د. عبدالخالق حسين
الخميس 17/12/ 2009
الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق
دور الطائفية في الأزمة العراقية
(الفصل الأول)د.عبدالخالق حسين
مقدمة
هذا المقال هو القسم الأول من بحث مطول قدمتُ موجزه في الملتقى الفكري الأول في بغداد خلال يومي 4-5 تشرين الأول(أكتوبر) 2009، والذي نظمته وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، لمناقشة الأزمة العراقية وأسبابها. وسوف يليه القسم الثاني بعنوان (الحلول المقترحة للأزمة العراقية)، كما ونشرتُ القسم الثالث منه قبل أسابيع في مقال مستقل بعنوان: (حول إشكالية المحاصصة)(1).
أعتقد جازماً أن الطائفية لعبت دوراً رئيسياً في الأزمة العراقية، ولا أغالي إذا قلت أنها أم الأزمات ومنها تولدت وتفرعت الأزمات الأخرى. ولطرح هذا الموضوع وتوضيحه، احتاج إلى الصراحة، إذ لا يمكن مناقشة الأزمة التي نواجهها وإدراك جسامتها ومخاطرها وأسبابها الحقيقية، وبالتالي إيجاد الحلول الناجعة لها، إلا إذا التزمنا بالصراحة والنزاهة والحيادية العلمية في قول الحقيقة، دون مواربة أو تزلف أو مداهنة أو خوف من إغضاب هذا وذاك، علماً بأن قول الحقيقة كاملة لا تخلو من مخاطر، إذ كما قال الفيلسوف الألماني نيتشة، ولخصه لنا الأستاذ هاشم صالح، ما معناه: "أشجع الشجعان فينا عاجز عن قول الحقيقة (أي كل الحقيقة). هناك أناس يستطيعون أن يتحملوا الحقيقة بنسبة 20 بالمائة، أو 50 بالمائة، أو حتى 70 بالمائة. وربما وجد علماء كبار ونزيهون يتحملونها بنسبة 90 بالمائة. ولكن لا أحد قادراً على تحمل الحقيقة (أو قول الحقيقة) بنسبة 100 بالمائة، ذلك أنها تقتله في أرضه! حذاري من الاقتراب من الحقائق أكثر مما يجب، أو قبل الأوان."
لذلك أستميح الزملاء والقراء الكرام عذراً، راجياً منهم تحمل صراحتي، ومحاولتي الاقتراب من الحقيقة ولو في حدود الـ 70% كما أراها، إذ بدون قول الحقيقة فإننا نخدع أنفسنا، وكمن يحرث في البحر.
التمييز الطائفي والعرقي أساس المشكلة
أعتقد جازماً أن الطائفية هي ليست وليدة اللحظة الراهنة أو الغزو الأمريكي، كما يتصور ويروِّج له البعض، بل هي من نتاج التاريخ والجغرافية، ضاربة جذورها في العمق. فبسبب التفرقة الطائفية والعرقية تم حرمان نحو 80% من مكونات الشعب العراقي، على أقل تقدير، من حقوق المواطنة الحقيقية، وتعريضهم للظلم والقهر والاستلاب والحرمان والعزل والاغتراب، واستحواذ مكونة واحدة من الشعب على السلطة والثروة والنفوذ، منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وإلى 9 نيسان/أبريل 2003.
فالتمييز الطائفي والعرقي البغيض كان لغماً كبيراً وخطيراً وُضِع مع حجر الأساس في بناء الدولة العراقية الحديثة عام 1921، حيث أصر الآباء المؤسسون العراقيون، وبدعم وتخطيط من بريطانيا، في الاستمرار على سياسة الإمبراطورية العثمانية في التفرقة الطائفية والعرقية خلال أربعة قرون من حكمها الجائر للعراق ضد مكونات الشعب العراقي، واستئثار مكونة واحدة بالسلطة والقوات العسكرية المسلحة (بهيئة ضباطها)، وبالنفوذ والامتيازات. ولتنفيذ هذه السياسة والحفاظ على سلطتها، لا بد وأن تلجأ الفئة الحاكمة إلى الظلم والإكراه لإخضاع المكونات الأخرى بالقوة الغاشمة. وكما تقول الحكمة: "الظلم لو دام دمَّر، يحرق اليابس والأخضر". لذلك أعتقد أن جميع المشاكل الأخرى التي عانى منها الشعب العراقي هي ناجمة عن هذا التمييز الطائفي والعرقي، وبالتالي أدى إلى انهيار الدولة العراقية.
فمن قراءتي لتاريخ العراق، أرى أن الأزمة الحالية التي انفجرت بدوي هائل بعد 9 نيسان/أبريل 2003 لم تكن وليدة اللحظة، أو صنعتها أمريكا والصهيونية عمداً لتدمير العراق كما يتصور البعض عن جهل في أحسن الأحوال، أو عن قصد في أسوأها، بل كانت نتيجة حتمية متوقعة لحالة مزمنة لازمت الدولة العراقية الحديثة منذ ولادتها. ولكن الخط البياني لهذه الأزمة التراكمية كان في صعود وهبوط حسب الحكومات المتعاقبة والانعطافات التاريخية، وقد حقق صعوداً صاروخياً متواصلاً في عهد حكم البعث الصدامي. وكان التذمر الشعبي يغلي وينمو تحت السطح كالبركان الذي ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار، وقد توفرت هذه اللحظة بعد سقوط حكم القمع البعثي على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا.
والجدير بالذكر أني تطرقت إلى خطر الطائفية في بحث مطول لي قبل سنوات بعنوان: (الطائفية خطر كبير وتجاهلها أخطر)(2) قلت فيه: "الطائفية مرض خبيث وخطير، عانى منه الشعب العراقي كثيراً خلال عدة قرون. وهي ليست من صنع العراقيين، بل صنعتها القوى الخارجية التي اتخذت من العراق ساحة لحروبها وفتوحاتها منذ الاحتلال العثماني في أوائل القرن السادس عشر، بالتناوب مع الدولة الفارسية الصفوية. بينما يعتقد البعض أنه من الأفضل الابتعاد عن الخوض في المشكلة الطائفية، إذ يرون أن في إثارتها ضرراً على الوحدة الوطنية، بل ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، فينكرون وجود هذه المشكلة أساساً.... إن موقف أولئك وهؤلاء ليس فقط لا يقدم تفسيراً للمعضلة العراقية المزمنة، بل ويلقيها في مستنقع من الضبابية ويضفي عليها طابعاً هلامياً لا يفيد إلا المنتفعين بالطائفية ذاتها. لذلك أعتقد أنه بعد كل هذه الكوارث، فقد آن الأوان لقول الحقيقة وتجنب سياسة النعامة في طمس رأسها في الرمال خوفاً من أن يراها الصياد ". (3)
ما هي الطائفية والعنصرية؟
الطائفية هي نزعة سياسية لا علاقة لها بالعقائد الدينية أو المذهبية، وإنما هي أقرب إلى العصبية القبلية القديمة، وشكل من أشكال العنصرية والفاشية والنازية بالمعنى الحديث، ولكن بغطاء ديني ومذهبي، يستخدمها سياسيون علمانيون هم أبعد ما يكونوا عن روح الدين والتديُّن الحقيقي، يستغلون أبناء طائفتهم لتحقيق أغراضهم السياسية ودعم مصالحهم الشخصية المادية، والحفاظ على نفوذهم وسلطاتهم في الدولة على حساب أبنا الطوائف الأخرى. ويستثنى من هذا التعريف أتباع الوهابية من التكفيريين الذين يعتمدون على الفقه الوهابي المتشدد والمتزمت في محاربة المختلف عنهم في الدين والمذهب، ويبررون إبادتهم اعتماداً على تفسيرهم الخاطئ للإسلام.
أما العنصرية، فهي العداء للبشر والتمييز ضدهم بسبب الاختلاف في الانتماء العرقي أو القومي، وهو مدان وفق جميع الشرائع والقوانين الدينية والوضعية.
كما ويجب التوضيح والتأكيد هنا على أنه ليس من الطائفية والعنصرية والفاشية أن يعتز الإنسان بانتمائه الديني والمذهبي والوطني والقومي، بل من الطائفية والعنصرية والفاشية إذا ناصب الإنسان إنساناً آخر العداء، وسعى لإلحاق الضرر به لا لشيء إلا بسبب انتمائه لقومية أو دين أو مذهب آخر. وعليه، فنحن لا نتحدث هنا عن تعددي الطوائف التي هي مسألة طبيعية في جميع الشعوب ولا خطر منها، بل عن الطائفية والعنصرية، أي التمييز الطائفي والعنصري.
أدلة على الانقسام الطائفي
كما بينت أعلاه، أن الطائفية ليست جديدة، بل بدأت مع تأسيس الدولة العراقية، وهناك أدلة كثيرة في هذا الخصوص، أشير إلى أهمها كما يلي:
أولاً، هناك أربع انعطافات أو محطات تاريخية كبرى مر بها العراق منذ أوائل القرن العشرين وإلى الآن، لعبت فيها الطائفية دوراً رئيسياً في تاريخ العراق الدموي، وكشفت هذا الانقسام الطائفي في الشعب العراقي بشكل واضح للعيان.
المحطة الأولى، عندما احتل الإنكليز العراق في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ثارت العشائر الشيعية وبفتاوى قادتهم الدينيين، فشنوا حرب الجهاد ضد الانكليز، ومن ثم ثورة العشرين ضد الاحتلال، بينما وقفت قيادات السنة العرب على الحياد إلا ما ندر، وإن حصل، كان جانبياً، مثل مقتل ليجمان على يد الشيخ ضاري الذي لعبت الصدفة دورها ونتيجة لتهور ليجمان.
المحطة الثانية، الصراع الدموي إثناء ثورة 14 تموز 1958، فرغم أن الصراع كان تحت أسماء القوى السياسية (قومي- شيوعي) إلا إن الجماهير الشيعية (وليس قادتهم الدينيين) هي التي وقفت مع الثورة وزعامتها الوطنية ودافعت عنهما إلى آخر لحظة، بينما المحافظات السنية ساهمت ورحبت باغتيالها. ولا ننسى الشينات الأربع (شيعي، شروكي، شيوعي، شعوبي) التي أطلقتها الحكومات العراقية المتعاقبة ومازال يرددها بعض الكتاب القوميين العرب الطائفيين على شيعة العراق.
المحطة الثالثة: انتفاضة آذار 1991، قامت بها المحافظات الشيعية والكردية والتي أسماها نظام البعث الصدامي بالمحافظات السوداء، مقابل وقوف المحافظات العربية السنية على الحياد، والتي سميت بالمحافظات البيضاء.
المحطة الرابعة والأخيرة، منذ سقوط نظام البعث الصدامي عام 2003، وإلى الآن، رحبت به المحافظات الشيعية والكردية، بينما وقفت المحافظات السنية العربية ضد الوضع الجديد بحجة مقاومة الاحتلال، ومعارضة المحاصصة الطائفية!!
ثانياً، هناك شهادات من شخصيات تاريخية تؤكد الانقسام الطائفي والعرقي وخطرهما على مستقبل الدولة العراقية. وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر شهادة المرحوم الملك فيصل الأول الذي أكد في مذكرته الشهيرة التي وزعها على النخبة الحاكمة المحيطة به نهاية عام 1932 جاء فيها ما يلي:
"العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينهم أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى إنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة، إلا إن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكِّنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين، كل ذلك جعل مع الأسف هذه الأكثرية، أو الأشخاص الذين لهم مطامع خاصة، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق، والذين لم يستفيدوا مادياً من الحكم الجديد يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعــة، ويشوقون هذه الأكثرية للتخلي عن الحكم الذي يقولون بأنه سيء بحت، ولا ننكر ما لهؤلاء من التأثير على الرأي البسيط الجاهل." وأضاف الملك في مكان آخر من مذكرته ما تقوله قادة الشيعة: "إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي، حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها". (عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص11، مطبعة دار الكتب بيروت، 1983).
ويمكن أن نعذر الملك الراحل على وصفه الكرد والشيعة بـ"أكثريته الجاهلة" إذ يجب أن نأخذ ظروف المرحلة المتخلفة قبل 77 عاماً بالحسبان. واقترَح الملك بعض الحلول لإنصاف الشيعة وتشجيعهم وتدريبهم في المشاركة في الوظائف الحكومية، ولكن لسوء حظ الشعب العراقي، أن الملك فيصل الأول قد توفى بعد أشهر قليلة من كتابته لهذه المذكرة الإصلاحية، والتي لم تلق أي ترحيب من قبل النخبة الحاكمة آنذاك.
وتأكيداً للتمييز الطائفي الذي ورد في مذكرة الملك، علق خليل كنه في كتابه الموسوم: (العراق، أمسه وغده)، قائلاً: "وعند تأسيس الكيان العراقي بزعامة الملك فيصل الأول، وجد أن استمرار التفريق والمحاباة يعرض الكيان العراقي إلى الانهيار، فبادر إلى سياسة منصفة وعادلة ليزيل مخاوف الشيعة وبذلك يزداد إقبالهم على التعليم ويتكاثر عددهم في الوظائف ومراكز المسؤولية. ولا شك أن إتباع العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص مما يساعد على إزالة الحيف الذي لحق بالطائفة الشيعية".
ولكن مع الأسف لم تتحقق العدالة الاجتماعية، فحدث الانهيار المدوي الذي توقعه الراحل خليل كنه وغيره من المخلصين من رجالات ذلك العهد.
فالشيعة الذين يشكلون نحو 60% من السكان، و80% من العرب، كان نصيبهم في الحكومة دون استحقاقهم العددي بكثير كما هو واضح في الجدول التالي:
المناصب الوزارية الشيعية في العهد الملكي (1921 – 1958) باستثناء منصب رئاسة الوزراء *
السنة
مجموع عدد المناصب
مجموع عدد مناصب الشيعة
النسبة المئوية
1921 – 1932 (مرحلة الانتداب)
1932-1936
1931 – 1941 (مرحلة الانقلابات العسكرية)
1941 – 1946(مرحلة الاحتلال البريطاني الثاني)
1947 - 1958
113
57
65
89
251
20
9
18
25
87
17,7
15,8
27,7
28,1
34,7 (أ)
المجموع
575
159
27,7
(أ) النسبة المئوية المقدرة للشيعة العرب من أصل مجموع السكان عام 1947: 51,4
* نقلاً عن كتاب حنا بطاطو، العراق، تاريخ الطبقات الاجتماعية...، ص69ـ ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 1990.
ورغم أن القانون الأساسي (الدستور) لعام 1925 قد نص في مادته السادسة: على أن "لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية، والدين، واللغة."، كما منع القانون الترويج للتفرقة الطائفية والعنصرية، إلا إن النخبة الحاكمة كانت تمارس التمييز بشكل شبه مقنن، وإذا ما اعترض المواطن لدى السلطة على هضم حقوقه بسبب التمييز الطائفي والعرقي، أشهروا في وجهه سيف تهمة الترويج للطائفية والعنصرية، وبذلك تحول الدستور نفسه إلى أداة لممارسة التمييز وضد معالجته، وضد كل من يتظلم من شروره. ومن يرغب في معرفة المزيد عن ممارسة الحكومات العراقية المتعاقبة التمييز الطائفي والعنصري ضد غالبية الشعب العراقي نشير عليه بقراءة كتاب (مشكلة الحكم في العراق، للأستاذ عبدالكريم الأزري، الذي تسلَّم عدة مناصب وزارية في العهد الملكي).
أسباب التمييز الطائفي ضد الشيعة
أولاً، التخلف السياسي النسبي لشيعة العراق عند تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وذلك امتداداً للتمييز ضدهم في العهد العثماني الذي لم يعترف بمذهبهم. فقد منع الأتراك دخول أبناء الشيعة في المدارس الحكومية، كما ومنعوهم بشكل مطلق من تسلم أية وظيفة رسمية في الدولة.
ثانياً، الدور البريطاني في تثبيت حكم الأقلية العربية السنية انتقاماً من الشيعة، لأنهم (الشيعة) شنوا حرب الجهاد ضد الاحتلال البريطاني للعراق في الحرب العالمية الثانية، دفاعاً عن حكم الأتراك، (وهي مفارقة أن الشيعة دافعوا عن حكومة كانت تظلمهم)، ومن ثم قيامهم بثورة العشرين التي كلفت البريطانيين كثيراً. والجدير بالذكر أن ثورة العشرين هي التي أرغمت السلطات البريطانية الاستعمارية على تأسيس الدولة العراقية ومنحها الاستقلال فيما بعد.
ثالثاً، إصرار النخبة الحاكمة على احتكار السلطة وإبعاد الشيعة عنها، ومواصلة النهج التركي العثماني في التعامل مع الشيعة العرب.
رابعاً، تصلب مواقف الزعامة الدينية الشيعية، والتطرف في مطالبها في فرض شروط تعجيزية غير قابلة للتطبيق أو التنفيذ آنذاك، مثل الاستقلال الناجز، والمطالبة بانسحاب القوات البريطانية بالكامل من العراق، وعدم قبولهم بالحلول الوسطى الممكنة. كذلك أصدر رجال الدين الشيعة فتاوى بتحريم مشاركة أبناء طائفتهم في الانتخابات والجندية وإرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية...الخ. لذلك فالأغلبية الشيعية العربية وخاصة قياداتها الدينية، تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في تهميشهم في العهد الملكي، قد لا يقل عن القسط الذي تتحمله الأقلية الحاكمة.
ومن هنا نفهم أن التمييز بين مكونات الشعب كان موجوداً "والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي – في العراق- المنقسم إلى هذين المذهبين" على حد تعبير الملك فيصل الأول، إضافة إلى الإجحاف الشديد الذي لحق بالمكونات الأخرى من قبل الفئة الحاكمة التي احتكرت الوظائف والمناصب المدنية والعسكرية في العهد الملكي وما تلاه من عهود جمهورية، باستثناء فترة حكم الزعيم عبدالكريم قاسم الذي حاول التخلص من التمييز الطائفي والعرقي تدريجياً، فأوصى بالمساواة بين المواطنين، ولذلك انتقم منه المنتفعون من سياسة التمييز الطائفي والعرقي أشد الانتقام، لخروجه عن المألوف والموروث التركي.
ولكن الجهل الذي يتذرع به دعاة الطائفية كسبب لحرمان الشيعة من نصيبهم العادل في الدولة، هل كان يخص الشيعة وحدهم، أم كان شاملاً كل الشعب العراقي بجميع مكوناته؟
لذا من المفيد هنا أن نذكر جدولاً نشره ناجي شوكت، في مذكراته، وهو رئيس وزراء سابق في العهد الملكي، بيَّن فيه نسبة الوزراء الأميين وأشباههم حتى نهاية عهد الملك فيصل الأول:
المجلس الذي تم إنتخابه أيام الوزارة الوزراء الأميون وأشباههم %
وزارة نوري السعيد عام 1930 73%
وزارة يسين الهاشمي عما 1935 60%
وزارة ناجي شوكت عام 1932 50%
عوامل ساعدت على تكريس الطائفية
1- ربط القومية العربية بالطائفية
إن أكبر الخطايا والآثام التي اقترفها رواد حركة القومية العربية في أوائل القرن العشرين ومن تلاهم فيما بعد، أنهم ربطوا القومية العربية بالطائفية المعادية للشيعة العرب، والنظرة الشوفينية العنصرية ضد غير العرب، حيث راحوا يوصمون الشيعة العرب بشتى النعوت المهينة، والطعن بعروبتهم ووطنيتهم، مثل وصمهم بالعجمة والشعوبية والرتل الخامس، والولاء لإيران بدلاً من ولائهم لأوطانهم العربية، وغيرها كثير من الاتهامات الجائرة، وراحوا يؤلفون الكتب ويدبجون المقالات لترويج هذه الاتهامات وإلصاق النعوت المغرضة بالشيعة. وقد بلغ الغلو في البعض من القوميين العرب إلى حد أنهم ادعوا أن الشيعة العرب ليسوا عرباً ولا عراقيين أصلاً، بل جلبهم القائد العربي الإسلامي، محمد القاسم مع الجواميس من الهند وأسكنهم أهوار الجنوب!!
إن هذا الربط بين القومية والطائفية كان بمثابة العبوة الموقوتة الناسفة للقومية العربية، والسبب المباشر والرئيسي لفشل الدولة العراقية الحديثة في عدم استقرارها، وتغذية وإدامة الأحقاد والصراعات العنيفة بين مكونات الشعب العراقي، الأمر الذي أدى إلى تدمير الحركة القومية العربية، وإلى فشل المشروع الديمقراطي الليبرالي الذي أراد الملك فيصل الأول بناء مملكته على أساسه، وبالتالي إلى انهيار الدولة العراقية المدوي يوم 9/4/2003، وما تلاه من مضاعفات وتداعيات مهولة.
وتأكيداً لدور حركة القومية العربية في الأزمة العراقية والدول العربية الأخرى، نشير إلى التقرير الإستراتيجي العربي لعام 1999، الذي جاء فيه: "إن القومية العربية تتحمل مسؤولية كبرى، بل مسؤولية أولى، عن التدهور الذي آل إليه النظام الإقليمي العربي في نهاية القرن العشرين، فهذا يرتبط بالأساس اللاديمقراطي، بل المعادي للديمقراطية، الذي قامت عليه". (مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، التقرير الإستراتيجي العربي 1999، القاهرة يناير 2000./نقلاً عن الملف العراقي-العدد 109، كانون الثني/يناير 2001)
ومن نتائج التمييز الطائفي والعرقي أن اتخذت المظالم ضد الشيعة والكرد شكلاً متطرفاً في عهد حكم البعث الثاني (1968-2003) حيث انفرد النظام، ولأول مرة في تاريخ العالم، وبدوافع طائفية وعنصرية صرفة، بإصدار قانون إسقاط الجنسية رقم 666 لسنة 1980 الذي قام بموجبه بإسقاط الجنسية عن مئات الألوف من الشيعة العرب والكرد الفيلية والتركمان، وتهجيرهم بالقوة بتهمة التبعية الفارسية، وتم تنفيذ هذا القانون بمنتهى القسوة والوحشية، وذلك بإلقائهم على الحدود الإيرانية الملغومة أيام الحرب العراقية - الإيرانية، بعد أن جردهم من جميع وثائقهم الرسمية التي تثبت عراقيتهم أباً عن جد، ومصادرة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة. كما وقام نظام البعث بحروب إبادة الجنس ضد الأكراد في عمليات الغازات السامة في حلبجة والأنفال، والتغيير الديموغرافي ضد الأكراد عن طريق التهجير القسري الداخلي والخارجي ضدهم، وإرغام نحو أربعة ملايين من العراقيين على الهجرة إلى الشتات، معظمهم من الشيعة والكرد والتركمان والمسيحيين، وجلب النظام الفاشي الطائفي مكانهم نحو أربعة ملايين من مواطني البلدان العربية ومعاملتهم كمواطنين عراقيين، بغية تغيير ديموغرافية السكان طائفياً وقومياً، وغيرها كثير من عمليات التطهير العرقي والطائفي، والجرائم البشعة بحق مكونات الشعب العراقي وضد حقوق الإنسان.
2- غياب العدالة
"العدل أساس الملك" كما يقول ابن خلدون. لذا فإن أهم سبب لعدم استقرار العراق طوال تاريخه هو غياب العدالة أي الظلم ضد مكونات الشعب العراقي على أساس التمييز الطائفي والعنصري. ولهذا نعتقد أن السبب الرئيسي للصراع بين مكونات الشعب العراقي وعدم الاستقرار والازدهار الاقتصادي، هو غياب العدالة والذي بدوره نتيجة حتمية للتمييز الطائفي والعنصري الذي مورس بفظاعة بحق الغالبية العظمى من أبناء الشعب العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية، ولكنه اتخذ شكلاً هستيرياً رهيباً غير مسبوق في عهد البعث الصدامي. وما الاقتتال الذي انفجر بعد سقوط حكم البعث إلا نتيجة حتمية لتراكمات المظالم والاحتقانات عبر عقود من السنين، والتعبير عن شحنات الغضب والاحتقانات المتراكمة، حيث أدمنت الفئة المحتكرة للسلطة على مواصلة الاستئثار بالسلطة وإصرارها على عدم مشاركة المكونات الأخرى من الشعب في الحكم مشاركة عادلة، وللحفاظ على بقائها لا بد وأن تعتمد على سياسة القمع والإرهاب.
3- الردة الحضارية
إضافة إلى ما تقدم، هناك عوامل أخرى ساعدت على إشعال المزيد من الصراعات، منها أن نظام البعث أعاد المجتمع العراقي إلى ما قبل نشوء الدولة وتكوين الشعوب، أي إلى مرحلة البداوة فأحيى القبلية والعشائرية وأجج الطائفية، كما وقام بتدمير الطبقة الوسطى بالكامل وإفقار الجميع.
4- دور دول الجوار في تأجيج الطائفية
كذلك استغلت دول الجوار تعقيدات الوضع العراقي، وبالأخص التعدد الطائفي، وخوفها من نجاح العملية السياسية في العراق، وارتعابها من وصول عدوى الديمقراطية إلى بلدانهم، لذلك ساهمت هذه الدول في تأجيج الفتنة الطائفية، وصب الزيت على النار المشتعلة في العراق لإفشال العملية السياسية ومنع الديمقراطية.
يتبع، ويليه مقال بعنوان: الحلول المقترحة للأزمة العراقية
مقالات ذات علاقة بالموضوع:
(1) د. عبدالخالق حسين: حول إشكالية المحاصصة.
http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/329.html
(2) د. عبدالخالق حسين: الطائفية خطر كبير وتجاهلها أخطر!!
http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=285
(3) أقترح على وزارة الثقافة أو وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، إعادة طبع كتاب الدكتور علي الوردي الموسوم: (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، وكتاب الأستاذ عبدالكريم الأزري، الموسوم (مشكلة الحكم في العراق)، بكميات كبيرة وطرحها في الأسواق بأسعار مدعومة، وذلك كمساهمة في حملة رفع الوعي الشعبي والتعرف على المشكلة العراقية وحلولها.
العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الإلكتروني الشخصي:
http://www.abdulkhaliqhussein.com /