د. عبدالخالق حسين
الثلاثاء 16/ 12/ 2008
إلى أين تقودنا ثقافة الحذاء؟د. عبدالخالق حسين
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فان همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أحمد شوقي
ليس في العالم شعب يتبجح بالأخلاق الراقية أكثر من الشعوب العربية، ولكن في نفس الوقت ليس هناك شعب في العالم فيه ممارسات لا أخلاقية أكثر مما في الشعوب العربية أيضاً. ولذلك يحلو لهم أن يدَّعوا بأنهم "خير أمة أخرجت للناس"، على غرار إدعاء بني إسرائيل أنهم "شعب الله المختار". والأدهى والأمر، أن العرب يتباهون ويرقصون فرحاً عندما يرتكب أحدهم جريمة مخلة بالأخلاق فيعتبرونها مفخرة وطنية وقومية يحتفل لها الشارع العربي.
إن ما قام به الصحفي الحذائي، المدعو منتظر الزيدي، مراسل الفضائية البغدادية، في المؤتمر الصحفي الذي حضره الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مساء الأحد 14/12/2008 ، برمي الحذاء نحوهما، لم تكن حالة فردية يجب تركها دون اهتمام كما يعتقد البعض مع الأسف الشديد، بل يعكس الأخلاق المنحطة التي غرسها نظام البعث في العراق خلال حكمه لأكثر من ثلاثة عقود. وهو ليس فردياً بل مرض شامل في البلاد العربية، بدليل ما نال هذا الحدث الشنيع من تأييد واسع في الشارع العربي.
فأخلاق الحذاء أو (القنادر، بلهجة العراقيين) هذه صارت جزءً من السلوك اليومي في السياسة والثقافة العراقية، ولها جذور عميقة في تراثنا السياسي الحديث، بدأت في العهد الملكي عندما ردد الشيوعيون أهزوجة (نوري السعيد القندرة، صالح جبر قيطانه)، مروراً بنعل أبي تحسين وهو يضرب به رأس تمثال صدام حسين بعد سقوطه في ساحة الفردوس في بغداد يوم 9/4/2003 . كذلك استقبل أتباع التيار الصدري رئيس الوزراء العراقي الأسبق الدكتور أياد علاوي بوابل من الأحذية عند زيارته للضريح الحيدري في النجف الأشرف عام 2005. ثم أكد هذا السلوك الدكتور محمود المشهداني، رئيس البرلمان العراقي، عندما علق على قول لم يعجبه من أحد النواب وتحت قبة البرلمان قبل أكثر من عام. واليوم يتجدد المشهد المأساوي المهزلة على يد صحفي مغمور ليصبح أشهر من نار على علَمْ في ساعات قلائل، وبطلاً من أبطال العروبة. ولذلك نعتقد إن ما يحصل في العراق من كوارث هو نتاج هذا الخراب البشري، وأسوأ خراب أصاب العراق هو خراب العقل والأخلاق. وما سلوك هذا الصحفي العار، وما ناله من إعجاب عربي وتأييد جماهيري، وحتى في أوساط بعض المثقفين مع الأسف، إلا دليل واضح على هذا الخراب والانحطاط الحضاري والانهيار الفكري. كما ونؤكد أن العمل ليس سلوكاً فردياً عابراً، بل هو مرض ثقافي واسع الانتشار يجب التصدي له.
اتفق مع ما قاله الصديق عزيز الحاج في مقاله القيم الموسوم (العراق هو الذي أهين، لا شخص بوش ..). فهذا السلوك أضر بسمعة الشعب العراقي ووجه إهانة إلى الدولة العراقية أكثر مما أساء إلى الرئيس بوش الضيف على العراق. والعرب يتبجحون بإكرام الضيف، ولكن ما حصل من عمل مخز من قبل صحفي بعثي، صار مفخرة للعرب.
وبعد وقوع الحادث، بثت فضائية البغدادية التي يعمل لصالحها هذا الصحفي الطائش، بياناً "ثورياً" أعادت قراءته عدة مرات، مصحوباً بأناشيد "ثورية" لتلهب حماس الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، تماماً على طريقة بيانات إذاعة (صوت العرب) سيئة الصيت في الستينات، أيام أحمد سعيد، ونشيد أمجاد يا عرب أمجاد ونشيد الله أكبر!! والأنكى من ذلك أن اعتبر بيان الفضائية هذه الممارسة الحذائية مظهراً من مظاهر حرية التعبير، ليرافقه سيل عارم من المقالات لكتاب عراقيين وعرب، فرحين جذلين، وشامتين، يصفون هذا الصحفي بالبطل، وأن ما قام به يعد نصراً مبينا للأمة العربية والإسلامية. ولم يتورع محام مصري ليصرح في إحدى الفضائيات العربية في مدح هذا العمل الشنيع ودعوته لمحامين عرب لتشكيل لجنة دفاع عنه. إضافة إلى ذلك شاهدنا خروج مظاهرات صاخبة في بغداد من التيار الصدري يتقدمها العشرات من المعممين، رافعين الأحذية كرمز نضالي لهم تأييداً "للبطل" الصحفي الحذائي هذا. وهناك أنباء عن التحضير لمظاهرات مماثلة في البلدان العربية مثل سوريا ولبنان وغيرهما. ولهذه الأسباب مجتمعة فإني أعتقد جازماً أن ما قام به هذا الصحفي المغمور ليس حادثاً فردياً يجب إهماله وأنه من الخطأ تعميمه، بل ظاهرة مرضية خطيرة متفشية واسعة الانتشار، تمثل ركناً في الثقافة العراقية والعربية.
كما وهناك أخبار تفيد عن تبرع عدد من الأثرياء العرب بملايين الدولارات لهذا الصحفي، وعائلته. وهذا بالطبع تشجيع للآخرين الذين عندهم الاستعداد للإصابة بهذا المرض لتقليده، فهي أسرع طريقة للشهرة والثراء ونيل المجد العربي!!
في جميع الأعراف تعتبر مهمة الصحفي هي البحث عن الحقيقة ونشرها على الناس، وأداته الكلمة الخيرة. ولكن عند الصحفيين من خريجي مدرسة البعث الفاشي، صار الحذاء وليس الكلمة، هو الأداة لإيصال الرسالة الخالدة!! ونحن نسأل مع الأستاذ مالوم أبو رغيف: "هل أصبح الحذاء كلمة؟" فالشعوب المتحضرة تتحدث عن حرية الكلمة، أما أيتام البعث ومن يؤيدهم من العربان، فقد أنزلوا الكلمة ومهنة الصحافة إلى مستوى الحذاء.
إن سبب حقد الحكام العرب ووسائل إعلامهم على الرئيس جورج دبليو بوش هو قيامه بنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، فبدأ مشروعه الحضاري بتحطيم أصنام الاستبداد البعثي الفاشي في العراق، وحكم طالبان المتخلف في أفغانستان. ولذلك جن جنون حكام المنطقة ضد الرئيس بوش، خوفاً أن يصلهم الدور، وأن تثور عليهم شعوبهم. لذا عقدوا العزم على إفشال مشروعه الديمقراطي في العراق وأفغانستان لتشويه صورة الديمقراطية وإرعاب شعوبهم منها. فمن جهة، يدعم هؤلاء الحكام ووسائل إعلامهم الإرهاب لإلحاق أشد الأضرار بهذين الشعبين، ليخيفوا شعوبهم من الديمقراطية، وليقنعونهم على إبقائهم جاثمين على رقابهم، ومن جهة أخرى يلقون اللوم في هذا الإرهاب والقتل والخراب على جورج بوش، ليجعلوا منه شماعة يعلقون عليها جرائمهم وأخطاءهم، فنراهم ما انفكوا يكررون دون ملل قولهم (أخطاء بوش وأخطاء بوش...). طبعاً يقصدون بأخطاء بوش هو إسقاط نظام البعث الفاشي في العراق، بينما في رأيينا أن هذا العمل كان من أفضل ما قام به رئيس في التاريخ، حيث حرر الشعب العراقي من نظام المقابر الجماعية والأنفال وحلبجة وغيرها.
ولكن من جانب آخر، وكما علق الرئيس بوش إثناء الحادث الشنيع: (هذا دليل الحرية). الحرية التي وفرها لهم بوش بإسقاطه نظام الفاشية. إذ كما قال الصديق الكاتب الساخر، سامي البحيري في مقال له في إيلاف بهذا الصدد: (وأنا أسأل المواطنين العراقيين الكرام والذين عاصروا "العهد الذهبى" لصدام حسين، تخيلوا معى أن الرئيس العراقى كان يدير مؤتمرا صحفيا بحضور الرئيس الروسى "بوتين" وقام صحفي بإلقاء فردتي حذاء على الرئيس بوتين، فماذا كان سيفعل به صدام حسين؟ والجواب معروف.) من هنا نعرف معنى الحكمة القائلة (من أمن العقاب أساء الأدب). وفي الحقيقة أن الجبناء وحدهم الذين يسيئون للحرية والديمقراطية، فيتصرفون هكذا للتعويض عن عقدة جبنهم. فصدام لم يكتف بتعذيب هكذا شخص حتى الموت، بل يصل العقاب حتى إلى عائلته وأقربائه إلى الدرجة السابعة.
أما عن مهنية هذا الصحفي، فقد أخبرني صديق مقيم في دولة غربية، ويدير صحيفة إلكترونية، أكد لي علاقته بالإرهابيين، فقال أنه قبل أكثر من عامين اتصلت به أستاذة عراقية في معهد الصحافة طلبت منه مساعدة الصحفي المدعو منتظر الزيدي في تصحيح تقاريره الصحفية ونشرها على موقعه. ولاحظ هذا الصديق أن معظم تقاريره ركيكة لغوياً، ومتعاطفة بوضوح مع الإرهابيين، إذ كانت توحي بأنه كان على علم بوقوع هذه الأعمال الإرهابية مسبقاً، وأنهم كانوا ينسقون معه عملياتهم، فيكون دائماً حاضراً في الزمان والمكان قبل وقوع العملية الإرهابية. أما قضية اختطافه في العام الماضي، وكما أخبرني الصديق نفسه وأكدها آخرون، فإنها كانت مفتعلة ومدبرة من الجهة التي كان يعمل لصالحها، لأغراض دعائية معروفة، وذر الرماد في العيون.
لقد أساء هذا الصحفي إلى سمعة الشعب العراقي أكثر مما أساء إلى رئيس الدولة العظمى. فقد أعطى انطباعاً سيئاً للعالم، أن الشعب العراقي لا يعرف ممارسة الحرية والديمقراطية ولا يستحقهما، وأنهم لا يختلفون في سلوكهم عن الأقوام البدائية الهمجية في مجاهل غابات أفريقيا وأمريكا الجنوبية. أما الرئيس بوش فقد بقي رابط الجأش ولم يتخل عن روح المرح إثناء الحادث، فعلق ضاحكاً "كان مقاس الحذاء الذي رماني به "10" إذا رغبتم بمعرفة ذلك." وهذا دليل على سيطرة الكبار على مشاعرهم في مثل هذه الحالات الصعبة، وهذا هو الفرق بين الحضارة والهمجية.
مرة أخرى نؤكد أن تصرف سلوك الصحفي المتهور الشنيع والترحيب الذي لقيه من الشارع العربي، وتأييد الكثير من الكتاب العرب، فضح الثقافة العربية والفكر العربي اللذين هبطا إلى مستوى الحذاء. فالذين كتبوا بشماتة مؤيدين لهذا السلوك الحذائي الطائش قد أساؤوا إلى أنفسهم وإلى شرف الكلمة، إذ هبطوا بفكرهم إلى مستوى الحذاء أيضاً.
أما الرئيس بوش، فمهما حاول أيتام صدام حسين وأتباع القاعدة والمتخلفون من أنصارهم شتمه والإساءة إليه، فالرجل دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وستذكره الأجيال القادمة أنه الرجل الذي أنقذ البشرية والحضارة من شرور الإرهابيين، وأطاح بالأنظمة المستبدة التي احتضنت الإرهاب، ودشن الديمقراطية في الشرق الأوسط رغم الصعاب، وكما وصفه الرئيس جلال طالباني إنه "صديق عظيم للشعب العراقي، وإنه الرجل الذي ساعدنا في تحرير بلادنا وبلوغ هذا اليوم الذي لدينا فيه ديمقراطية وحقوق إنسان وازدهار تدريجي.."
هامش: مقال يتعلق بالموضوع ، ومن وراء فضائية البغدادية
فؤاد الهاشم- حرية العراق كشفتها.. «قندرة»!!
http://www.alwatan.com.kw/Default.aspx?tabid=164&article_id=469492&AuthorID=802