|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  4  / 3 / 2023                                د. كاظم المقدادي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

لمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الدكتورة نزيهة الدليمي
ذكريات حية وعقود من النضال المثابر الدؤوب

د. كاظم المقدادي *
(موقع الناس)

مقابلة أجريتها قبل ربغ قرن مع الدكتورة نزيهة الدليمي رائدة الحركة النسوية العراقية، وأول رئيسة لرابطة المرأة العراقية، وأول وزيرة عراقية في تأريخ العراق الحديث، ومناضلة سياسية واكبت النضال الوطني التحرري والديمقراطي طيلة نصف قرن.
أعيد نشرها لمناسبة الذكرى المئوية لميلادها (1923- 2007).

قبل خمسة وعشرين عاماً زارت الرفيقة الدكتورة نزيهة الدليمي السويد تلبية لدعوة البيت الثقافي العراقي وجمعية المرأة العراقية في يوتيبوري بالسويد.وقد شاركت بالإحتفالات التي جرت بمناسبة الذكرى الأربعين لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة. وجرى للرفيقة الكبيرة تكريم مهيب في كل من يوتيبوري وستوكهولم تقديراً لمكانتها وتأريخها النضالي الطويل، بوصفها إحدى رائدات الحركة النسوية العراقية، وأول رئيسة لرابطة المرأة العراقية، وأول وزيرة عراقية في تأريخ العراق الحديث، ومناضلة سياسية واكبت النضال الوطني التحرري والديمقراطي طيلة نصف قرن.

إغتنمت فرصة وجودها في ستوكهولم وأجريت معها المقابلة التالية لـ " طريق الشعب"، فأجابت على أسألتي العديدة في حديث شيق عن ثورة الرابع عشر من تموز، وعن نشأتها، والحياة الطلابية، وحركة تحرر المرأة، وأول مؤتمر لأنصار السلام، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية، وأول لقاء بنساء العالم، وإتحاد النساء الديمقراطي العالمي، و" ضغبرة" نساء السلطة، وعن طبيعة العلاقة بين "رابطة المرأة العراقية" والحزب الشيوعي العراقي..والمهمات الراهنة للرابطيات الشابات..وذكريات الماضي ضمن مسيرة الحزب النضالية.

نُشرت المقابلة في العدد المزدوج: رقم 3، تشرين الأول ورقم 4 ،تشرين الثاني 1998 من صحيفة "طريق الشعب" تحت عنوان:" ذكريات حية وخمسون عاماً من النضال المثابر الدؤوب"..
أعيد نشرها بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الرفيقة الراحلة.

* بإعتبارك من الشخصيات الوطنية والسياسية المعاصرة لأحداث ثورة 14 تموز 1958، والمشاركة فيها، وبغض النظر عما اَلت إليه مسيرتها، وعن عوامل إنتكاستها، ما رأيك بالتسميات التي تطلق عليها، من قبيل " حركة"، و"إنقلاب" و" حدث" و"ردة" وما شابه، تجنباً للإعتراف بها كثورة حقيقية ؟
- أنني على قناعة لا يشوبها أي شك بأن ثورة 14 تموز 1958 هي ثورة حقيقية لكافة طبقات الشعب العراقي وفئاته وقومياته،عرباً وكرداً وأقليات قومية وطائفية، نساءاً ورجالاً..قامت من أجل الأنعتاق من التبعية للأستعمار والإحتكارات ألأجنبية، ومن ربقة العلاقات الإقطاعية، وللخلاص من النظام الملكي..أي الإنعتاق من تلك العوائق الرئيسية الثلاث، التي كانت تقف أمام تطور وتنمية طاقات شعبنا في ظل نظام وطني ديمقراطي حقاً.ومن هذا المنطلق، أعتقد أن تسميتها بـ " حركة" أو "إنقلاب" هي تسميات بعيدة كل البعد عن واقع الأوضاع السائدة اَنذاك.إنها تسميات غير موضوعية، وليست علمية.أما إنتكاسة الثورة فنتجت عن ردة فعل الدوائر الإستعمارية لأسترجاع مصالحها "الحيوية" في عراقنا الغني بخيراته وبشعبه، ونجاحها في تفتيت الوحدة الوطنية،ولاخفاق الثورة وقيادتها في إقامة نظام الحكم الوطني الديمقراطي، وفي حل المسالة الكردية على أسس صحيحة. من ناحية أخرى،.ان الذين يحكمون العراق منذ عام 1963، لا يمثلون الحركة الوطنية العراقية، إنما يمثلون أعداءها.فلا يجب خلط الأوراق وتحميل ثورة 14 تموز مسؤولية الأوضاع التي عاشها العراق في ظل حكمهم الأسود، بل على العكس،علينا ان ندرك ان مسؤولية ذلك تعود لأسباب وعوامل خارجة عن إرادة الشعب العراقي، ومناهضة لما حققته ثورة 14 تموز من إنجازات ومكتسبات، وفي مقدمتها إنهاء التبعية السياسية والإقتصادية للأستعمار.

* ما هي بتقديرك العبر والدروس التي ينبغي ان تستخلصها قوى المعارضة العراقية، التي تناضل للخلاص من النظام الدكتاتوري وإقامة البديل الديمقراطي، من ثورة 14 تموز، وتداعيات إنتكاستها ؟
- تشكل "المعارضة العراقية" حالياً خليطاً عريضاً من ألأحزاب والقوى، ومنها من له قيم وأفكار معارضة لثورة 14 تموز التحررية.من هنا أقول: علينا ان لا نتسرع بتسميات غير دقيقة للقوى التي يجمعها العداء لنظام صدام حسين، ومن بينها أوساط وقفت ولا تزال تقف ضد جوهر وأهداف ثورة 14 تموز التحررية والديمقراطية.وهذا هو أبرز درس ينبغي ان نتعلمه من التشكيلة الحالية للمعارضة.الدرس الأخير الذي ينبغي ان نتعلمه من عملية التحضير والإعداد الواعي لثورة 14 تموز، هو الإستناد الى جانبين متلازمين: جانب التعاون والأئتلاف، وجانب العمل الجماهيري المنظم، والواعي، لأعداد القوى التي تحقق أهدافنا لتخليص العراق من الدكتاتورية كنظام، وإقامة النظام الوطني الديمقراطي الفدرالي الموحد، وإنهاء التبعية السياسية والأقتصادية التي سببها هذا النظام.فلا ينبغي ان نرضى بأي صيغة أقل من هذا، ولا يجب ان نسمح بنظام ديكتاتوري اَخر، ولا بتبعية لخدمة مصالح الأحتكارات العالمية سياسياً وإقتصادياً. تلكم هي خلاصة تجربتنا في النضال الوطني الديمقراطي.

* الدكتورة نزيهة الدليمي معروفة بوصفها إحدى رائدات الحركة النسوية العراقية، ومن المؤسسات لرابطة المرأة العراقية، وأول وزيرة عراقية..إلا ان الشبيبة من قراء " طريق الشعب" لا تعرف المزيد عن مسيرتها النضالية..
- ولِدتُ في عام 1923 في بغداد، أبنة بكر، وتبعني 6 أطفال اَخرين، 4 أشقاء وشقيقتين.نشأت في ظل عائلة ذات دخل متوسط، حيث كان والدي يعمل مستخدماً في أسالة ماء بغداد.وعلى الرغم من كبر عدد أفراد الأسرة (كانت جدتي - والدة أمي - تعيش معنا أيضاً) سعى والدي الى تنمية الأهتمامات الثقافية لدينا، موصلاً لنا، في اللقاءات المسائية اليومية، المعلومات العامة، عن طريق قراءته للكتب التأريخية والإجتماعية. وكان يقرأ لنا ما تنشره الجرائد اليومية، وأصبحنا متعلقين بجريدة "حبزبوز" ونقدها للأوضاع السائدة، بإسلوبها الساخر. وعن هذا الطريق نمت لدينا القدرة على المناقشة والتساؤل والمتابعة.وإزداد تعلقنا بتراثنا، وحبنا لوطننا وشعبنا.
وفي أعوام الحرب العالمية الثانية كنت طالبة..
كنا نعيش في منطقة قرب باب المعظم،إلا ان أقرب مدرسة لنا كانت مدرسة "تطبيقات دار المعلمات"،وكانت في حينها مدرسة نموذجية، حيث درست الأبتدائية والمتوسطة،أما الدراسة الثانوية فقد أكملتها في "الثانوية المركزية للبنات".
كنت طالبة تتأثر بما تدرس من علوم،تحاول ان تتفهم من خلالها، وما تشاهده من أوضاع ومعاناة مريرة يعيشها شعبنا، خاصة بعد دخولي الكلية الطبية في عام 1941-1942 الذي أتاح لي فرصة الإطلاع على تفشي مختلف الأمراض بين بنات وأبناء شعبي، وإرتباطها بأوضاعهم المعاشية المتردية، وكانت لي طالبة صديقة..

* هل تذكرين إسمها ؟
- نعم!، وهي لا تزال حية ترزق، وأسمها نزيهة رؤوف مخلص - شقيقة زوجة عبد الفتاح إبراهيم.. يعني من عائلة متنورة بالأفكار الديمقراطية.كنت أتناقش معها حول اسباب الأوضاع الإجتماعية السائدة..وعن طريقها تعرفت لأول مرة على نشاط "الجمعية النسوية لمكافحة الفاشية والنازية".وكنا نحضر سوية الندوات والمحاضرات،التي تعقدها الجمعية لتبيان خطر الأفكار الفاشية.وكانت نشاطاتها عامة، لأن الجمعية كانت مجازة رسمياً.وفي عام 1945 دعتني نزيهة الى إجتماع عام للجمعية حضرته 400 امرأة.

* أين عقد الأجتماع ؟
- عقد في بناية الثانوية المركزية للبنين في بغداد.وفي ذلك الإجتماع تقرر تبديل إسم الجمعية/ذلك ان الحرب إنتهت، والفاشية والنازية إندحرتا.وبعد نقاسات وإقتراحات رسى الأختيار على إسم "رابطة النساء العراقيات، وأصبحت عفيفة رؤوف - شقيقة نزيهة - رئيسة لها.وتم إنتخاب هيئة إدارية جديدة، أصبحت عضوة فيها، وكنت لا أزال طالبة في الكلية الطبية.وقمنا في صيف ذلك العام بفتح صفوف لمكافحة الأمية.وقد أدركت على نحو أعمق أهمية العمل بين النساء،لرفع مستواهن ثقافياً وإجتماعياً،ليصبحن أكثر قدرة على حل مشاكلهن بأنفسهن، والمطالبة بحقوقهن المهدورة.
طبعاً لكي أكثف الإجابة إختصرت الكثير من الأمور.لكنني أود الإشارة هنا الى ان " رابطة النساء العراقيات" كانت تعقد إجتماعات ولقاءات علنية طيلة فترة إجازتها رسمياً في كليات الطب والحقوق ودار المعلمات العالية، وغيرها.
وكانت طالبات كل كلية يعقدن إجتماعهن لوحدهن.الى جانب الكليات،كنا نستفيد من المؤسسات الأخرى.فقد عقدنا، مثلاً، إجتماعاً في النادي الرياضي الأولمبي في الأعظمية، حضرته أكثر من مئة امرأة، تحدثت فيه عفيفة رؤوف عن المؤتمر الأول للنساء العربيات،الذي عقد في القاهرة، وكانت الرابطة مدعوة إليه، ومثلتها فيه الرئيسة.وكانت مدام هدى الشعراوي هي المبادرة لعق المؤتمر.وكان من قراراته تأسيس إتحاد نسائي في كل قطر عربي، لا جمعية نسائية، ويتشكل من كل الجمعيات التي حضرت المؤتمر.بالنسبة للعراق، كانت قد حضرته،الى جانب "رابطة النساء العراقيات، كل من " جمعية مكافحة الأمية" (هي جمعية تقدمية أيضاً،كانت تعمل فيها الدكتورة روز خدوري، وهي التي مثلتها في المؤتمر) و"جمعية حماية الطفل"، ومثلتها الدكتورة سانحة أمين زكي.وأكد المؤتمر على أهمية دور المرأة في النضال ضد الأستعمار والصهيونية، الى جانب نضالها في سبيل حقوقها.أي ان عمل المرأة كان مراعياً للإطار الوطني والقومي، وهو سمة من سمات ذلك العهد، ولم يكن عملآ إنثوياً محضاً منعزلاً عن المجتمع وقضاياه الوطنية.وفعلاً تمخض إجتماع النادي الرياضي الأولمبي،الذي تمثلت فيه كافة ممثلات الجمعيات المذكورة عن تأسيس " الإتحاد النسائي العراقي" وتشكيل هيئته الإدارية،التي مثلت فيها "رابطة النساء العراقيات" بثلاث عضوات.وكان ذلك في عام 1945.وأصدرنا صحيفة بإسم "تحرير المرأة"، ,كنا نكتب فيها خواطر.أما التوجيه الفكري،فكانت عفيفة رؤوف مسءولة عنه، وكانت تكتب أشياء لطيفة جداً تخص حياة المرأة والطفل والحرمان في العراق. لازلت أتذكر تعقيباً لها إسمه "الحرمان"،الذي تأثرت به جداً لعمق محتواه وإسلوب كشفه لمشاكل الشعب..لم يتحمل نظام نوري السعيد هذه الصحيفة، فأغلقها في عام 1947 مع بداية الحملة الشعواء ضد الحريات في ذلك العام، ولم يكن قد صدر منها سوى عددان.
في أوج الحملة،في عام 1947، قررت الإنتماء الى حزب التحرر الوطني، ومن ثم الى الحزب الشيوعي..

* لماذا حزب التحرر الوطني ؟
- لأنه كان قد قدم طلباً لأجازته رسمياً، وهو الحزب الجماهيري، الذي نعرفه اَنذاك، ولا يحتاج المرء الى بحث وتوغل.. ولكن السلطة لم تجيزه. عندئذ إنتميت، مع الكثير من الأعضاء الآخرين، الى الحزب الشيوعي العراقي..

* كيف تعرفت على مبادئ الحزب السيوعي العراقي ؟
- بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي، تعرفت على أفكاره من خلال النقاشات التي كانت تدور في الكلية بين الطلبة،وكان يشارك فيها العديد من الطلبة من مختلف الأحزاب العراقية.إضافة الى ذلك كانت هناك صحف وطنية، مثل جريدة حزب الشعب، وجريدة الحزب الوطني الديمقراطي كـ"الوطن" و "الأهالي" وغيرهما من الصحف التقدمية الليبرالية.وكان الحزب الشيوعي العراقي يحوز على شعبية متميزة وسط الطلبة، مقارنة بالأحزاب الأخرى، لوضوح أهدافه، وصموده، وصلابته،وعدم مراوغته حول القضايا الوطنية، وكان يطرحها بالشكل الصحيح.
كان للحزب نشاط في كليتنا، وكان يمثله اَنذاك فاروق برتو،الذي كان يزودنا بجريدة الحزب السرية وأدبياته الأخرى. ويمكن القول ان الدكتور فاروق برتو هو أول من عرفني على الحزب، وكان تحركه مقتصراً على إيصال أدبيات الحزب فقط. وكانت لدينا نشاطات مع مع قوى وطنية أخرى.فعندما أعدمت السلطات الملكية الضباط البرزانيين الأربعة،قام طلبة صفنا، وهم من مختلف الميول والإتجاهات، بإضراب عن الدراسة.وكان زميلان من البارتي هما اللذان أخبرانا بجريمة الإعدام، وهما جمال رشيد فرج وكمال ناجي.فأعربنا عن تضامننا الوطني.وكنا نقوم بنقاشات سياسية، نقرأ الجرائد العلنية ونناقش ما فيها.. وكل هذا وسع من مداركنا.

* متى تم ترشيحك للحزب ؟
- رشحت للحزب في عام 1947، ونلت شرف العضوية في سنة الوثبة ضد معاهدة بورتسموث في عام 1948.وفي هذه السنة تخرجت من الكلية وباشرت ممارسة مهنة الطب، وساعدني عملي السياسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، والتمعن في أدبياته وأفكاره، على تفهمي،على نحو أعمق، لمشاكل أبناء وبنات شعبي، الأمر الذي ساعدني،أيضاً، على الإندفاع في خدمة شعبي ووطني.وأتاحت لي مهنتي كطبيبة الإطلاع عن قرب على مشاكل شعبي، وصرت أربط تلك المشاكل بشكل واع بسيطرة الإستعمار والأقطاع وبالتخلف في مختلف مناحي الحياة، خصوصواً بعد مساهمتي في مشروع منظمة الصحة العالمية..

* كيف جاءت الخطوة الأكبر وأصبحت عضوة في حزب الكادحين الذي كانت قلة قليلة من ذوي المهن الطبية تتعاطف معه ؟
- لقد تنامى الوعي أثناء الحرب العالمية الثانية بإتجاه معاداة السلطة.وكانت هناك حريات نسبية، سُمح بها بُعيد الحرب، ومنها حرية تأليف الأحزاب، فأُجيزت في عام 1946 أحزاب وطنية، وهي حزب الشعب، والحزب الوطني الديمقراطي، والبارتي.وقبل ذلك، كان هناك نشاط المنظمات الجماهيرية.فمثلاً، كان لدينا في الكلية لجنة لأتحاد الطلبة، وكنا ننتخب سنوياً ممثلينا فيها.كانت المشاعر الوطنية تتأجج وتنصقل خلال النقاشات التي تدور بين الطلبة.علماً بان إتحاد الطلبة كان يقوم بنشاطه علناً ودون خوف، وهو نشاط لم يكن محتواه سياسياً صرفاً، بل طلابياً مهنياً،أولاً، وذو محتى وطني تحرري، ثانياً.. لفضل كل هذا، دخلت من صفي نسبة غير قليلة (بالنسبة الى ذلك الوقت) الى صفوف الحركة الوطنية، وبالذات الى الحزب الشيوعي العراقي.

* نعود الى سنوات التخرج الأولى وبدايات عملك كطبيبة..
- عُينت، بعد تخرجي، كطبيبة مقيمة في المستشفى الملكي ببغداد.وهناك قضيت فترة الأقامة،إلا أنه أثر إعترافات مالك سيف، والإعتقالات التي جرت، وورود إسمي ضمنها بأنني أمارس نشاطاً سياسياً في المستشفى،الى جانب النشاط النسوي، تم إستداعي الى "التحقيقات الجنائية"..أنكرت الإعترافات، مؤكدة بأن طبيعة عملي بالمستشفى، وفحصي للمرضى، تجعلني أحتك يومياً بعشرات المواطنين، دون أن أعرف هذا المريض او ذاك من أي حزب أو إتجاه سياسي، فتم إطلاق سراحي، ونقلوني الى مستشفى الكرخ. وهنا، لن أنسى أبداً، من بين أمور كثيرة، والد الشهيد زكي بسيم، الذي أُدخل المستشفى عقب إعدام نجله.. لقد ترك أعدام الرفاق الأبطال: فهد وحازم وصارم، أثره على الجميع.وفي بيتنا بالذات أُعلن الحداد، مثلما فعل الكثيرون، لشعورهم بالظلم الجائر بحق المعدومين.والشهيد زكي بسيم كان يعمل مع أبي في إسالة الماء، وكان يحدثه عن أمور كثيرة تخص شعبنا.من هنا مبعث الحزن العميق الذي خيم على أسرتي.. جلبوا والد الشهيد الى القسم الذي أعمل فيه، وكان في حالة من الذهول والشرود الذهني، فإعتنيت به عناية خاصة حتى شفائه..كنت أجلس عند سريره، وكان يحدثني عن زكي وعن نشاطه وتضحيته في سبيل شعبه..في تلك الفترة أيضاً جيء الى المستشفى بسجينات سياسيات مضربات عن الطعام، مطالبات بتحسين ظروفهن في السجن، ورأيت صمودهن، وكيف كن يقاومن محاولات كسر أضرابهن بالقوة..وكل ذلك أثر عليَّ كثيراً..
بعد هذه الأحداث نقلوني الى السليمانية، ثم الى كربلاء.وهناك مررت بتجربة جديدة،إبتدأت بخروجي من بغداد وإلتحاقي بمجتمع اَخر- مجتمع كربلاء..بقيت هناك أشهر عديدة.كنت أسكن مع عائلة الدكتور مهدي مرتضى، الى ان إفتتحت عيادتي الخاصة..عموماً، كنت هناك مقيدة في مجتمع محافظ جداً تجاه المرأة..

* وهذه من صعوبات عمل المرأة في ذلك الوقت ؟
- طبعاً، كانت هناك صعوبات كثيرة.كنت مضطرة، مثلاً، الى لبس العباية، والى مراعاة أمور أخرى عديدة،حتى عندما أذهب لفحص مريض في البيت..

* نعود الى مشروع منظمة الصحة العالمية، وتأثيره على مسيرتك النضالية اللاحقة..
- في أحد الأيام إتصل بي تلفونياً مدير الصحة العام - الدكتور الطوخي - قائلاً: هناك مشروع لمنظمة الصحة العالمية لمكافحة البجل، هل توافقين على العمل فيه ؟ فأجبته حالاً ودون أي تردد:" موافقة !"، لأتخلص من القيود المفروضة عليَّ في كربلاء.وإلتحقت بالمشروع عام 1950، وكان غرضه التقصي عن مرض البجل (وهو مرض من أمراض الصحة العامة، ويسمى Primitive Syphilis) في التجمعات السكانية الواقعة حول المياه.فأخذنا، مثلاً، دجلة الى الموصل، وأخذنا الفرات الى عانه.بعد ذلك نزلنا الى الأهوار، الى كل مناطقها، في العمارة والبصرة والناصرية، وهي واسعة جداً..

* وهذه الجولات أتاحت لك فرصة الأحتكاك المباشر بالناس والتعرف على أحوالهم أكثر..
- طبعاً!،كانت فرصة فريدة وكبيرة لا تعوض بالنسبة لي. فلو بقيت خمسين سنة في مكاني لما تعرفت، ولا حتى تصورت، حياة الناس ومعيشتهم في مثل تلك الأحوال التي رأيتها، خاصة وإننا كنا نتابع أوضاعهم الصحية، فأطلعت عن قرب، وعايشت أوضاع الناس، ويا لها من أوضاع..مرة رأيت إحدى النساء تخوض في مياه الهور الوسخة، وكانت في فترة النفاس، فطلبت منها ان تعتني بنفسها، منبهة إياها الى خطورة ما تعمل، فردت:" يا دكتوره، هل تحسبيننا من الأوادم ؟!! إحنه بهاي عيشتنا مو أوادم!"، فأثرت فيَّ كثيراً..
كنا نستخدم أثناء الحملة ما يسمى بـ" الكارت" أو " البطاقة الصحية"، التي نثبت فيها نتائج الفحوصات، وغيرها من المعلومات التي كنا نستفيد منها في المتابعة.وقد تجمعت لديَّ الآلاف منها، بما فيها من كم هائل من المعلومات.فأعددت في ضوئها كراساً خاصاً بأوضاع المرأة العراقية عموماً- وفقاً لأجتهادي في ذلك الوقت..
بعد إنتهاء مهمة التقصي الميداني، رجعت الى بغداد، في عام 1951، للعمل في المستوصف التابع للمشروع، والذي كنا نتابع فيه مرجى البجل. تبلورة لديَّ فكرة إعادة نشاط " رابطة النساء العراقيات". وبدأت التحرك.فوجدت ان الرئيسة عفيفة رؤوف قد أنجبت في هذه الفترة المزيد من الأطفال، وإزدادت مسؤولياتها العائلية، ولذلك إعتذرت عن المشاركة في المهمة.عندئذ شرعت بتجميع النساء، ويبلغ عددهن 30 امرأة، معظمهن من خريجات الكليات.ومنهن من هن شقيقات لمناضلين، وعدد منهن مناضلات فعلاً..

* من كان يساعدك في هذه المهمة الصعبة ؟
- كان الحزب يساعدني.يزودني بأسماء العوائل والنساء، فأقوم بزيارتهن، ومنهن من تربطني معهن صداقات شخصية قديمة، ظلت قائمة بيننا. فاشتركت معي، مثلآ، إحدى طالبات صفي الدكتورة خالدة القيسي، والعديد من بنات الحقوق.وباشرنا بمناقشة ورسم أهداف الرابطة وبرنامجها.وقد إستغرق ذلك سنة بكاملها.. كنا نلتقي إسبوعياً على شكل زيارات إجتماعية، الى ان توصلنا الى وضع الأهداف، والبرنامج.وعندئذ تقدمنا الى وزارة الداخلية بطلب الإجازة بإسم  جمعية تحرير المرأة"- إسم جريدتنا سالفة الذكر. وشرعنا ننشط بشكل علني، مستغلين فترة البت بالإجازة التي تمنح الهيئة المؤسسة حق مزاولة النشاط لأربعة أسابيع.

* هل تتذكرين أسماء الهيئة المؤسسة ؟
- للأسف،حالياً لا أتذكر الأسماء، لكنني أتذكر جيداً اننا إخترنا أسماء نساء غير معروفات، ولم نضع في الطلب أسماء نساء معروفات.وعندما ذهبت عضوات الهيئة المؤسسة لتقديم الطلب لبس قسم منهن "البوشي" للتمويه،إذ كان من بينهن بنات من عوائل سياسية وشيوعية.
نشطنا خلال فترة التأسيس وإنتظار الإجارة نشاطاً جيداً. وكان تنظيم الحزب يدعمنا.فوصلتنا مئات التواقيع من المدن الأخرى، مثل البصرة والعمارة، تؤيد الجمعية الجديدة وهيأتها المؤسسة. أما في بغداد، فقد حقق نشاطنا العلني الحصول على تأييد واسع..إلا أن طلبنا رفض " بناء على مقتضيات المصلحة العامة". ورداً على ذلك، عقدنا إجتماعاً، وقررنا بالإجماع مواصلة العمل لتحقيق ذات الأهداف والبرنامج المتفق عليه، بشكل سري. وقررنا أيضاً تغيير إسم الجمعية الى " رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية.,كان ذلك يوم 10 اَذار 1952. ونشرنا النظام الداخلي وبرنامج الرابطة (تم طبعها في مطبعة سرية بمساعدة الحزب).وبدأنا نعمل وفق النظام الداخلي للرابطة.فشكلنا حلقات، وهي أشبه بلجان بسيطة التنظيم، خالية من المركزية الزائدة.كل حلقة تقوم بالإتصال والتحرك على النساء من حولها، تعرفهن بأهداف وبرنامج الرابطة، وبحقوق المرأة المهدورة.وكانت أهداف الرابطة تتضمن ثلاثة محاور أساسية:
1- النضال من أجل التحرر الوطني والسلام العالمي.
2- الدفاع عن حقوق المرأة.
3- حماية الطفولة العراقية.

* هل كان عملكن مقتصراً على بغداد فقط ؟
- لا طبعاً ! بدأنا في بغداد، ومن ثم عملنا في المحافظات.وقد شجعنا على ذلك التأييد، والتواقيع التي وردتنا.فصار لنا،أول الأمر، فرع في السليمانية، وكانت الأخت المسؤولة هناك نشطة، ولها علاقات واسعة مع النساء في أربيل، حيث شكلت فرعاً أيضاً.ثم جاء دور البصرة، والعمارة، والناصرية، وغيرها.

* ما هي الأساليب التنظيمية التي إعتمدتموها ؟
- لم نعتمد الأساليب التنظيمية الهرمية، بل إعتمدنا إسلوب الحلقات.وجعلنا جريدتنا هي الصلة بين بغداد والفروع.وكل من تريد تشكيل حلقة جديدة كانت تعرف عن طريقها ما ينبغي القيام به.
لقد إعتمدنا أساليب العمل المستنبطة من الحياة اليومية للمرأة العراقية، مراعين كثرة مسؤولياتها البيتية.ولم نلزم العضوات بحضور كل إجتماع.بالمقابل، كنا نذهب نحن إليهن، ونسعى ان تكون كل عضوة قريبة منا. الشيء الآخر، هو سعينا لتحريك المرأة بحدود الحياة اليومية، وبالإمكانات المتاحة. كنا، مثلاً، نجمع النساء المراجعات للعيادات الطبية في المستوصفات والمستشفيات ونتحدث إليهن عن الأدوية وأنواعها وأهميتها، وضرورة الوقاية الصحية والرعاية الطبية.ونشير، بنفس الوقت، الى ان الطبيبة الواحدة تكشف يومياً على مائتي إمرأة، ومن هنا فهي (الطبيبة) لا تستطيع الإهتمام بالمريضة كما يجب. ومثل هذه الأمور كانت تحضى بالتأييد والإستجابة.وكنا نغتنم هذه الإستجابة ونرشدهن الى ما يجب ان يقمن به.فمثلاً، في حالة الأزدحام على مستوصف ما، نقوم بتحريك النساء المراجعات له ونعلمهن ان يقدمن طلباً لتوسيع المستوصف، أو لزيادة عدد أطبائه والمساعدين العاملين فيه. ونعزز الطلب بالتواقيع. وفي أيام إفتتاح المدارس، كنا نقوم بحملة توعية لأفهام الرابطيات بضرورة ان تقوم كل واحدة منهن بأخذ أخيها أو أختها لتسجيله بالمدرسة الفلانية، وفي حال رفض تسجيله،لعدم وجود أماكن، تطلب من مدير أو مديرة المدرسة إفتتاح صف جديد،أو زيادة عدد المعلمين. وقد جرت الإستجابة للعديد من هذه المطاليب، وتعاطفت العديد من مديرات المدارس معها. وفي حالى الرفض، كنا ننظم وفوداً الى وزارة المعارف، تشترك فيها نساء المحلة، وقسم كبير منهن لسن رابطيات، تقودهن رابطية، للمطالبة بفتح مدرسة أو زيادة عدد الصفوف أو عدد المعلمين.وحققنا الكثير من هذه المطاليب.إضافة الى هذه الأنشطة، خصصنا في جريدتنا ركناً خاصاً للقارئات، يطرحن فيه ما لديهن من مشاكل، ومقترحات، ومعالجات.وقد حرك ذلك الأجواء النسائية كثيراً.

* وعملك الحزبي ؟
- في هذه الفترة، تدرجت في التنظيم الحزبي، وعملت في اللجنة النسائية التابعة لمحلية بغداد (تأسست في عام 1954)، وبعد ذلك تقدمت الى محلية بغداد (ولم تكن في ذلك الوقت قد أصبحت بعد منطقية).وبعد ثورة 14 تموز 1958 رُشحت الى اللجنة المركزية للحزب، وعملت في اللجنة المركزية حتى إنعقاد المؤتمر الوطني الرابع للحزب في عام 1985.

* وما أثر العمل الحزبي عليك ؟
- من خلال نشاطي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي تحققت صلتي بالحركة الوطنية العراقية، وبدأنا في الرابطة التوجه للنشاط داخل الحركة الوطنية العراقية.فكنا ننظم، خلال الأحداث الوطنية والسياسية، الوفود الى الأحزاب السياسية،تأييداً، أو لإبداء موقف،أو لأعلان وجهة نظر.وكانت الوفود معروفة بكونها لرابطة الدفاع عن حقوق المرأة.وصرنا نُقرن نشاطنا بين العمل السري والعلني. على سبيل المثال،إنتمت أثنين أو ثلاث عضوات من أعضاء اللجنة العليا للرابطة في "الأتحاد النسائي العراقي"، الذي أجازه نوري السعيد بإسم " جمعية النساء العراقيات، وكانت رئيسته اَسيا وهبي- زوجة توفيق وهبي- التي فرحت بوجودهن في جمعيتها لنشاطهن المتميز بعد أن افتقرت لأي نشاط يذكر.ولم تكن فيها طالبات كليات، ولا عضوات نشطات مثلهن.وقد عرفن (الرابطيات) كيف يُنَشِطنَ الجمعية المذكورة لخدمة حقوق المرأة العراقية.فأقترحنا، مثلاً، على رئيستها ان تنظم الجمعية إسبوعاً خاصاً لحق المرأة في الإنتخابات، فوافقت.,سمي "إسبوع المرأة"، وإشتمل على العديد من اللقاءات والمحاضرات،التي كنا نعبئ الجماهير النسوية لحضورها، وتقودها الرابطيات، ويتحدثن فيها الى النساء.. وهكذا كنا نحرك الأوساط النسائية.

* ما هي حصيلة ذلك على حركة الدفاع عن حقوق المرأة ؟
- الحصيلة إيجابية جداً.فقد أتاح لنا العمل العلني في صفوف المنظمات النسوية الأخرى منافذ عديدة ومفيدة جداً لممارسة نشاطنا، والتعريف بهويتنا الوطنية لأوسع الجماهير.وسهل العمل العلني أصلاً تحرك العديد من الفتيات اللواتي كن يجدن صعوبة كبيرة في الخروج من البيت، فأخذن يحضرن الفعاليات المُعلنة لجمعية مجازة رسمياً.وقد لقين الدعم المعنوي من قبلنا، الذي شجعهن على الخروج والمشاركة..

* إضافة الى سعة الإحتكاك..
- طبعاً!.إحتكاكنا بالنساء إتسع كثيراً في هذه المجالات. فبدلآ من عقدنا لأجتماع في بيت لا يتسع لأكثر من عشرة الى عشرين امرأة، كان الحضور لأجتماع علني، يدعو إليه إتحاد نساء أو جمعية مجازة رسمياً، لا يقل عن مائة الى مائتي امرأة. هذا بالأضافة الى إستغلالنا للصحف اليومية العلنية، حيث كنا ننشر فيها، وتزويدها بالأدبيات، والمعلومات، ونزورها بالمناسبات الوطنية، وفي الأحداث السياسية، ونعرض عليها مشاكل المرأة.وكان العديد من النساء تستجيب، وتتعاطف معنا.
وعدا هذا، كنا نعتمد أسلوب التجمع. نحلق تجمعاً،أو نحضر تجمعاً، تستطيع الرابطة عمل الكثير عبره.وكانت التجمعات تجري عادة داخل البيوت، على شكل حفلة، أو " جاي العباس"، أو لمناسبة مولود، وغير ذلك.
أعود الى أثر العمل الحزبي، فأقول ان النشاط في صفوف الحزب يكسب الإنسان الكثير من القيم الفكرية والسياسية التي تعينه في العملية النضالية.أي أنه ينوره، ويدفعه للعمل بوعي أكثر.أما بالنسبة لأساليب العمل، فقد كنا نتبع أساليب ديمقراطية حقاً وفعلآ.ولا صحة إطلاقاً لما تروجه بعض الأقلام التي تستهين بهذه الحقيقة..

* بودنا ان يعرف قراؤنا نبذة عن نشاطك على صعيد إتحاد النساء الديمقراطي العالمي، ,في حركة السلم العراقية..
- إنتُخبت رابطتنا الى إتحاد النساء الديمقراطي العالمي في عام 1953،أي بعد سنة من تأسيسها، وتم قبولها في مؤتمر النساء العالمي الثالث في كوبنهاغن، الذي حضرته ممثلة عنها.وكان المؤتمر خاص بحقوق المرأة.وقد أتاح لي ان أرى لأول مرة نساء من كل أنحاء العالم.
بعد رجوعي الى العراق،قمنا بطبع قرارات مؤتمر كوبنهاغن في كرس، بإسم مستعار، ووزعناه بشكل واسع. وقمنا بقراءته لمن لا تعرف القراءة.ونظمنا إجتماعات كرست لمناقشة القرارات.أعقبناها بإجتماعات أوسع لمناقشة ومعالجة المشاكل التي تعاني منها النساء العراقيات، وأصدرناها بكراس بإسم " المرأة تحل مشاكلها" بإسم مستعار أيضاً.وتضمن أمثلة، وتجارب، وأساليب عمل لحركات نسوية أخرى.وقلنا في خلاصته على المرأة ان لا تنتظر الآخرين ليحلوا مشاكلها، بل يتعين ان تأخذ قضيتها بيدها.. بالمناسبة، كان الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم يساعدنا كثيراً في مسائل الطبع في مطبعته..
لقد إستفدت كثيراً من حضوري لمؤتمر النساء العالمي الثالث.وأصبحت لدى قيادة الرابطة قناعة بأهمية المشاركة في مثل هذه المؤتمرات.فأخذنا نرسل ممثلات للرابطة للمساهمة بفعاليات إتحاد النساء الديمقراطي العالمي، وأصبح للرابطة ممثلة دائمة في سكرتارية الإتحاد.وفي عام 1959 إنتُخبتُ في مؤتمر إتحاد النساء الديمقراطي العالمي (لا أتذكر الآن ترتيبه) الى عضوية لجنته التنفيذية، ,بقيت عضوة تنتخب في مؤتمراته اللاحقة الى ان قام إتحاد السلطة بـ" ضغبرته" في عام 1979، مطالباً بعضوية مكتب الإتحاد.وتأزم الموقف فيما بعد بين السلطة الحاكمة ورابطتنا.
بالنسبة لحركة السلم، ساهمت مساهمة جدية،ضمن الجهود الجماعية للتحضير لعقد المؤتمر الأول لأنصار السلام في العراق،الذي تم بشكل سري في بغداد.كنت ضمن لجنة خاصة للعمل في صفوف أنصار السلام، كانت تضم الرفيق صفاء الحافظ وعدد اَخر من الرفاق.تشكلت للمؤتمر لجنة تحضيرية واسعة، ضمت طلعت الشيباني، فاروق برتو،وعدد من الوجوه الديمقراطية الأخرى.حضرت المؤتمر وفود من المحافظات.عُقدت الجلسة الأولى للمؤتمر في حديقة خاصة تابعة للزميل الطبيب أحمد الجلبي، وحضرها أربعون نصيراً وعشرين نصيرة سلام من مختلف المحافظات.إفتتح المؤتمر الشيخ عبد الكريم الماشطة( مع إتساع الحركة بدأت تنظم وجوه إجتماعية معروفة، مثل الماشطة والشيخ محمد الشبيبي - والد الشهيد حسين الشبيبي - وعدد من رجال الدين - لا تحضرني الآن أسماءهم- ومن أحزاب عديدة- كالحزب الوطني الديمقراطي، وشخصيات مستقلة.وحضره أيضاً جلال الأوقاتي ونائل سمحيري وخدوري خدوري، وغيرهم من رجالات البلد المعروفين..بالنسبة للأسماء أحياناً تغيب عن بالي ويصعب عليَّ تذكرها)..
إشتمل اليوم الأول للمؤتمر، عدا الإفتتاح، على مناقشة الأوضاع ومخاطر إنضمام العراق الى الأحلاف، وغيرها من القضايا التي تهم حركة أنصار السلام.وأجمع الحاضرون على شجب الأحلاف العسكرية، والسلاح النووي. في اليوم الثاني تشكلت لجنتان،أحدهما إجتمعت في بيت فاروق برتو، والثانية في بيت كمال عمر نظمي. الأول كان والده رئيساً لمحكمة التمييز.والثاني والده وزيراً. لذا لا يجلب الإنتباه تواجد عدد غيرقليل من الناس في بيوتهما. في اليوم الثالث عقد إجتماع عام في حديقة بيت فاروق برتو، ـ مخض عن صياغة البيان الختامي.وفي صباح اليوم التالي صدرت وقائع المؤتمر في إحدى الصحف الوطنية (كان صحابها ينتظر، في كل لحظة، غلقها من قبل السلطات،فوضعها تحت تصرفنا).ووزعت الجريدة على نطاق واسع.ففاجأنا الحكومة بإنعقاد المؤتمر، وبنشر بلاغه الختامي وقراراته.فأغلقت الجريدة إثر ذلك، طبعاً،إلا ان أخبار المؤتمر وتفاصيله وصلت الى جمهور واسع في كافة أنحاء العراق.
بعد المؤتمر إتسعت حركة أنصار السلام العراقية كثيراً.وأفلحت بنشر الوعي ضد الأحلاف العسكرية.وكانت الصحف الوطنية،ومنها " الأهالي" تنشر أفكار الحركة.وكان توفيق منير مساهماً نشيطاً في النشر على صفحاتها، والمسؤول عن ركن خاص بأنصار السلام في الجريدة.وكان هناك إلتفاف جماهيري واسع حول الحركة وأنشطتها.

* من خلال خبرتك الطويلة والثرية في الحركة النسوية العراقية، وأنت من أوائل المؤسسات لرابطة المرأة العراقية، ما الذي تودين ان تقوليه للمناضلات الشابات اللواتي شرعن بإعادة نشاط " رابطة المرأة العراقية"، ويسعين الى إستعادة عملها ومكانتها في نضال المرأة العراقية والدفاع عن حقوقها ؟
- أعتقد أن العمل من أجل قضية المرأة وحقوقها، عمل يتطلب،قبل كل شيء، صبراً كبيراً.ويتطلب أيضاً خلق علاقة مرنة بأوساط النساء المحيطات بنا.هذا أول ما ينبغي ان يكون في ذهنية من تريد ان تعمل في مجال المرأة.أن تخلق لها صلات حميمة ودائمة بالنساء، تتعرف على مشاكلهن، وتتعلم الأساليب التي تساعدها في حل مشاكلهن، وبالأستناد الى أمكانياتهن وإستعدادهن.
لا ينبغي ان نفرض مقدماً أهداف وأساليب عمل،إنما يتعين ان نستقي الأهداف وأساليب العمل من خلال إحتكاكنا المباشر مع النساء المعنيات.والأساليب تختلف طبعاً من مكان الى اَخر- فخارج الوطن يختلف عن داخله.في الخارج توجد جالية عراقية واسعة تحيط بنا.وثمة أساليب عديدة في متناول يدنا.لنبدأ أولاً بالعمل الإجتماعي وسط النساء، ولنعمل بصبر بما يجمعهن.فنختار الفعاليات التي تجمع النساء وتلبي رغبتهن ووفقاً لأوقاتهن وإستعدادهن للعمل.ونسعى لخلق الرغبة لديهن للعمل معنا سوية.هذا هو المبدأ الرئيس للعمل النسوي في الخارج.

* هذا في الخارج، أما في الداخل، حيث النظام الدكتاتوري الرهيب يمارس أقسى أساليب البطش وحشية ضد معارضيه، فكيف ترين إمكانية عمل وتحرك المناضلة الرابطية هناك ؟
- مهما كان الوضع معقداً وخطيراً، لابد من وجود قضايا ومشاكل موضوعية يمكن الإستفادة منها، وخصوصاً تلك التي تشد النساء بعضهن الى بعض..هناك مشاكل كبيرة وكثيرة قائمة، وهي مشتركة للنساء.هناك مثلاً نساء المفقودين.وهناك المفقودات، ونساء الشهداء.وهناك الشهيدات.والشهداء كثيرون ومتنوعون: شهداء الحرب، السجون والمعتقلات، والإغتيالات، والتصفيات الجسدية..هناك عوائل كثيرة جداً ذات دخل محدود، تعاني الفاقة والحرمان، يمكن البحث عن سبل للتعاون فيما بينها من أجل حل مشاكلها المعيشية اليومية.. في الواقع ثمة مشاكل لا تعد ولا تحصى تشد النساء بعضهن الى بعض في ظل المصيبة الوخيمة التي تلف الجميع.
وهنا أكرر القول أيضاً: لنبدأ أولاً بالتعرف على الوسط الذي نعيش فيه، ندرسه، ونصادقه.ولتكن علاقتنا ببنات شعبنا مرنة، وبذات الوقت مستوعبة لما نريد ان نقوم به.نسعى في البدء القيام بأعمال نسوية تضامنية بسيطة وقابلة التحقيق.إذ ان تحقيقها يخلق الثقة لدى النساء بقدرتهن على عمل أشياء مشتركة كثيرة لو تكاتفن. في هذا المضمار يمكن إستغلال الكثير من المشاكل القائمة التي تهم الجميع.لنأخذ، مثلاً، المشاكل الصحية المتفاقمة،وخراب البيئة.لنبدأ من الشارع غير النظيف في المحلة، ساعين الى خلق أجواء هدفها بيئة نظيفة حول المنازل التي نعيش فيها،أولاً، وتحريك الجيران على التعاون في هذا المجال، ثم عوائل المحلة الأخرى..وهكذا.

* وبالإمكان إستغلال نتائج الحصار الأقتصادي..
- نعم، إستغلال ما خلفه الحصار الأقتصادي الدولي من نتائج كارثية على الناس جميعاً، ومطالبة الجهات المسؤولة بتنفيذ إجراءات ملموسة تخفف من معاناة الناس.ونبدأ أيضاً بالممكن تحقيقه، ثم نقدم مطاليب أخرى بالتدريج.وأكرر على ضرورة القيام بفعاليات تجمع النساء حول المطاليب المطروحة، وتشدهن الى الرابطة، يدعمنها، وتدعمهن، وتخلق علاقات وصداقات حميمة بينها وبينهن،خصوصاً وأنا أسمع ان الزيارات بين العوائل في العراق هي نادرة جداً، ولها أسبابها.فندرس مثل هذه ألأمور، ونتوجه الى خلق أجواء طيبة، بين الجيران،أولاً، وبين ألأقارب،ثانياً، وهكذا..
بإختصار، أنا اقترح ان تتم في المرحلة الأولى دراسة الأوضاع الراهنة للمرأة العراقية وأبرز المعضلات دراسة وافية من قبل الرابطيات.الخطوة التالية هي التوجه الى خلق صداقات مع النساء.بعد ذلك، وحسب القوى التي ستتشكل، يتقرر برنامج العمل اللاحق وإمكانات التحرك..طبعاً من الصعب عليَّ وأنا بعيدة عن وطني ان أحدد بالضبط ما الي يجب القايم به الآن..

* بودنا ان نسأل هل صحيح ما تروج له الأوساط المعادية من ان "رابطة المرأة العراقية" كانت " تابعاً" للحزب الشيوعي العراقي ؟ نرجو توضيح طبيعة العلاقة بينهما.
- لا والله، لم تكن الرابطة تابعة للحزب.الكل يعرف ان الحزب الشيوعي العراقي هو أول من وضع في برنامجه، وفي أولويات مهامه، قضية الدفاع عن حقوق المرأة.في الواقع كان الحزب على الدوام سنداً ومعيناً للرابطة.كان يدعو ويسند في اَن واحد العمل بين الجماهير النسوية.وكانت تمارس أشكالاً عديدة للنشاط بين النساء: النشاط الديمقراطي العام،الذي حصل في إطار الرابطة.والنشاط الآخر هو الذي جرى بين عوائل السجينات والسجناء السياسيين، والذي كان طابعه سياسياً، ويتطور بخط اَخر.ثم جاء نشاط أنصار السلام، وإتحاط الطلبة، وإتحاد الشبيبة، الذي كان الحزب يسنده..
إن إسناد الحزب لنشاط المنظنات الجماهيرية لا يعني إطلاقاً أنها كانت تابعة له.بالعكس تماماً، لتلك المنظمات جماهيرها التي تفوق بكثير عدد أعضاء الحزب.فنحن،على سبيل المثال، كنا كلجنة نسائية لسنا أكثر من 4 أو 5 شيوعيات، في وقت بلغ عدد الرابطيات أكثر من 500 رابطية.وعندما أجيزت الرابطة وأصبحت تمارس عملها علناً، وصل عدد الرابطيات بالآلاف..فهل كانت تلك الآلاف من النساء كلهن شيوعيات ؟
على أنني لا أنكر ان أساليباً خاطئة قد مورست وفرضت على العمل الرابطي، رغم أنها كانت فردية، وليست ضمن خط الحزب العام، لكنها اَذت في وقتها..

* ألا يتحمل الحزب مسؤوليتها ؟
- بلى !.بعضها يتحمل الحزب مسؤوليته.أبرز مثال على ذلك هو تجميد المنظمات الديمقراطية الجماهيرية، الذي جرى بقرار من الحزب، وبالضد من إرادة تلك المنظمات.نحن كشيوعيات داخل الحزب لم يكن صوتنا مسموعاً من القيادة.في إطار الرابطة إلتزمنا بقرار الحزب ونفذناه، وهو خطأ كبير لا تزال الشابات تنتقدنا عليه بحق، متساءلات:" كيف توافقون على قرار خاطئ ومضر ؟"..

* بالمناسبة، من بين الأمور التي تطرح،ضمن تقييم مسيرة الحزب، تحمل مسؤولية ما حصل من أخطاء وإخفاقات.وأنت كنت رفيقة قيادية.فهل تتحملين مسؤولية هذا الخطأ ؟
- نعم !، أتحمل المسؤولية كقيادية.على ان ثمة حقيقة لابد من ذكرها بصدد قرار التجميد.شخصياً كنت ضد قرار التجميد، وكنت أطرح معارضتي له داخل الإجتماعات الحزبية.كما ولم أشارك بإتخاذه،إذ عند إتخاذ القرار من قبل اللجنة المركزية كنت في مؤتمر عام للمرأة،الذي إنعقد في برلين، وهناك بُلغت به تلفونياً. ومع هذا أشارك كقيادية في تحمل مسؤولية إتخاذ القرار.فقد يكون نضالي ضد القرار داخل التنظيم لم يكن كافياً، وإن كنت لا أستطيع ان أعمل شيئاً تجاه الأغلبية في اللجنة المركزية اَنذاك.
كثيراً ما أقرأ مذكرات،أو مساهمات،هدفها تبرئة النفس من المسؤولية التي يتحملها الكاتب.وهذا سلوك غير سليم في كتابة التأريخ. الموضوعية تلزم ان ينقد المرء ذاته، ويحمل نفسه المسؤولية الشخصية عن الأخطاء، قبل تحميلها لغيره،إضافة الى تحمل المسؤولية الجماعية. لا داعي للدخول في تفاصيل موثقة لديَّ عن هذه الظاهرة..


 

* كاديمي متقاعد، عراقي مقيم في السويد

 

 

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter