمئات غيرهم من أمثالهم بأنهم طائفيون، وأنهم يعملون على "تنفيذ إستراتيجية إيرانية هدفها إضعاف العراق"؟
كذلك نلاحظ الرحلات المكوكية المكثفة المستمرة دون انقطاع التي تقوم بها قادة "العراقية" للدول الإقليمية، ومحاولات تأليبها وتحريضها على الكتل الأخرى، ومطالبة المنظمات الدولية (الجامعة العربية والأمم المتحدة والوحدة الأوربية والمؤتمر الإسلامي...الخ) على إزاحة حكومة المالكي المنتخبة من البرلمان العراقي السابق، وتشكيل حكومة جديدة تحت إشرافها، وإلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة، وإعادة انتخابات جديدة تحت إشراف المنظمات الدولية!! علماً بأن الانتخابات السابقة كانت تحت مراقبة دولية، فما الجديد في هذا الاقتراح؟ وماذا يعني كل ذلك؟ ألا يعني أن قادة العراقية فقدوا صوابهم وأصيبوا بحالة من الهستيريا والهلع من عملية إعادة العد والفرز في منطقة بغداد؟ وماذا يعني تجاوز علاوي للقوى السياسية العراقية والإستقواء بالخارج؟ وهل من الوطنية المطالبة بإبقاء العراق ضمن البند السابع؟ ألا يعني هذا تجاوزاً على الدستور، والسيادة الوطنية؟ وهل هذا السلوك هو وطني لخدمة العراق وشعبه واستقراره؟ ولماذا كل هذا الخوف من إعادة عد وفرز الأصوات لمنطقة بغداد؟ ألا يدل هذا على أن هناك ما تخاف منه القائمة العراقية وفق مقولة: (يكاد المريب يقول خذوني؟؟).
فكما قال المالكي: "إذا كان هؤلاء يدعون دول العالم إلى إبقاء العراق تحت الفصل السابع معدوم السيادة وهم لم يخوَّلوا بالحديث باسم العراق، فما الذي سيفعلونه إذا ما تولوا زمام الأمور في البلاد وشكلوا الحكومة المقبلة؟"
لا نريد الدفاع عن السيد المالكي، ولكني لن أتردد بأن أتفق تماماً معه على ما قاله أن محاولات قيادة العراقية بتدويل أزمة تشكيل الحكومة العراقية: "... تعطينا الانطباع بوجود مشروع إقليمي ودولي يهدف إلى تنفيذ انقلاب من خلال صناديق الاقتراع، وإلا لِمَ هذا البكاء والعويل الذي يكتسح العالم بسبب عملية إعادة الفرز؟"
لقد كان بإمكان قيادة "العراقية" أن توفر على نفسها، وعلى الكتل السياسية الأخرى، وعلى الشعب العراقي كل هذه المتاعب والمشاكل والتعقيدات، بأن تتبع الدستور. فنظراً لعدم تمكن أية قائمة "الأكثر عدداً" من تشكيل الحكومة ما لم تنجح في عقد تحالف مع كيانين آخرين على الأقل، لذا كان على "العراقية" أن تسلك النهج الصحيح وذلك بإقناع قادة كتلتين أخريين على الأقل بحسن نواياها، وكسب ثقتهم في تشكيل الحكومة، ولكن بدلاً من ذلك، لجأت "العراقية" إلى الأساليب الملتوية عن طريق ابتزاز الآخرين، بغية إرغام الكتل الأخرى على التحالف معها، الأمر الذي أبعد عنها الكتل الأخرى ورفضت التحالف معها. لذا فاللجوء إلى الدول الإقليمية والمنظمات الدولية لا يقدم حلاً للمعضلة، بل يفاقمها أكثر، وتكشف النوايا المريبة التي يضمرها قادة العراقية لمستقبل العراق.
فآلية تشكيل الحكومة موجودة في الدستور الجديد، في مادته 73 كما يلي:
يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، وإذا أخفق فسيُكلف مرشحاً جديداً لرئاسة مجلس الوزراء (أي رئيس الكتلة الثانية في ترتيب أكثرية المقاعد)، وهكذا إلى ينجح رئيس إحدى الكتل في تشكيل الحكومة بعد تصويت غالبية أعضاء البرلمان عليها. وهذا يعني أن المطلوب من رؤساء الكتل ترتيب أمورهم في عقد تحالفات فيما بينهم قبل أن يوجه رئيس الجمهورية لأي منهم الدعوة إلى تشكيل الحكومة، بحث يكون عدد مقاعد هذا التحالف أكثر من 50% من العدد الكلي لأعضاء البرلمان. أما إذا فشل زعيم قائمة "الأكثر عدداً" في تحقيق هذا التحالف قبل انعقاد مجلس البرلمان الجديد، فمن المنطقي أن توجه الدعوة لزعيم الكتلة الثانية الذي نجح في عقد تحالف مع الكتل الأخرى، بحيث يكون عدد مقاعدها أكثر من 50%. ومن حق الكتلة الثانية أو الثالثة من حيث ترتيب المقاعد، أن تقوم بتحالفات مع الكتل الأخرى، إذ ليس في الدستور ما يمنع عقد هذه التحالفات أو بالضرورة أن تكون مع قائمة العراقية.
ومن كل ما تقدم، نستنتج أنه ليس هناك أي مبرر لهذه الحملة الهستيرية التي تشنها قائمة "العراقية" حول تشكيل الحكومة بفرض التدخل الخارجي، فالآلية الدستورية موجودة، وهي على قادة الكتل الرجوع إلى الدستور وتفسيره تفسيراً منطقياً والعمل بموجبه. وكلما تمادت "العراقية" في تعقيد المشكلة بالإستقواء بالخارج، كلما تضاءل حضها في تشكيل الحكومة. فتشكيل الحكومة مهمة عراقية بحتة، وليس بإمكان أية قوة خارجية، بما فيها الأمم المتحدة، أن تفرض إرادتها على الشعب العراقي وقواه السياسية، فما هي شعبية وسلطة حكومة تنصبها الحكومات الإقليمية والمحافل الدولية؟ لا شك أنها ستكون حكومة دمى، وهذا ما يرفضه الشعب العراقي.
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com /