د. عبدالخالق حسين
Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الأثنين 16/10/ 2006
حول دراسة مجلة "ذي لانست" عن ضحايا العنف في العراق
د.عبدالخالق حسين
نشرت مجلة "ذي لانست" (The Lancet) الطبية البريطانية العريقة ذات الانتشار الواسع في العالم، دراسة مطولة أعدها فريق من الباحثين الأمريكيين بالاشتراك مع عدد من الأطباء في جامعة المستنصرية في بغداد، عن ضحايا العنف في العراق. وقد قدَّرت الدراسة عدد القتلى والوفيات منذ بداية الحرب التي أسقطت نظام صدام حسين الدموي في نيسان عام 2003 وما تلاها من حوادث العنف إلى نهاية حزيران من هذا العام في حدود 655 ألف ضحية.
وهذه ليست المرة الأولى التي تنشر المجلة المذكورة دراسة من هذا النوع عن ضحايا العنف في العراق، إذ نشرت دراسة مماثلة عام 2004 ذكرت فيها أن عدد القتلى بلغ 100 ألف خلال عام واحد. كما ونشرت مقالة افتتاحية عام 2002 ، حذرت فيها من مخاطر تردي الوضع الصحي في العراق فيما لو وقعت الحرب ضد نظام البعث وامتدحت الخدمات الصحية في عهد صدام ووصفتها بأنها من أفضل الخدمات في المنطقة. وكان هذا الادعاء مخالفاً للحقيقة، حيث تردت الخدمات إلى الحضيض خاصة بعد غزو النظام البعثي للكويت، إذ كانت ميزانية وزارة الصحة لا تتجاوز 16 مليون دولار في السنة الأخيرة من حكم البعث رغم أن الأمم المتحدة أبلغت مرة الحكومة العراقية أنها خصصت 680 مليون دولار من الأموال العراقية في حوزتها حسب برنامج (النفط مقابل الغذاء) لشراء الاحتياجات الصحية، ولكن النظام اكتفى بـ 60 مليون دولار فقط. إذ كان صدام يتعمد قطع الأدوية عن المرضى لتصعيد نسبة الوفيات وخاصة بين الأطفال لينظم تشييع الجنائز الجماعية يدعو لها وسائل الإعلام العالمية لابتزاز الأمم المتحدة وأمريكا، بينما كانت الأدوية العراقية المختومة بختم الأمم المتحدة تباع في شوارع عمان وبيروت. كما وقد فرضت حكومة صدام نظام (التمويل الذاتي) على المستشفيات ومطالبة المواطنين بدفع تكاليف العلاج والمبيت في المستشفيات.
والمجلة لا تخفي مواقفها المضادة للحرب بدوافع الخوف من تردي الخدمات الصحية وحقوق الإنسان. فمن الناحية المبدئية لا أرى في ذلك ضيراً أو تدخلاً فيما لا يعنيها أو إساءة للمهنة الطبية، لأن من واجب الأطباء ومنظماتهم وصحافتهم، وأنا أتحدث هنا كطبيب مارس المهنة لعشرات السنين في العراق وخارجه، ليس حماية الإنسان من الأمراض والإصابات والأوبئة فحسب، بل ومن الحروب والأضرار التي يسببها بعض السياسيين الطغاة من أمثال صدام حسين أيضاً. فالحروب بطبيعتها تجلب المصائب والويلات على الشعوب. ولكن انحياز المجلة ضد الحرب على نظام دموي مثل نظام صدام حسين والثناء على الخدمات الصحية في عهده واستمرارها في نشر دراسات تصب في صالح أعداء الشعب العراقي، أمر لا يمكن قبوله. فنظام البعث الصدامي كان بحد ذاته حرباً متواصلة على الشعب العراقي وخطراً دائماً يهدد أمن المنطقة والسلام العالمي. فكما يقول (خوسيه مارتي جني) الحائز على جائزة نوبل للسلام بهذا الخصوص: "مجرم من يخوض حربا يمكن تفاديها، ومجرم من لا يخوض حربا لا يمكن تفاديها". ولذلك أعتقد أن الحرب على نظام البعث الصدامي وإزالته كانت خدمة للشعب العراقي والإنسانية، وواجباً أخلاقياً على المجتمع الدولي وخاصة أمريكا لكونها الدولة العظمى الوحيدة في العالم. وعليه فموقف المجلة المناوئ للحرب على نظام البعث لم يكن في محله.
لا شك أن العراق يمر الآن في فترة عصيبة لا يحسد عليها، ومهما كانت أرقام الضحايا، أعلى أو أقل من المعلن عنها، فهي كارثة وقتل كل فرد يعد خسارة كبيرة لنا جميعاً. لكن تضخيم الأرقام والمبالغة فيها لأغراض سياسية لا يخدم قضية الشعب العراقي بل يصب في خدمة أعدائه. فالمجلة ذاتها نشرت عام 2004 دراسة قدرت فيها الوفيات بسبب الحرب بمائة ألف أكثر من معدل الوفيات السنوي في عهد حكم البعث. واستغل أنصار صدام حسين تلك الدراسة فراحوا يطبلون أن القوات الأمريكية قتلت مائة ألف عراقي خلال سنة واحدة.
ومما يجدر ذكره، أن دراسات علمية أخرى ظهرت بعد دراسة "ذي لانست" الأولى عام 2004، بينها دراسة قامت بها مجموعة الأبحاث في أكسفورد ومؤسسة «عراق بودي كاونت Body count » في لندن، نشرت في الصحف البريطانية يوم 19/7/2005، أفادت أن نحو 25 ألف مدني عراقي قتلوا منذ بداية الحرب على العراق في مارس (آذار) 2003، سقط ثلثهم على يد قوات التحالف. وهذا الرقم اقل بأربع مرات من تقديرات مجلة «ذي لانست» الطبية عام 2004. وهكذا نرى كل فريق يدعي أن حساباته كانت علمية!
نقاط الضعف في الدراسة :
لقد واجهت الدراسة الحالية انتقادات شديدة ومن جهات عديدة، ليس من قبل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ومن يتعاطف معه في هذه الحرب فحسب، بل وحتى من قبل جهات علمية معروفة بمواقفها المناوئة للحرب مثل خبير الإحصاء الحياتي (دونالد بري) من جامعة تكساس الذي وصفها بأن "لا يمكن الاعتماد عليها"(CS Monitor). وعلى العموم، تعاني الدراسة من نقاط ضعف عديدة نذكر منها بإيجاز كما يلي:
1- المنهج البحثي methodology: قام فريق البحث في العراق المؤلف من أطباء عراقيين من جامعة المستنصرية في بغداد بمسح لـ 1849 عائلة عراقية عدد أفرادها 12801، في مناطق مختلفة من العراق وخمَّنوا الأرقام النهائية للوفيات. وهذا يعني أنهم سحبوا نتائج هذا العدد من المقابلات الميدانية على 26 مليون نسمة في العراق. فلو كان الشعب العراقي ضعف هذا العد لتضاعف معه عدد القتلى. فمثلا اعتبروا 12801 فرداً عينة sample تمثل الشعب العراقي، وأحصوا عدد الوفيات التي حصلت في هذه العينة منذ 1/1/2002 إلى 30/6/2006 لمختلف الأسباب، الطبيعية والعنف. وأجريت التقديرات حسب المعادلة التالية :
26 مليون عدد نفوس العراق÷12801 = 2031. ويضرب عدد الوفيات في العينة بـ 2031، يكون الناتج عدد الوفيات في العراق لتلك الفترة. وهذا يعني أن أي خطأ في عدد الوفيات يضخم 2031 مرة. كذلك لا نعرف كيف تم اختيار هذه العوائل، إذ يمكن أنهم اختاروا العائلات المنكوبة فقط. كذلك حذفوا من الإحصاء أهدأ محافظتين وهما دهوك والسماوة. ومن هنا نعرف احتمال تضخيم الخطأ في النتائج. فكما قال خبير الإحصاء الحياتي (دونالد بري) في جامعة تكساس عن الدراسة: " من الصعب جداً استخلاص أرقام صحيحة من اختار عينة من عائلات لتثميل الشعب بشكل عشوائي في هذه الحالة. وفوق ذلك أي تحيز من قبل الباحثين في هذه العملية سيضخم النتائج." ( CS Monitor).
2- وكما جاء في الدراسة، لم يشارك الفريق الأمريكي في المسح الميداني حتى ولم يحضروا إلى العراق بل كان دورهم في العملية هو تحليل النتائج حسب الأرقام التي استلموها من زملائهم العراقيين وكتبوا التقرير على ضوئها. فمهمة المسح الميداني تركت دون مراقبة على عاتق الأطباء العراقيين وحدهم. ومع احترامي لهؤلاء الأطباء، إلا إن نظام البعث نجح في تدمير الثقة بهم، خاصة بعد أن استخدم الأطباء للإشراف على التعذيب وتوقيع شهادات وفاة لضحايا التعذيب والادعاء بأن سبب الوفاة كان طبيعياً. لذلك فمن الصعوبة في هذا الزمن الرديء أن نثق بهكذا دراسة خطيرة لها تأثير كبير على الرأي العام دون الشك في حيادية القائمين بالمسح الميداني والتلاعب بالأرقام لتخدم أغراضاً سياسية خطيرة.
3- رغم أن الدراسة لم تتحدث على القتلى فحسب، بل وعن الوفيات لأسباب طبيعية أيضاً، إلا إنها تعطي انطباعا بشكل وآخر أن هذا العدد تم قتلهم على أيدي القوات الأمريكية وبسبب الاحتلال، كما حصل للتقرير السابق عام 2004.
4- وهناك أمر غريب في الدراسة وهو مقارنة أسباب الوفاة والقتل في السنة الأخيرة من حكم صدام حسين، وهو عدم وجود أي حالة وفاة في تلك السنة بسب طلق ناري أو حوادث طرق (جدول رقم 2)، وكأن الشعب العراقي كان يعيش في كوكب آخر في تلك السنة. ففي بريطانيا وحدها يقتل نحو 100 شخص أسبوعياً نتيجة حوادث الطرق، رغم التشدد في منح إجازة السوق ودقة المراقبة ورقي شبكة الطرق. فحوادث الطرق في العراق عالية جداً، أتذكر أن الحكومة العراقية نشرة رقماً رهيباً عن ضحايا حوادث الطرق فكان في حدود 18 ألف في تلك السنة لا يتناسب مع حجم السكان. فكيف تحول هذا الرقم إلى صفر في العام الأخير من حكم صدام حسين؟
5- كذلك طعن في نتائج هذه الدراسة كل من الجنرال جورج كيسي، أحد قادة القوات الأمريكية في العراق، ومايكل أوهانلون من معهد بروكنكز الذي يتابع الوفيات في العراق.
6- توقيت نشر الدراسة يثير الشكوك حول الغرض. فمقالة الافتتاحية الأولى للمجلة ظهرت في نهاية عام 2002، أي قبيل شن الحرب على النظام البعثي، والدراسة الأولى نشرت عام 2004 تزامناً مع الحملة الانتخابية الرئاسية في أمريكا وكان الغرض واضحاً للتأثير على الرأي العام الأمريكي ضد الرئيس بوش. كذلك تزامن نشر الدراسة الحالية مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية في أمريكا. لذلك فإن توقيت نشر هذه الدراسات لا يخلو من دوافع سياسية تهدف إلى تضخيم أرقام الضحايا من أجل تقديم ذخيرة حية إلى خصوم الإدارة الأمريكية وأنصار صدام حسين والادعاء بأن القوات الأمريكية قتلت 655 ألف عراقي وتبرئة الإرهابيين من جرائمهم الفظيعة في العراق.
وكما جاء في تقرير صحيفة (كرستيان ساينس مونتر) عن هذه الدراسة، أنه لا يمكن لأحد أن يعرف بدقة العدد الحقيقي للوفيات في العراق منذ الحرب في آذار 2003، بسبب الفوضى العارمة التي تجتاح البلاد. ولكن الواقع أكثر سوءً من الصورة الوردية التي يحاول الرئيس بوش نقلها إلى الشعب الأمريكي. وتضيف الصحيفة: "كان أحد أهم أهداف الحرب هو إنقاذ العراقيين من أبشع نظام دكتاتوري جائر. إذ كان الغرض من هذه الحرب جعل العراق مثالاً مشرقاً للديمقراطية تقتدي به الدول العربية، وتحويله إلى مكان آمن تعيش فيه الناس بحرية من دون خوف وفي حماية حكم القانون. ولكن العراق صار مرتعاً للإرهاب والعنف الطائفي والفساد الإداري، هو العراق غير الذي كان يدور في تصور الرئيس بوش."
ولم يخف رئيس تحرير مجلة "ذي لانست" قصده السياسي، إذ كتب تعليقاً في صحيفة الغارديان اللندنية يوم 12 من الشهر الجاري، دافع فيه عن الدراسة المذكورة، ويعزي تصاعد القتل في العراق إلى وجود القوات الأجنبية فيه، ويطالب بانسحاب هذه القوات فوراً. وهذا بالضبط ما يطالب به فلول البعث وحلفاؤهم الإرهابيون من أتباع القاعدة. والسؤال الذي يطرح نفسه ويستدعي إجابة عقلانية ونزيهة هو: من سيكون المستفيد من ترك العراق في هذه الفوضى العارمة لو انسحبت القوات الأجنبية؟ ألم يكن الإرهابيون وحدهم المستفيدين؟ لا شك أنه لو تم تطبيق هذه النصيحة لا سامح الله، فسيجعل الإرهابيون العراق أكبر مقبرة جماعية في العالم وفي التاريخ، وسيحرقون الحرث والنسل. وهذا الخطر لن يهدد العراق وحده بل ويهدد العالم أجمع.
وأخيراً نقول، أن (ذي لانست) مجلة طبية علمية لها مكانتها المرموقة في الوسط الطبي العالمي، ونشر هكذا دراسة تفتقر إلى المصداقية لا تخدم الحقيقة، بل تؤثر سلباً على سمعتها، و تقدم خدمة لأولئك الذين يعملون على إفشال الديمقراطية في العراق ويتسببون في نشر الموت والخراب في ربوعه.
مقالة ذات علاقة بالموضوع :