د. عبدالخالق حسين
الأربعاء 10/ 12/ 2008
هل الانهيار قريب ؟د. عبدالخالق حسين
المقصود بالسؤال الوارد في العنوان هو انهيار الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الرأسمالي المعولم الذي تقوده باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة التي تتزعم النظام الدولي الجديد بعد سقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الاشتراكية، وتفتت الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة لصالح النظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي. وكانت أسرة تحرير مجلة (المسار) الغراء في جامعة السلطان قابوس، قد استفتتني مشكورة، في العام الماضي، مع عدد من الكتاب الأفاضل، طلبت منا الإجابة على السؤال التالي: ماذا لو انهارت الولايات المتحدة الأمريكية ؟!! وما هي تداعياته على العالم وخاصة العرب والدول الفقيرة...الخ. وقد أجبت على الاستفتاء بمقال نشر في المجلة في عددها 116 الصادر يوم 20 سبتمبر 2007، بعنوان: (إذّا عطست أمريكا يصاب العالم بالزكام.) استبعدت فيها فكرة انهيار أمريكا.
وبعد عام من نشر ذلك الملف، عصفت الأزمة الاقتصادية الراهنة، وحصلت زوبعة في الأسواق المالية اللتين بدأتا في أمريكا، وكما أكدنا في مقالنا سالف الذكر، ها هو الزكام الاقتصادي الشديد قد تحول إلى تسونامي أصاب العالم بأسره، لذا فرأت هيئة التحرير بحق، من المفيد مواصلة الحوار، لتفسير الظاهرة.
نعم، إن أمريكا هي زعيمة النظام الرأسمالي، وتمر الآن في أزمة اقتصادية ومالية خانقة، ولكن هل هذا يعني أن هذه الأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي في وقتنا الراهن هي ممهدات لانهياره التام كما تنبأ الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي بشر به قبل أكثر من 150 عاماً في بيان كتبه ونشره مع رفيقه فردريك أنجلس عام 1848، سمي بـ(البيان الشيوعي) والذي صار نشيد الإنشاد للشيوعيين وغيرهم من الماركسيين في العالم فيما بعد؟؟ فمنذ ذلك الوقت ولحد الآن كلما مرت الرأسمالية بأزمة، تصاعدت صيحات الفرح والشماتة من قبل خصومها، مبشرة بقرب انهيارها!! معلنة أن شبح ماركس عاد ليطل على العالم مؤكداً صحة نبوءته!!
في الحقيقة أن الأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالعالم هي ليست جديدة، وليست الأولى، وبالتأكيد سوف لن تكون الأخيرة أيضاً. لقد كانت أكبر أزمة مر بها النظام الرأسمالي هي الكساد الكبير بين عامي (1929-1933). وبمثل ما خرجت الرأسمالية من تلك الأزمة وما تلاها من أزمات بسلام وهي أكثر شباباً وعنفواناً، كذلك نطمئن المبشرين بانهيار الرأسمالية اليوم، أنها لا شك ستخرج من هذه الأزمة الجديدة لتواصل تقدمها المطرد وهي أكثر شباباً وعنفواناً أيضاً.
يعتقد علماء الاجتماع الغربيون، ومنهم من ذوي الاتجاه الماركسي، أن ماركس أخطأ في تقدير عمر الرأسمالية عندما اعتقد أنها على وشك الزوال في نهاية القرن التاسع عشر، وأن شبح الثورة الاشتراكية تحوم على أوربا كلها لتطيح بالرأسمالية، وأنها فقط تحتاج إلى ركلة من الطبقة العاملة لتنهار إلى الأبد وليقام مكانها النظام الاشتراكي العادل على أنقاضها. يعتقد هؤلاء العلماء أن مشكلة ماركس أنه لم يأخذ في الحسبان قدرة النظام الرأسمالي على تجديد نفسه، وامتلاكه لآلية التصويب الذاتي self-correction في حل مشاكله باستمرار. إن الأزمات الاقتصادية الدورية الملازمة للرأسمالية، من ركود وكساد اقتصادي، هي تصحيحية ومن صلب تركيبة وطبيعة النظام الرأسمالي نفسه، تتكرر دورياً على فترات تتراوح بين عشرة و عشرين عاماً، لحل مشاكله وتصحح تراكمات الخطأ. فكما يقول خبراء الاقتصاد الرأسمالي، أن ما يحصل في السوق هو دائماً صحيح (Market is always right) حتى ولو ظهر للعيان على شكل كوارث.
يؤاخذ دعاة الاشتراكية على الرأسمالية هذه الدورات من الركود والكساد، ولكن نسي هؤلاء أنه إذا كانت الرأسمالية تواجه أزمات الركود والكساد على فترات متباعدة، فإن الاشتراكية هي في حال ركود وكساد دائمين، ولعل هذا هو سبب انهيارها المدوي من الداخل وحتى بدون أية ركلة من الخارج.
فالرأسمالية هي في نمو مطرد، ولو أخذنا الرأسمالية الأمريكية على سبيل المثال، وكما يذكر أمير طاهري: «في عام 1979، استقر مؤشر داو جونز لقيمة الأسهم عند مستوى اقل من 1000 نقطة، بينما بلغ المؤشر نفسه هذا العام قبيل الأزمة، حوالي 14000 نقطة تقريباً، أي بزيادة مقدارها 14 ضعفاً في غضون ثلاثة عقود فقط. وفي عام 1979، كان عدد الذين يمتلكون أسهما في أسواق البورصة يزيد قليلاً عن 5 ملايين أميركي. أما الآن، وبعد ثلاثين عاماً، ارتفع هذا العدد إلى ما يقرب من 60 مليون شخص، بما في ذلك الملكية غير المباشرة عبر صناديق المعاشات والاستثمارات الأخرى. وفي نفس الفترة، ارتفعت أعداد من يمتلكون منازلهم من 17% إلى ما يتجاوز 40%. وللمرة الأولى في التاريخ، على الأقل داخل الولايات المتحدة، تألفت الغالبية بين السكان من رأسماليين، بمعنى أفراد يمتلكون رؤوس أموال.». فهل هذا يعني انهيار؟
في رأيي، أن السر الأعظم وراء تقدم الشعب الأمريكي ووصوله إلى هذا المستوى الراقي الذي أهله لقيادة العالم، يعود إلى عدة أسباب، منها، أنه ليس لهذا الشعب تاريخ بعيد يتغنى به ويمجده ليل نهار، ليجعله أسيراً داخل زنزانته المظلمة كما في حالة العرب، فمعظم الشعب الأمريكي (عدا الهنود الحمر) هم من المهاجرين من مختلف القوميات والأديان في العالم، وتقبله لهذه التعددية وصهرها في بوتقة الوطنية الأمريكية، وكذلك قدرة هذا الشعب على التكيف والتجدد والمرونة ، ونزعته البراغماتية في السياسة والاستجابة الصحيحة للمستجدات، وامتلاكه لآلية تصحيح وتصويب الخطأ والتجدد الدائم، أي ما يسمى بآلية التصحيح الذاتي التلقائي Self correction، كل هذه العوامل هي سبب تقدم أمريكا وتحميها من الانهيار.
ما مصير العولمة؟
ذكرت في مقالة سابقة لي بعنوان (العولمة حتمية تاريخية)، أن العولمة هي مرحلة حتمية في التاريخ، وهي مناج مباشر للتطور المذهل في العلوم والتكنولوجية وخاصة في مجال الاتصال والثورة المعلوماتية والنقل، مما أدى إلى التقارب بين الشعوب وترابط مصالحها وتداخل اقتصادياتها ومصيرها المشترك بشكل لا فكاك منه. وبما أن أمريكا هي أكبر دولة منتجة ومالكة للتكنولوجية التي خلقت العولمة، لذلك صارت هي قائدة هذه العولمة.
وعلى الضد من تمنيات وتوقعات البعض بأن العولمة في خطر، فالأزمة الاقتصادية الراهنة أثبتت جدوى وضرورة العولمة وساعدت على تماسكها وتقدمها أكثر، لأن هذه الأزمة الاقتصادية هي ليست خاصة بأمريكا وحدها، بل هي عالمية، والمشكلة العالمية تحتاج إلى حلول عالمية مشتركة أيضاً. وهكذا فبمرور الوقت يدرك العالم أكثر فأكثر الحاجة الماسة إلى العولمة وأهميتها، فهناك مشاكل كثيرة وكبيرة مشتركة تهدد مستقبل البشرية مجتمعة، وليس بإمكان دولة واحدة في مواجهتها لوحدها، بل تتطلب هذه المشاكل المزيد من التقارب والتعاون بين الشعوب ضمن آلية العولمة في مواجهتها، مثل: الإرهاب، والاحتباس الحراري، والانفجار السكاني، وانتشار مرض الأيدز وغيره من الأوبئة، وتفشي الفقر في العالم الثالث، والكوارث الطبيعية وغيرها. لذا فمن الخطأ الاعتقاد أن العولمة قد انتهت أو مهددة بالانتهاء بسبب هذه الأزمة المالية العابرة. ومن الخطأ الكبير مقاومتها، بل يجب على الحكومات والشعوب والمؤسسات، التكيف مع العولمة واستثمارها لصالحها والاستفادة منها بدلاً من مقاومتها، فالعالم في تغير مستمر، ومن لا يتغير ينقرض.
خلاصة القول، إن الذين يبشرون بقرب انهيار أمريكا، فإنهم يعبرون عن تمنياتهم ورغباتهم فقط، أي أفكار رغبوية بحتة wishful thoughts، لبعث الفرح الخادع في نفوسهم، لذا ننصحهم بالتريث في كتابة نعي أمريكا ونظامها الرأسمالي. يقال أن مارك توين قرأ نعيه في إحدى الصحف، فأرسل برقية إلى المحرر يقول فيها إن خبر وفاته قد تم تناوله بمبالغة كبيرة. ونفس الكلام يمكن قوله فيما يجري من مبالغات عن قرب «نهاية أميركا».
* نشرت هذه المقالة في مجلة (المسار) العمانية التي تصدرها جامعة السلطان قابوس، في عددها 149 يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، ضمن ملفها الخاص ، الكساد العالمي الجديد.