|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  4  / 3 / 2025                                           جمعة عبدالله                        كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 معاناة سيزيف في كتاب (قضية تقاعد / متوالية سردية) للكاتب فيصل عبدالحسن

جمعة عبدالله
(موقع الناس)

أن ما يتناوله الكتاب السردي (قضية تقاعد) , يضعنا امام سريالية غريبة وابعد من الخيال , في مسالة في غاية البساطة والسهولة , في إجراءات معاملة التقاعد لموظف خدم في مؤسسات الدولة (وزارة الثقافة والإعلام) في السابق , لاكثر من عقدين من الزمان , وجاء الوقت لكي يطالب بحقه القانوني والشرعي في التقاعد . ولهذا السبب شد احزمته وحقائبه ليودع الغربة وان يعود الى احضان الوطن , وأن يحصل على حقه الشرعي , والاستقرار النهائي في احضان الوطن, ويطوي ويودع سنوات الغربة الطويلة , التي دامت ثماني وعشرين عاماً , اكل فيها الحصرم وليس العنب , وزادت بوصلة آماله المشرقة , بعد دعوة وزير الثقافة له , ان يعود الى الوطن ويتعهد في مساعدته وتسهيل الإجراءات لمعاملة التقاعد , وأن كل شيء واضح يدل على حقه القانوني ان ينال الراتب التقاعدي.

دون لف ودوران , على هذه الوعود والتعهد , توجه بالسفر الى العراق ’ في رحلة جوية طويلة من أطراف أفريقيا (المغرب) في فصل الشتاء البارد مع عائلته (زوجته وابنه المعاق) وخلال رحلته توقف في مطار القاهرة , وهناك صدم بالخبر المؤسف , بأن مطار بغداد مغلق , لا يستقبل الرحلات الجوية القادمة , وبعد سؤال وجواب , عرف اسباب اغلاق مطار بغداد , هو تناحر وتنافس الفصائل المتنفذة , لم يتفقوا على ارسال الحقائب الدولارية المسروقة والمرسلة الى خارج , دون أخذ حصة مالية , وأدى هذا الخلاف الى لعلعة الرصاص والنار داخل مطار بغداد , مما اضطرت ادارة المطار الى اغلاقه في وجه الرحلات الداخلية والخارجية , حتى يتفقوا على الحصص المالية وتوزيعها بالتفاهم بينهم .

وكانت ساعات الانتظار طويلة ومتعبة , في ظل البرد والجوع من الرحلة الطويلة . وبعد ان انتهى خلاف الفصائل المتصارعة على المال المنهوب , سمح بفتح المطار واستقبال الطائرات القادمة. وعندما وصل الى مطار بغداد , صدمته الدهشة والغرابة التي لم يتصورها حتى خياله , حيث يزدحم مطار بغداد باصحاب اللحى واللباس الأفغاني والايراني وغيرهم , مع نسائهم وأطفالهم ’ بروائحهم الكريهة , كأنها رائحة روث متعفن , لاحظ أنهم يستقبلون بالحفاوة والترحيب واجراءات سريعة في ختم جوازاتهم , بينما هو العراقي يدخل في حلقة تساؤلات وتحقيقات أمنية مزعجة , عن سبب الزيارة ؟ ومن هو الكفيل الذي يتعهد بدخوله الى بغداد ؟ , وإجراءات عويصة خرج منها بصعوبة .

وفي اليوم التالي , بدأ في الصباح بمتابعة اجراءات معاملة التقاعد , ولفت نظره الإهمال والخراب والفوضى والصخب في كل زاوية , ومشاهد الفقر والبؤس واضحة في كل معالم في الحياة , في عراق العهد الجديد , وأدرك أو افهم بأنه لا يتم إنجاز اية معاملة , إلا بالدفع المالي والرشوة وغير ذلك تهمل , أو تتبع اجراءات معقدة ومتعبة ومرهقة , ولكن كان بحوزته الامل بتعهد وزير الثقافة , وذهب الى الوزارة لكي يقابل الوزير المعني , لكن صفعته الدهشة , في الرد على سؤاله , أي وزير تقصد ؟ , الوزير الذي تعهد ووعده بالإنجاز السريع لمعاملته , أبعد عن منصبه , لم يصدق ما يسمع (يا لسوء الحظ عرفت قبل قليل , أن وزير الثقافة الذي وعدني بالمساعدة , حالما اصل بالعراق قد ازيح من منصبه وحل مكانه شخص آخر !!) ص29 . (- أن الوزير الذي وعدك بمساعدتنا لم يغادر منصبه إلا منذ بضعة أيام قليلة كما نص الخبر , وليس معنى هذا أنه لم يعد يملك نفوذاً في الوزارة , أو أن المدراء العامين الذين يتعامل معهم الوزير , طيلة وجوده في منصبه , لن يرضخوا لطلباته البسيطة !! وقضيتك بسيطة واصولية !!) ص29 . مما اضطر ان يخرج كل صباح في متابعة قضية التقاعد , فكان يرمى من مديرية إلى أخرى , من موظف الى آخر , كأنه ككرة القدم تتقاذفها الأقدام اللاعبين , في إجراءات معقدة وصعبة , مع نظرات الحقد والعدوانية في نظرات وملامح الموظفين , لأنهم يعتقدون انه كان يتمتع بالرفاه والسعادة في الغربة , وهم بقوا في العراق , تجرعوا معاناة الجحيم في الحصار والجوع وصعوبة الحياة والعيش .

(- تركتنا نموت من الجوع في الثمانينات, أثناء الحصار وهربت الى الخارج لتتمتع هناك , والآن جئت تطالب تقاعداً في بلدك !!) ص102 , لذلك ينظر إليه بروح الشك والريبة , كأنه عميل أو جاسوس أو لصاً أو قاتلاً , أو بهلواناً يجيد الرقص على الحبال , مع مرور الأيام بالتعب والإرهاق دون ان يحصل على أية نتيجة , أو تقدم حتى لو خطوة بسيطة , أخذ المال بحوزته يشح نتيجة المبيت في فنادق شعبية مختلفة ونتيجة الطعام والشراب , واجرة سيارات التكسي , وهو يتنقل بين مديرية إلى اخرى كل يوم , ومسألة مرض زوجته بالضغط العالي وتحتاج الى المعالجة والدواء , ولهذا السبب شعر بعسر التكيف في الحياة المعيشة مع شحة المال بحوزته , , يمكن ان يحرم من وجبات الطعام نهار أو نهارين ولكن كيف الحال مع ابنه المعاق (- لم تكن أي مشكلة في ان نبقى أنا وزوجتي بلا طعام لنهار أو نهارين كاملين !! لكن المشكلة في ولدنا الشاب , الذي يعاني من تخلف عقلي منذ طفولته , فهو لا يتحمل الجوع ولا يفهم ما سنقوله من وضعنا الجديد (العيش في الفنادق) لانه (اصم ابكم ايضاً) ص32 .

أدرك ان الواقع الحياتي في العراق مزري وبائس في العهد الجديد , والحياة العامة تغوص في الفقر والبؤس, لانه بكل بساطة متناهية لوضع العراق الجديد , بأن (الذين جاءوا لحكم العراق بعد الاحتلال الامريكي للعراق , كانوا يحملون في نفوسهم المريضة , غلاً وحقداً لهذا الشعب الكريم , المنكوب بحكامه , هؤلاء الذين جاءوا من الخارج , محمولين على دبابات المحتلين , من الشرق والغرب جاءوا لتصفية عقد ذلهم وسوء أحوالهم السابقة في خارج العراق !!) ص62 . يعتقدون في عقليتهم المريضة والسيئة والخبيثة , بأن العراق غنيمة كالبقرة الحلوب , تدر الذهب والدولار , والشاطر والذكي من ينهب ويسرق أكثر من الآخر , في تقاسم المحاصصة الطائفية للوزارات وكل مؤسسات الدولة الصغيرة والكبيرة , ويتركون كسرات من الفتات الضئيلة للشعب المظلوم , ليعيش حياة الكفاف والفقر والإهمال والحرمان , ومعاناة شظف العيش القاسية .

كان يتصور بأن منصب الوزير متنفذ وفعال بما يريد من يحتل الكرسي , ولم يتصور ان الكراسي والمناصب , هي ديكورات لا تنش ولا تهش , وبعد مراجعات كثيرة وعويصة , ادرك ان انجاز معاملة التقاعد تتطلب رشوة مالية , وطلب منه ان يدفع مبلغ من المال , ستة مليون دينار عراقي تقريباً (خمسة آلآف دولار) , حتى يحصل على الراتب التقاعدي , ولا فائدة في المراجعات هنا وهناك, وهو لا يملك هذا المال , قد سلبوا كل ما كان يحمل من المال , ضاع في الرشوة لهذا الموظف ولذاك , وتيقن انه أصيب بالخيبة والخذلان والخداع , ولا فائدة في البقاء في العراق , فقد سدت الابواب بوجهه , وعليه ان يودع بغداد بالفراق الأبدي , بالحزن والدموع والحسرات الموجعة , كأن الوطن طرده شر طردة , ليتجرع علقم عودته الخائبة الى الوطن , وعاد الى بلد الغربة (المغرب) وهو يحمل الامتنان من حسن الاستقبال والطيبة من الأقرباء والمعارف , وكذلك من عامة الناس وهم يحملون الطيبة والشهامة العراقية الاصيلة .

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter