د. عبدالخالق حسين
الجمعة 15 / 6 / 2007
" تحرير غزة " نصر إلهي آخر!!
د.عبدالخالق حسين
[ أعلن مسلحو حماس تمكنهم من " تحرير" قطاع غزة بعد استيلائهم على المقار الأمنية الرئيسية التابعة لحركة فتح، إضافة الى السيطرة على المجمع الرئاسي.] وبذلك فقد تحقق باسم الله واسم الأمة والعروبة وفلسطين، نصر إلهي آخر يوم 14 حزيران/يونيو الجاري، في غزة على (منظمة فتح) بعد النصر الإلهي الأول الذي حققه حزب الله في لبنان على إسرائيل في تموز/يوليو من العام الماضي في الظاهر، وعلى الشعب اللبناني في الواقع، لأن هذا الشعب هو الذي لحق به القتل والخراب مئات الأضعاف ما أصاب إسرائيل.
وهكذا فقد تمت السيطرة الكاملة للمسلحين الحماسيين على قوات الأمن ومراكز الحكومة الفلسطينية في غزة وتم "تنظيف" القطاع بالكامل من أتباع فتح الذين تعرضوا للاعتداء والإهانة والإذلال، كما وتعرضت المؤسسات الحكومية إلى أعمال النهب والفرهود، التي شبهها البعض بما حصل بعد سقوط نظام البعث في العراق عام 2003. فهل هناك نصر إلهي أكبر من هذا؟
وكلما تحتاجه إليه حماس في هذه الحالة هو محطة إذاعية على غرار إذاعة (صوت العرب) في الستينات أيام هزيمة حرب حزيران 1967 المذلة، ومذيع مثل أحمد سعيد، يلعلع بصوته عالياً بالنصر المؤزر مع مقاطع من النشيد الحماسي (الله أكبر فوق كيد المعتدي). والمعتدي هنا ليس الأعداء التقليديين، الإمبريالية والصليبية والصهيونية وإسرائيل أو أحفاد القردة والخنازير، بل هم في هذه المرة من أبناء فلسطين الذين ضحوا في سبيل قضيتهم بأرواحهم من مسلحي كتائب شهداء الأقصى التابعة لمنظمة فتح التي يرأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن). وكما تفيد الأنباء فقد سقط ما لا يقل عن مائة وعشر قتيل، معظمهم من رجال فتح الذين تم إعدامهم، وأضعاف هذا العدد من الجرحى، في هذه المعارك الجنونية خلال الأيام الستة الأخيرة ولحد كتابة هذه السطور (15/6/2007).
وكما قالت صحيفة آفاق الكترونية:" ولزيادة الإذلال والتذكير بمصير من يعادي حماس كانت عملية اعدام القيادي في كتائب الأقصى التابعة لفتح سميح المدهون معبرة إلى حد بعيد. فقد تم قتله بالرصاص، ثم جرى التمثيل بجثته حيث طاف بها أنصار حماس في شوارع غزة سحلا وهم يشبعونها ركلا وضربا بالاحذية." فهل سحلت إسرائيل جثث القتلى الفلسطينيين؟ أم أن السحل هو تقليد عربي بامتياز؟ وفي هذا الاحتفال الدموي وكما يضيف تقرير آفاق: "علا صوت القيادي في حماس سامي ابو زهري وهو يعلن النصر بعبارات ذات مغزى حيث قال : الله أكبر الله أكبر والحمد لله كثيرا ، انها لحظة النصر واقول للامة وللشعب ان هذا هو التحرير الثاني لغزة فالتحرير الاول كان من المستوطنين والتحرير الثاني كان من هؤلاء العملاء ". أجل إنه النصر المؤزر وعلى غرار الانتصارات العربية المعروفة، وكما كانت تردد أبواق الدعاية البعثية في عهد صدام حسين في مثل هذه الحالات بعد الهزائم: (يا محلى النصر!!). فهل هناك مهزلة أكبر من هذه المهزلة! وجنون أبشع من هذا الجنون!!
وبـ"تحرير" غزة تم فصلها عن الضفة الغربية، وبدلاً من أن يكون للفلسطينيين دولة واحدة كما كانوا يحلمون، ستكون لهم دولتان!! دولة بقيادة (فتح) العلمانية في الضفة الغربية، وأخرى إمارة إسلامية في غزة على غرار إمارة الطالبان في أفغانستان بقيادة (حماس). وفعلاً صرح أحد مسؤولي حماس أنهم سيحولون مقرات الحكومة إلى مساجد!! يبدو أن أهم ما يعاني منه سكان غزة هو النقص في المساجد وليس المدارس والمستشفيات والمعامل والمساكن.
كما وانتشرت عدوى الأعمال الانتقامية بين الأخوة - الأعداء، من غزة إلى بقية مناطق الضفة الغربية فقد تم قتل مسؤول حماس في نابلس انتقاماً. ونتيجة لهذه التطورات المأساوية، وكما قال وزير الاعلام الفلسطيني مصطفى البرغوثي لبي بي سي إن ما يحدث الآن لا يعني إنهيار حكومة الوحدة الوطنية فحسب بل انهيار السلطة الفلسطينية ككل. فهل يا ترى هذا هو (نصر من الله وفتح قريب!) أم كارثة ستحرق الأخضر واليابس؟ وأين العقل والعقلاء من كل هذا؟
إن ما يجري في غزة ليست حالة منعزلة خاصة بالشعب الفلسطيني كما يبدو في الظاهر، بل هي حالة متفشية ضمن ما يجري في المنطقة العربية بشكل عام. إذ نحن الآن أمام ظاهرة تفجير النزعات الوحشية في القتل الجماعي في عدد من البلدان العربية، ولكن تحت مختلف الواجهات والمعاذير. ففي العراق يتم القتل الوحشي بذريعة الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، وفي مصر كل يوم جمعة بعد الصلاة تقع "غزوة" إسلامية على كنائس وأملاك الأقباط المسيحيين ويتم قتل عدد منهم، وفي دارفور بين الشمال والجنوب حيث تم لحد الآن قتل نحو ربع مليون وتهجير ملايين من السكان، وفي الجزائر قتل نحو ربع مليون أيضاً في التسعينات من القرن الماضي ومازال حمام الدم مستمراً وبحجة أخرى مثل بين أنصار الله وأعداء الله، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة يجري اليوم القتل بحجة الصراع بين حماس الإسلامية وفتح العلمانية "عملاء إسرائيل!!"، فماذا يعني كل ذلك؟
إذن، نحن أمام ظاهرة كارثية عامة وشاملة، والمطلوب من المثقفين والباحثين في علم النفس والاجتماع والعلوم السياسية العرب دراستها والبحث عن أسباب الحقيقية وراءها. وكتقدير أولي، كما اعتقد، وراء تفشي موجة القتل الجماعي، ليس ما هو المعلن عنه، ديني، طائفي، مناطقي.. الخ، وإنما هو ثقافي أي ناتج عن الثقافة العربية-الإسلامية التي هي بدوية في جذورها، المعادية للمختلف، والرافضة للآخر، ولا تؤمن بحل الخلافات بالوسائل الحضارية، بل عن طريق إبادة الآخر، حتى ولو كان هذا الآخر من أبناء جلدته. إنه الموروث الاجتماعي أو ما يسمى في اللغات الأوربية بـ culture. وهذا موضوع مهم سأتطرق له في مقال مستقل قريباً.
ولكن يكفي هنا وفي هذه العجالة، أن نذكِّر أنصار (نظرية المؤامرة) من العرب، أن الداء الوبيل الذي يسري في الكيان العربي هو منا وبنا، ونتاج العقلية أي الثقافة الموروثة الانتحارية السائدة على المجتمع العربي، وليس نتيجة مؤامرات خارجية كما يدعون، وكفى تعليق غسيلنا على شماعات الآخرين. فقد صار الفلسطينيون في غزة يتمنون عودة الاحتلال الإسرائيلي لخلاصهم من شرور بلطجية حماس، وصار الأبرياء، وكما سمعنا من سيدة في لبنان، أن إسرائيل أرحم على اللبنانيين من حزب الله. وهذه سوريا، "قلب العروبة النابض" كما يدعون، تواصل اغتيال السياسيين المعارضين لها في لبنان وتدريب وإرسال الإرهابيين القتلة إلى العراق ولبنان. فمسلسل القتل عن طريق المفخخات مستمر منذ اغتيال رفيق الحريري وإلى وليد عيدو وابنه ومن معه.. ومعارك مخيم النهر البارد ولحبل على الجرار. فمتى يفيق القادة العرب من هذه السكرة الجنونية وغياب العقل ليرحموا شعوبهم ونتخلص من هذه الانتصارات الزائفة ؟