|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  28  / 9 / 2024                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من ذكريات العمل الآثاري

قصة اكتشاف أكبر معبد دائري في وادي الرافدين
(2)

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

استظهار الطبقة الآشورية
تواصل العمل بوتيرة مُتسارعة عند نقطة التل بعد إزالة القبور التي كانت تعلوه، وما أن أنقضى الأسبوع الأول من شهر آب وعلى عمق قارب النصف متر من سطع التل حيث كانت التربة مقلوبة بشكل كبير ولا يمكن تحديد ماهيتها، ظهرت طبقة بنائية تمتد على عُموم مَساحة التل، أخذت بالوضوح تدريجياً كلما تعمّقنا بالحفر، تمثلت بجدران مُشيدّة بالحَجر غير المُهندم سُمكها لا يتجاوز الأربعين او الثلاثين سنتيمتراً، كانت فقيرة للغاية بالدلائل الأثرية، انتشرت بينها كسرات فخارية قليلة تعود للعصرين الآشوريين الوسيط والحديث، مما جعل من الصعب تحديد فترتها التاريخية بشكل دقيق، حيث كانت معظم اجزائها منقوضة ومُزالة بسبب التخريب والتجريف الحاصل على القسم العلوي من التل، إضافة الى ما أحدثته حُفر القبور الحديثة من تخريب كبير فيها، لدرجة لا يمكن تحديد مُخطط مُعين لها يُساعد في معرفة هويتها، وما كان قد تَبقى من أرضياتها فقط طبقة رقيقة من الحَصى الناعم.

لذلك لم تأخذ هذه الطبقة الكثير من الوقت من ناحية الاستظهار والتوثيق، حيث قمنا بإزالتها للوصول الى الطبقة الأسفل، حينها تم الكشف عند الجانب الجنوبي من التل عن تسعة قبور فقيرة باللقى الأثرية، ثمانية منها كانت لبالغين تتمثل بشكل حفر بسيطة قليلة العمق، كانت الهياكل فيها مُمددة على الظهر من الشرق الى الغرب، باستثناء هيكل واحد تم دفنه على جانبه الأيسر من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي، بالإضافة الى قبر آخر لطفل تم دفنه داخل جَرتين فخاريتين بيضويتي الشكل مُتعاكستي الفَوهة، وأهم ما في هذه القبور أن موادها الجنائزية رغم قلتها لكنها كانت بالغة الأهمية، حيث تمثلت بتلك الجرار الكروية الصغيرة ذات القواعد الكروية والدالة على العصر الآشوري الوسيط، عندها فقط تمكنّا من تحديد عمر هذه الطبقة بعائديتها الى تلك الفترة، ليُكوّن فريق التنقيب رأياً مَبدئياً حينها بعد احتساب ومقارنة مناسيب الارتفاعات لكل من المقبرة مع التل الأثري، هو أن طبقات التل العليا تعود للفترات الاشورية الحديثة التي كانت مُزالة بالكامل ثم الوسيطة، حيث كان الموقع يُمثل آنذاك في الغالب مُستوطنا زراعياً تابعا للعاصمة الآشورية "آشور"(1) التي تقع الى الشمال منه بمسافة ثمانية عشر كيلومتراً تقريباً، بعدها تأتي الطبقات الأخرى العائدة للألف الثالث قبل الميلاد التي تنتهي مع مستوى طبقة المقبرة عن السفح المُمتد نحو القرية، والتي تم تحديد تاريخها بعصر "نينوى5"، ومن المُحتمل جداً أن تكون هناك طبقات أخرى تعود لأدوار تاريخية أقدم.

مفاجأة البناء الدائري
مع أواخر شهر آب كشَفَ التنقيب في التل عن طبقة أثرية جديدة، تمثلت بجدران سميكة مَبنية باللِبن ذو قياس 34×17×7سم، وبخلاف ما كان فريق العمل قد افترضه أو توقع وجوده بأن هذه الطبقة ستكون لفترة العصر الآشوري القديم 2000_1500ق.م حسب التسلسل التاريخي الافتراضي بالاستناد الى هوية الطبقتين الأولى والثانية في الأعلى، إذ تبيّن أن هذه الطبقة تعود لدور حضاري آخر أكثر قُدماً، حيث أخذت بالظهور مع الطبقة الجديدة كِسر فخارية مُلوّنة بالأحمر والأسود مُماثلة تماماً لتلك التي تَمّ العثور عليها في المقبرة، أي فخار "نينوى 5"، كانت تلك مفاجأة سارة للغاية لفريق التنقيب، حيث راود التفكير حينها بأن الجميع أمام اكتشاف جديد، قد يُغيّر بعض الأفكار والآراء عن أنتشار شعب سومر في شمال وادي الرافدين والمناطق التي سُلكت في سبيل ذلك.

وخلال عدة أيام وبعد أن تم توسيع مساحة الحفر في عموم التل لمتابعة امتدادات جدران الطبقة الأثرية، لوحظ بأنها تنحني بوضوح بشكلٍ يشبه القوس، لتأخذ تلك الانحناءات بالازدياد تدريجاً، حتى تَبيّن بعد رفع الجسور الوسطية الفاصلة لمربعات التنقيب الأربعة، أن تلك الجدران بمَجموعها تُشّكل الحدود الخارجية لبناء دائري كبير بدأت معالمه تظهر وتتوضح تدريجياً كلما تم التعمق بالحفر، كان ذلك مفاجئة أخرى لم يكن احد يتوقعها على الأطلاق، غيّرت كل تصورات فريق التنقيب عن هذا الموقع، حيث أن وجود هذا البناء مع الفخار الملون المُميّز يبيّن أن "تل النمل" يُمثل مستوطن مُتكامل يعود الى "عصر دويلات المدن السومرية" الأول بصورته الشمالية المعروفة بـ"نينوى 5".

تطلب الأمر بعد هذا الاكتشاف أن يُجرى العمل بوتيرة أبطأ نسبياً، حيث يقتضي اظهار تفاصيل البناء التنقيب بتَمهّل ودقة وتركيز عال لتوضيحها، كي تَمييز جدران اللِبن وتتبعها بين الأنقاض الترابية التي كانت تغطي البناء، ليَتبيّن مع تتابع الأيام الشكل العام للبناء وحدوده الخارجية، حيث كان قطره الخارجي بحدود ستة وعشرين متراً، يتكون من عدة جدران دائرية مُتباينة السُمك مُشيّدة بشكل حلقات مُتلاصقة مُتعاقبة، ولكون التنقيبات لا تزال في بدايتها ولم تصل الى عُمق كبير، لم يجري التأكد وتحديد أن كانت جدران البناء من دور بنائي واحد أو عدة أدوار جَرى تَشييدها في فترات زمنية مُتعاقبة، كما تَبيّن وجود مَمر وسطي عرضه يقارب المترين يدور في وسط البناء، وآخر بعرض متر واحد تقريباً، يدور حول مركز البناء الذي تَبيّن أن قطره كان بحدود مترين.

كان الجدار الثاني أكثر الجدران سُمكاً أذ يبلغ سُمكه بحدود ثلاثة أمتار ونصف، ويبدو أنه كباقي الجدران قد أزيلت الأقسام العليا منه بسبب تشييد الطبقات الآشورية فوقه وخاصة عند جانبه الجنوبي، وقد تم الكشف عند جانبه الشمالي عن أحواض مشيّدة باللِبن ذات أشكال مُستطيلة بطول مترين وعرض متر واحد أو مربعة طول ضلعها متر واحد، ما تبقى من عمقها بحدود ثلاثين سنتيمتراً، لم تُعرف وظيفتها أو الغاية منها، اعتقد اعضاء فريق التنقيب في البدء أنها قبور ثم تَمّ التراجع تماماً فيما بعد عن هذا الرأي لعدم العثور على أية دلائل تُشير بوضوح الى ذلك، لكن عُثر بالمقابل في بعض تلك الأحواض على كتل طينية صغيرة مُتكسرة عليها طبعات أختام مُنبسطة تُمثل صُوَراً نباتية مُحوّرة.

مما جَعل ذلك الكشف يُرجّح رأياً آخر، هو أن هذه الأحواض كانت مُخصّصة لوضع الجرار والأواني الفخارية المُستخدمة في عمليات الخزن، وهذا الشيء لا زال يُتبّع في العديد من مدن ومناطق الرافدين قديماً وحديثاً، حيث يتم حفظ جرار الزيوت والمُخللات وبعض المواد الغذائية الأخرى كالحبوب والبُقول وكذلك اللحوم والاسماك المُجففة على سطوح المنازل، فبعد أن تُملأ تلك الجرار بمادة ما يَتمّ تغطية فوهاتها بقطعة من الحصير أو النسيج أو الجلد، ثم تُسيّع بعد ربطها بأحكام بطبقة سَميكة من الطين، يتم ختمها بختم خاص لغرض التأكد من عدم فتحها أو للتذكير بالوقت الذي تم فيه خزن تلك المادة حَسب فصول أو أشهر السنة، وفق الرُموز الموجودة على الختم، وهذا الشيء كان مَعروفاً ومُتبعاً منذ الألف الخامس قبل الميلاد، حيث كشفت التنقيبات الأثرية عن العديد من هذه الأمثلة ليس في قرى ومستوطنات وادي الرافدين الشمالية والجنوبية فحسب بل أيضاً في مناطق عديدة من الشرق الأدنى القديم، وبناءً على ما تَمّ الكشف عنه أطلق فريق التقيب أسم "البناء الدائري" على نقطة العمل هذه بدلاً من "نقطة التل".

وما يُمكن قوله عن الأبنية الأثرية الدائرية، أنها كانت النموذج المعماري الأول لبناء بيوت السكن في شمال وادي الرافدين والمناطق المُجاورة، حيث كانت تُشيّد بكتل الطين "الطوف" ثم تُسّقف بأغصان الأشجار، وقد سبق هذا التصميم التخطيط المستطيل والمربع، وفي الغالب أنه مأخوذ من شكل الخيّم البدائية التي ضمّتها المُستوطنات المُتنقلة في العصر الحجري الوسيط قبل ثلاثة عشر الف عام تقريباً، والتي كانت تُشيّد من أغصان الأشجار، لتنتشر الى مناطق واسعة من أسيا الصغرى وايران وبلاد الشام، وقد ظهرَت هذه الأبنية في موقع "يارم تبّة"(2) شمال العراق العائد لفترة العصر الحجري الحديث، وفي موقع "تبّه كَورا"(3) شمال الموصل عند طبقاته العائدة للألف الرابع قبل الميلاد، وكذلك خلال الدور التاريخي المعروف باسم "حَلَف"(4) الذي يعود الى العصر الحجري المعدني 5000_3500ق.م، حيث شُيّدت خلاله مباني دائرية مُقببة غريبة الشكل تُشابه بيوت "الأسكيمو"، كما أنها تُشابه أيضاً الى حدٍ بعيد تلك التي يبنيها سكان مناطق "سنجار" في محافظة نينوى عُرفت لدى الآثاريين باسم "ثولوس"، ثم أنتشر هذا التصميم الى مناطق عديدة بعيدة كمناطق الخليج العربي وبلاد اليونان ولمختلف الأغراض البنائية.. بيوت سكن، مدافن، مزارات، نقاط مراقبة، مَثابات لرصد الكواكب والأجرام السماوية.

أما أبرز تلك المباني الدائرية التي تعنينا مع سياق هذا الكلام، تلك التي اكتشفت في المواقع الأثرية الواقعة في مناطق حوضي "حمرين"(5) و"العظيم"، التي يعود تاريخها الى عصر "دويلات المدن السومرية" الأول، أي فترة "نينوى5" أو فترة "فخار ديالى" المعاصرة لها، وأهمها.. "تل الكَبة"، "تل حداد"، "تل رزوق"، "تل مديّنة"، "تل الشوك"، "تل صَنكَور"، ولغرابة التفاصيل المعمارية لهذه الأبنية فقد اختلفت الآراء في تحديد هويتها أو الغاية من بنائها بهذا الشكل، إذ ذهب البعض الى أنها مَخازن لحفظ الحبوب، حيث أن أهم ما كان يُميّز هذه الفترة التاريخية هو حفظ الفائض من الغِلال الزراعية كي يتم مُقايضتها عن طريق التجارة، وآخرون اعتقدوا أنها قلاع عسكرية للمراقبة، كما رأي البعض أنها ورش لصَهر المعادن لشَبهها بأبنية مُماثلة اكتشفت في آسيا الصغرى كانت تُستخدم لهذا الغرض، حيث شهَد هذا العصر أيضاً انتشاراً واسعاً وتطوراً كبيراً في عملية التعدين، لكن مع كل تلك الآراء لم يتم الاتفاق بين علماء الآثار على رأي واحد مُحدد بشأن هوية تلك الأبنية.

نهاية موسم التنقيب
مع أواخر شهر أيلول حيث بدايات هطول الأمطار الخريفية في منطقة "الخانوكَة" قرَّر الفريق الآثاري أنهاء موسم التنقيب، مُكتفياً بما توصل اليه من نتائج كبيرة خلاله، وكان أهم ما تم استنتاجه بشكل أولي من تنقيبات هذا الموسم، أن هذا الموقع يُمثل مُستوطناً زراعياً كبيراً يعود تاريخه الى أواسط عصر "جمّدة نصر" 3200ق.م ومطلع عصر "دويلات المدن السومرية" 3000ق.م أي الفترة التاريخية التي تمثلها ثقافة "نينوى 5"، مركزه البناء الدائري الذي لم تتم معرفة طبيعته العملية، بسبب تفاصيله المعمارية العديدة التي تتطلب المزيد من الكشف لمعرفة هوية هذا البناء الفعلية، كما لم يَتمّ تحديد المراحل الأولى لسُكنى الموقع لعدم وصول التنقيبات الى طبقات الاستيطان السُفلى، وأيضاً بسبب إزالة أجزاء واسعة من عموم مَساحة المستوطن، الذي تم هَجره لسبب غير معروف ولفترة ليست بالقصيرة، تتراوح ما بين أثنتا عشر قرناً وعشرة قرون، تمتد ربما من أواسط الألف الثالث وحتى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد تقريباً، حيث تم استيطانه مُجدداً خلال العصرين الآشوريين الوسيط ثم بعده الحديث.

أما فيما يخص المقبرة فقد تم استظهار وتنقيب عدد كبير من القبور التي كانت بين بيوت القرية، ولازال هناك قسم كبير منها تحت البيوت تماماً، وقد بلغ أجمالي ما تم استظهارها قرابة الثلاثين قبراً، تعود جميعها لفترة "نينوى5" السومرية، إضافة الى العثور على بعض الدلائل والإشارات بوجود قبور تعود لفترات أقدم ربما الى عصري "جمدة نصّر" و"الوركاء"(6)، كانت جميعها متشابهة نوعاً ما بأسلوب الدفن، لكن كان هناك بعض التباينات الجزئية، حيث كانت بعض حفر القبور قد بُنيّت جوانبها بكتل كبيرة من اللِبن أو الطوف، وأخرى تُركت بشكلها البسيط، كما اختلفت أيضاً في نوع وكمية المواد الجنائزية الموضوعة داخلها، تبعاً للوضع الاقتصادي أو الاجتماعي للشخص المدفون وطبيعة جنسه، علماً أن الهياكل كانت جميعها مُهترئة وتالفة للغاية، بحيث أمكن فقط تحديد مَعالمها وخطوطها الخارجية وحدود حُفَرها، والسبب في ذلك يرجع الى الرطوبة العالية والتربة الملحية الناتجة عن محاذاة الموقع للنهر.

وبشكل عام كان الدفن يَتم على الظهر مع ثني الذراعين على الصدر، لكن في حالات قليلة كان يتم الدفن أيضاً على الجَنب الأيسر أو الأيمن، وفي حالات أخرى كانت الأيادي توضع مُسبَلة على جانبي الجَسد، كما كان أتجاه مُعظم القبور من الشمال الى الجنوب بالإضافة الى عدد قليل كان اتجاهه من الشرق الى الغرب، كما تم العثور داخل القبور على عدد قليل من الجرار الفخارية الملونة، لكن بالمقابل على عدد كبير من تلك المحززة والبسيطة التي كانت بأحجام وأشكال مختلفة، من كؤوس وصُحون بالإضافة الى أوانٍ سَمجة مُخصّصة لحَرق بعض المواد عند أجراء بعض الطقوس المرافقة لعملية الدفن، كما تم العثور أيضاً على كميات لا بأس بها من الحُلي المعمولة من الخرز المصنوع من أحجار متنوعة كالعقيق والفيروز أو من العظام والأصداف، كانت مَعمولة بهيئة قلائد حول أعناق المدفونين او أساور تطوق معاصمهم، من جانب آخر فأن وجود هذه الأحجار غَير المتوفرة في هذه المنطقة، يدل بشكل واضح على وجود صلات تجارية مع مناطق بعيدة تتوفر فيها تلك المواد وفي مقدمتها الهضبة الايرانية وآسيا الصغرى.

لقد كان موسم التنقيب الأول في "تل النمل" بمَثابة كشف أولي عن هذا الموقع الذي يُبشّر العمل به بنتائج أثرية هامة جداً، وبالتأكيد يحتاج الموقع الى موسم تنقيب واحد آخر على الأقل، وربما عِدة مواسم لغرض استظهار باقي تفاصيل البناء الدائري الذي يَتطلب أنجازه شهوراُ عديدة، ناهيك طبعاً عن اكمال التنقيب في المقبرة التي لم يُكشف سوى عن عدد مَحدود من قبورها، حيث لايزال أغلبها مَطموراً ومَخفيّاً تحت بيوت القرية.



الهوامش:
(1) آشور... عاصمة الآشوريين الأولى ومركز استيطانهم القديم ومدينتهم الدينية المقدسة، حيث كانت مَقراً لعبادة إلههم القومي "آشور" الذي سُميّت باسمه، تُعرف آثارها وأطلالها اليوم بـ"قلعة الشرقاط"، شُيّدت بأسوار ضخمة على مرتفع صَخري كبير على الجانب الغربي (الأيمن) من نهر دجلة، الى الجنوب من مدينة الموصل بمسافة مئة وعشرة كيلومترات وحوالي أربعة كيلومترات من قضاء الشرقاط، تعود بداية الاستيطان فيها الى الألف الثالث قبل الميلاد حيث كانت خاضعة لسكان الجنوب من السومريين والأكديين، لتبلغ قوتها وامتداد نفوذها في بداية الألف الثاني قبل الميلاد، مَرّت على تاريخها الطويل الكثير من التقلبات السياسية، فقدت أهميتها السياسية حين نقل الملك "شلمنصر الأول" 1274_1245 ق.م مقر الحكم منها الى عاصمته الجديدة "كالخو"، لكنها ظلت تحتفظ بمكانتها الدينية الهامة، سقطت عام 614 ق.م على يد تحالف البابليين الكلديين والميديين، لكن السُكنى أستمرت فيها حتى أواخر القرن الثالث الميلادي.
(2) يارم تبّه... موقع أثري كبير يتكون من عِدة تلال أثرية، يقع في سهل سنجار ضمن محافظة نينوى الى الجنوب الغربي من مدينة تلعفر بمسافة سبعة كيلومترات تقريباً، يُمثل قرية زراعية مُتكاملة استمر الاستيطان فيها لحقبة زمنية طويلة، تمتد من فترة العصر الحجري الحديث حيث الدور المعروف بـ"حسونة" في الألف السادس قبل الميلاد، وحتى فترة العصر الحجري المعدني في أواسط الألف الخامس قبل الميلاد مع الدور المعروف بـ"حَلف"، عُثر في الموقع على العديد من الدلائل الأثرية التي تُشير الى حدود انتشار ثقافتي هذين الدورين نحو المناطق الشمالية والغربية، إضافة الى وجود تطور مَحلي خاص في صناعة الفخار والأدوات المنزلية وأساليب الزراعة المختلفة، بشكلٍ يعكس تَمازج العناصر الثقافية لهذه المناطق.
(3) تبّة كَورا... موقع أثري كبير يقع الى الشمال الشرقي من مدينة الموصل بمسافة أربعة وعشرين كيلومتراً، يَعني أسمه "التل الكبير"، أدواره التاريخية تمثل حالة حضارية خاصة امتزجت فيها العناصر الثقافية الجنوبية مع الشمالية لوادي الرافدين، كما تُمثل مراحل الاستيطان المتعاقبة فيه فترة زمنية طويلة، تمتد من بدايات فترة العصر الحجر المعدني في مطلع الألف الخامس قبل الميلاد حتى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، حيث نهايات الفترة الآشورية القديمة وبداية السيطرة الخورية.
(4) دور حَلَف... أحد الأدوار التاريخية التي تمثل العصر الحجري المعدني خلال الألفين السادس والخامس قبل الميلاد في شمال وادي الرافدين وشمال سورية وشمال أيران، سُميّ بهذا الاسم نسبة الى الموقع الأثري المسمى "تل حَلَف" الواقع شمال سورية، حيث اكتشفت فيه آثار هذا الدور المُميزة لأول مرة من قبل عالم الآثار الألماني "ماكس فون اوپنهايم"، ويتميّز هذا الدور بنوع خاص من الفخار المزخرف والملون الجميل ذو الصَنعة الرقيقة. ومن أهم المواقع الأثرية التي تُمثل هذا الدور في العراق "تل الأربجية" في محافظة نينوى الذي نقب فيه عالم الآثار "ماكس مالوان" عام 1932 وأكتشف ضمن طبقاته نوع مُميز من الأبنية الدائرية التي عُرفت بين الآثاريين باسم "ثولوس".
(5) حوض حمرين، من الأحواض المائية الكبيرة في العراق، يقع في محافظة ديالى بين سلسلتي جبال "حمرين" و"قرة تبة"، أحتوى العديد من المواقع الأثرية. ونتيجة أنشاء سد كبير لتخزين المياه في هذه المنطقة فقد تعرضت تلك المواقع لخطر الغرق. لذلك دَعت منظمة "اليونسكو" بطلب من العراق لإقامة مشروع دولي للتنقيب والتحري في تلك المواقع التي بلغ عددها أكثر من سبعين. على أثر ذلك قدمت الى العراق عشرات البعثات الآثارية من مختلف دول العالم، أستمرت بالعمل هناك عدة سنوات.. توصلت على أثرها الى نتائج آثارية غاية في الأهمية تخصّ تاريخ وادي الرافدين ومنطقة الشرق الأدنى القديم عموماً.
(6) عصر الوركاء... دور حضاري يمتد للفترة 3500_3200ق.م، سُميَّ بهذا الاسم نسبة الى مدينة "الوركاء"/"أوروك" الواقعة في جنوب السهل الرسوبي لوادي الرافدين، والتي شهدت قيام ما يُعرف بـ"ثورة الاستيطان المدني" المتمثلة بنشأة وأزهار المدن في هذه البلاد، وتطور مجتمعاتها بعد تحوّلها من النظام الزراعي القروي الى الحياة المدنية، بالإضافة الى العديد من الابتكارات الحضارية الأخرى مثل العجلة، الأختام الأسطوانية، الدولاب الفخّار، ثم توّج كل ذلك بابتداع أقدم وسيلة للتدوين في تاريخ حضارات العالم، والتي عرفت فيما بعد بـ"الكتابة المسمارية".



* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter