| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 12 / 10 / 2024 حامد خيري الحيدر كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
من ذكريات العمل الآثاري
قصة اكتشاف أكبر معبد دائري في وادي الرافدين
(4) الأخيرحامد خيري الحيدر *
(موقع الناس)انتهاء التنقيب في البناء الدائري
مع اواخر شهر آب تمكنّ فريق التنقيب من استظهار البناء الدائري بالكامل تقريباً، حيث تم الكشف عن جميع جوانبه التي تُمثل جدرانه الخارجية، وبكامل ما تبقى من ارتفاعاتها التي قاربت الخمسة أمتار، وكذلك من الداخل بعد أن تم رفع الانقاض من كافه مرافقه وتفاصيله البنائية، ليجد الفريق نفسه أمام تحفة معمارية رائعة فريدة من نوعها، شَيّدها شعب سومر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، تجمع بين دقة البناء ومتانته التي جعلته يقاوم كل تلك السنين ليصل لوقتنا الراهن بحُلته هذه، حيث تم تشييده على شكل دائري بقطر خارجي يُقارب الستة وعشرين متراً، يَضّم أربعة جدران دائرية على هيئة حلقات مُتدرّجة الأقطار مُتداخلة مع بعضها تضّم بينها مَمرين للحركة والتنقل داخله.
وقد تمكن الفريق بعد التدقيق في تفاصيل البناء وأسلوب تشييده ومدى ترابط الجدران وتداخلها مع بعضها، وكذلك المواد الأثرية التي تم العثور عليها فيه، أن يَتثبت من تاريخ ومراحل بنائه، حيث قَدّر استمرار هذا البناء بالخدمة لفترة طويلة جداً من الزمن تزيد على الستة قرون، مما يُشير بالتأكيد الى أهميته الروحية والعقائدية لدى سُكان المُستوطن وربما المنطقة بأكملها، تَمتد من أواسط عصر "جمدة نصر" وحتى أواخر "عصر "دويلات المدن السومرية"، لذلك فهو يتكون من عدة أدوار ومراحل بنائية، حيث أجريّت على البناء الأصلي خلال حِقب زمنية لاحقة من تلك الفترة التاريخية الطويلة تجديدات وإضافات معمارية، بعضها بدافع الصيانة والترميم وبعضها فرَضتها مُقتضيات الحاجة حينها، وقد تَمّ تحديدها بثلاثة أدوار بنائية، حيث ضَمّ الدَور الأول (الأقدم) مركز البناء بما يَحتويه من موقد النار والكوّة الكبيرة، وكذلك المَمر المركزي مع سُلمه اللولبي الذي يفصل هذا القسم عن الجدار الدائري الرابع بكواه العشر المُطلة على المَمر الوسطي، والذي تَبيّن أن سُمكه كان بحدود ثلاثة أمتار وقطره تسعة أمتار تقريباً، وكذلك الجدار الدائري الثالث الذي كان بقطر سبعة عشر متراً وسُمك متر واحد، مُتوسطاً الجدارين المَمر الوسطي المَحصور بينهما، والذي يُعتبر محوَر الحركة الرئيس في البناء.
أما الدَور الثاني فقد تَمّ فيه بناء الجدار الثاني السميك الذي كان قطره بحدود أربعة وعشرين متراً وسُمكه يَزيد على الثلاثة أمتار ونصف، وقد شُيّد ليكون سانداً للثالث المُطل على المَمر الوسطي، الذي يبدو أنه كان قد تَعرض الى بعض التَصدعّات بمُرور الزمن، حيث تَمّت مُلاحظة بعض التشققات القديمة الحاصلة فيه، مما تطلب بناء هذا الجدار لتقويته وأسناده لذلك بُني بهذا السُمك، وقد تمّت الاستفادة من سُمك هذا الجدار بتشييد تلك الأحواض المعمولة من اللِبن على سطحه، والتي كانت في الغالب تُستخدم لوضع جرار الخزن كما سبقت الإشارة الى ذلك، في حين تَمثّل الدَور الثالث ببناء الجدار الرابع الذي كان قطره بحدود ستة وعشرين متراً أما سُمكه فقد كان متر ونصف تقريباً، وقد تَمّ اسناد هذا الجدار في نفس هذا الدَور لمَنع انحرافه أو مُيلانه نحو الخارج بعدة دَعامات سَميكة في الجانبين الجنوبي والغربي.
أما في الجانب الشمالي فقد أسند الجدار عند طريق تَشييد الحُجرات الصغيرة الملاصقة له في هذا الجانب والتي سَبق الإشارة إليها، أما من الجانب الشرقي فقد بُنيَّ بجانب مدخل البناء سُلم مُدرّج مائل ملاصق للجدار الخارجي ليكون بمَثابة دعامة مَتينة لإسناده في هذا الاتجاه وكذلك للفائدة، إذ أنه يؤدي من الخارج حتى سطحه مُباشرة حيث كانت أحواض الخزن، ومن الجدير بالذكر أن تسقيف المَمرين الوَسطي والمَركزي قد كان الغالب بشكل عقادة مُثلثة الشكل، والتي امتازت بها الأبنية السومرية منذ الألف الخامس قبل الميلاد كما في أبنية مدينة "أريدو" الأثرية (1) في جنوب العراق، حيث بَدى ذلك واضحاً من وجود انحناءات صغيرة في الأطراف العليا للجدران، والتي عن طريق احتساب ارتفاع المُتبقي منها مع مقدار الأجزاء المُزالة التي كانت بحدود متر ونصف، ثم قياس نسبة مَيلان العقادة المُفترضة، تَمّ تقدير الارتفاع الاصلي للبناء الدائري بحدود ستة أمتار.
وللتأكد فيما لوكان هناك طبقات أثرية أقدم تحت البناء، تَمّ حفر مَجّس اختباري في المَمر الوسطي ومَجّسين آخرين في الجانب الشمالي خارج البناء وبمُحاذاة البناء الدائري الحجري، ليتبيّن لفريق التنقيب وجود طبقة أثرية كاملة تمتد أسفل البنائين، تعود لعصر "العُبيد" 4900_3500ق.م (2) بدلالة كِسر الفخار المُزخرفة باللون الأسود المُميّزة والدالة لهذا العصر وقد أتضّحَ بعد توسيع مَساحة هذه المَجسّات وامتداداتها بجانب البناء الحجري، أن هذه الطبقة بمَثابة مُستوطن "عُبيدي" صغير، تتمثل بقاياه بمرافق بنائية فقيرة للغاية بالمواد الأثرية ولا علاقة لها بالبناء الدائري، أزيل مُعظمها عند تَشييد ذلك البناء ولم يتبق منها سوى بضعة جدران واطئة جداً، لا يزيد ارتفاع المتبقي منها بأكثر من أربعين سنتمتراً، تُمثل مجموعة حُجرات صغيرة مُربعة الشكل، لا تزيد اطوال اضلاع الواحدة منها عن الثلاثة أمتار، مُشيّدة باللِبن الكبير الحجم ذو القياسات 50×25×8سم، الذي امتازت به أبنية عصر "العُبيد"، وقد تَمّ العثور تحت أرضياتها المُسيّعة بالطين على خمسة قبور لأطفال صغار تعود لهذا العصر، تم دفنهم داخل جرار فخارية متوسطة الحجم بيضوية الشكل. وقد أثبتت طبقة "العُبيد" هذه بعد إكمال استظهارها أنها تُمثل بداية الاستيطان في موقع "تل النمل"، حيث أنها مُشيّدة مباشرة على الطبقة الحَصوية المُمتدة نحو نهر دجلة والتي تمُثل "الأرض البكر" بالنسبة لهذا الموقع. وبذلك يترَّسخ في موقع "تل النمل" التتابع المُثبت للأدوار التاريخية في وادي الرافدين منذ فترة الألف الخامس قبل الميلاد والمُتمثل بعصور.. "العُبيد" ثم "الوركاء" ثم "جَمدة نصّر" ثم "دويلات المدن السومرية"، ثم فترة قطع طويلة أعقبها العصرين الآشوريين الوسيط والحديث.
هوية البناء الدائري
كل هذه التفاصيل الغريبة وغير المألوفة ضمن النَمط العام للعمارة الرافدينية القديمة، جَعلت فريق التنقيب يضع تفسيرات عديدة لهذا البناء الدائري.. هويته، وظيفته، بماذا كان يُستخدم، لماذا شُيّد وفق تخطيط دائري وليس بشكل مربع أو مستطيل؟ بالإضافة الى العديد من الأسئلة الأخرى، فمن جانب لا يمكن القول أنه بناء حياتي مُخصص للسُكنى كأن يكون قصر أو بيت كبير مثلاً، وذلك لخلوه من جميع المَرافق التي يحتاجها السَكن العادي وافتقاره الى كل ما تَتطلبه مُقتضيات المَعيشة اليومية، من جانب آخر فأنه من غير المنطق الذهاب الى ما ارتآه علماء الآثار الاجانب عن الأبنية الدائرية خلال سبعينيات القرن العشرين، وهو أن هذه الأبنية هي عبارة عن مخازن لحفظ الغِلال الزراعية، حيث يرتبط ذلك مع حاجة مجتمعات "ثقافة نينوى5" السومرية التي تعتمد في اقتصادها بشكل أساس على الزراعة وخاصة الحبوب، إذ أن المساحات الخالية في هذا البناء وكما تم وصفها مَحدودة للغاية ولا يمكن أن يُستفاد منها لغرض التخزين.
المبدأ الوحيد الذي يُمكن أن تتفق عليه الآراء أنه بناء عام يَخصّ جميع سكان هذا المستوطن ولا يتبع لشخص منفرد واحد، إذ أن بناء بهذا الحجم والضَخامة حتماً يتطلب جهوداً استثنائية وامكانيات اقتصادية كبيرة لبنائه، بالإضافة الى الأيدي العاملة التي يَستوجب توفرها لإكمال تَشييده، ثم مُتابعة حاجاته والاشراف على خدمته وصيانته، وأيضاً لإجراء التجديدات والاضافات البنائية التي جَرت عليه عبر الزمن، وهذا يقتضي طبعاً وجود سلطة إدارية قوية مُنظمّة تتولى كل هذا، كما يُمكن الاتفاق أيضاً على الصفة الدينية والطقوسية للبناء، والدليل في ذلك هو وجود تلك الكوى فيه، بما احتوته من مواد أثرية من المؤكد أنها تُمثل بقايا ومُخلفات قرابين مُقدمة من قِبل مُتعبّدين لرمز روحي أو عقائدي مُقدَس لديهم، رغم أنه بعيد كل البعد عن شكل المعابد العراقية المألوفة التي كان لها خصائصها وصفاتها التي تُميّزها، بتخطيطها المربع أو المستطيل مع الساحة الوسطية المَكشوفة وخلوّة الإله، إضافة الى زواياها التي يجب أن تتجه نحو الجهات الأربعة الرئيسة، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود المقبرة الكبيرة الى جانبه، والتي من الواضح استناداً الى حجمها أنها كانت تَخصّ جميع سكان المستوطن، وهذه حالة عامة لاتزال مُتبّعة حتى الوقت الحاضر، تتمثل بدفن الموتى الى جانب رَمز ديني مُعيّن.. مسجد، كنيسة، معبد، أو ضريح لشخصية هامة لها قدسية ما. كل ذلك جعل فريق التنقيب يتساءل بعد استثنائه كل تلك الآراء والافتراضات.. ما هو هذا البناء؟
وبعد أخذ ورَد بين أفكار وطروحات أعضاء فريق التنقيب آخذين بنظر الاعتبار التركيب المعماري المُعّقد لهذا البناء، تَم التوصل والاتفاق الى رأي جرئ غير مطروح سابقاً، وهو أن هذا البناء الدائري وباقي الأبنية الدائرية المُكتشفة سابقاً يُمثل "معبد النار" الرافديني الذي وَرَد ذكره في الكتابات السومرية باسم "كَيبيل" وبالأكدية "كَيبلو"، وكذلك باسم "أي كَيرا"، الذي كان مُكرّسأ لعبادة إله النار والضوء "نُسكو". وحسب المعتقدات العراقية القديمة فأن مجلس الآلهة السبعة الكبار "الأنوناكي"(3) قد مَنح هذا الإله سلطة الضوء والنور وإيقاد النار، حيث أنه يظهر في المنحوتات وصور الأختام الأسطوانية وسط مجلس الآلهة بهيئة مشعل نار أسطواني الشكل (يشابه تماماً موقد النار في مَركز البناء)، كما ارتبط أسم هذا الإله مع آلهة كِبار مثل إله السماء "آنو" وإله الأرض "أينكي"، إلا أن علاقته الأقوى والأشد كانت مع إله الشمس "أوتو"/"شَمَش"، حيث كان رفيقه الذي يَستمد منه طاقته، كما جاء ذكره أيضاً في بعض النصوص المسمارية الأدبية مثل "قصة الطوفان البابلية" على أنه كان مُساعداً ووزيراً لكبير الآلهة السومرية "أنليل" إله الهواء.
وعلى الرغم من أن هذا الإله لم يكن من بين كِبار الآلهة، وعبادته لم تنتشر الى مَناطق واسعة في وادي الرافدين، إلا أنه كما أسلف كان مُساعداً ومُعيناً لهم ومُلبيّاً لرغباتهم، حيث أنه يَقضي على قوى الشر والظلام والسحر التي تُهدد البشر، وهو أيضاً الراعي لفن الصياغة والتعدين، إذ أن له دور رئيسي لا يمكن الاستغناء عنه في عملية صَهر المعادن، وكذلك في فخر الطابوق، لذلك فهو يُعتبر المُثبّت لأسس المدن والبيوت، كما ذكرت النصوص المسمارية عن صفاته أنه قاسٍ ومُخيف، ويحمل طاقة البَرق ليُسبب بواسطتها الحَرائق، حتى أن بعض تلك النصوص السومرية من أواسط الأف الثالث قبل الميلاد، قد وَصفت معبده أحياناً باسم غريب هو "أي_ميلام_خوش" الذي يَعني "معبد الألق المُرعب"، ومن الجَدير بالذكر حول ذلك أن منطقة "الخانوكَة" حيث يقع "تل النمل" وكونها أرض فسيحة مفتوحة، فقد كانت الصواعق تحدث فيها على الدوام وتُشاهد فيها أضواء البرق بشكل مُستمر، وهذا ما لاحظه أعضاء فريق التنقيب بشكل مُباشر في الموقع خلال إقامته هناك على مَدار مَوسمي العمل عند تلبُد الغيوم وهطول الامطار الشديدة هناك.
ووفقاً لهذا الرأي وضع كاتب السطور سيناريو افتراضي لكيفية إجراء الطقوس الدينية داخل هذا المعبد الدائري.. هو أن يدخل المُتعبد من بوابة المدخل الكائنة في الجهة الشرقية ثم يَنحرف الى جهة اليمين بعد مواجهته القاطع الذي يقابل مدخل البناء، ليقوم بعدها بالطواف في المَمر الوسطي باتجاه يُعاكس عقرب الساعة، يضع خلالها قرابينه أو نُذوره داخل الكوى المُخصصة لذلك، وعند منتصف المَمر يَمّرُق من الكوة النافذة الوسطية التي تضطره لثني جسده احتراماً لقدسية المعبد والتي توصله تماماً للسلم اللولبي الوسطي، كي يَرتقيه ليصل الى مَركز البناء حيث الكوّة الكبيرة أسفل موقد النار (المقدسة) والمُغطاة بالحصير، إذ في الغالب أنها تُمثل خلوة أو محراب الإله، أي المكان المقدس الهام الذي يُعتبر القسم المحوَري في جميع المعابد العراقية القديمة، ومن المُرجح جداً أنه كان بداخلها آنذاك رَمزاً إلهياً أو دينياً مُعيناً ربما كان تمثالاً أو مَنحوتة ذات شكلٍ ما، ثم بعد الانتهاء من تعبده يعود عبر السُلم مرة أخرى ويخرج من المَمر الواطئ وهو يَثني جسده مرة ثانية ليُكمل مَسيره في المَمر الوسطي حتى نهايته، حيث توجد بئر الماء المُخصّصة مياهها المقدسة للتطهير والاغتسال، ثم يُكمل مَسيره ويخرج من مدخل المعبد من جانبه الآخر ليُكمل بدورانه هذا دورة قرص الشمس التي يَستمد إله النار طاقته منه، والشيء المهم في هذه المُمارسة التَعبدية بما تتضمنه من شعائر وطقوس دينية مُبكرة، كانت تُمثل أقدم حالة طواف حول رَمز مُقدس في تاريخ الفكر الديني عند جميع حضارات العالم.
نهاية موسم التنقيب
في أواسط شهر أيلول اختتم فريق العمل موسم التنقيب الثاني في موقع "تل النمل" بعد النتائج الكبيرة التي تم التوصل اليها على مدى سنتين 1997 و1998، والتي تمثلت باستظهار البناء الدائري الذي يُعتبر الوحيد في المواقع الأثرية العراقية الذي تم استظهاره بكامل تفاصيله البنائية تقريباً وربما أنه كان الوحيد المُكرّس لعبادة الإله "نُسكو"، من جانب آخر فقد تم اكتشاف أكثر من خمسين قبر آخر في مقبرة المُستوطن خلال هذا الموسم، ورغم أنها كانت تُشابه الى حدٍ بعيد تلك التي تم اكتشافها في الموسم الأول من ناحية شكل حُفرها وأسلوب الدفن فيها، لكن قبور هذا الموسم كانت تضّم كميات أكبر من المواد الأثرية، حيث تم العثور داخلها إضافة الى الأواني الفخارية المتنوعة الأحجام والأشكال والتي كانت تعود مُعظمها الى فترة "نينوى5"، على العديد من الأدوات المصنوعة من النحاس من فؤوس وسكاكين وإبر ومَغارز وشُصوص لصيد السمك، وكذلك قطع حُلي من النحاس أيضاً تنوعت بين خواتم وأساور وأقراط للأذن، وكذلك كميات كبيرة من الخرز والدلايات المعمولة من أحجار الفيروز والعَقيق والكوارتز والزجاج البركاني الأسود، إضافة الى الصَدَف والعظام، كما تم الكشف أيضاً على عدد من القبور التي تعود الى عصر "جَمدة نصّر"، عُثر بداخلها على عدد من الأختام المُنبسطة المَعمولة من العَقيق والحَجر الأسود والمُعّرَق.
نتائج التنقيبات في المؤتمر الدولي للآثار
في أواخر شهر أيلول عام 1998 عُقد مؤتمر الآثار الدولي في بغداد على هامش مهرجان بابل الدولي العاشر، والذي حَضره العديد من كبار علماء الآثار من مختلف دول العالم، وخلاله قدم فريق التنقيب في موقع "تل النمل" الأثري تقريره الشامل عن نتائج تنقيباته في هذا الموقع والتي تَمثلت بجانبين.. الأول تقديم الأدلة والقرائن لتحديد هوية الأبنية الدائرية المُكتشفة في العراق والعائدة لـ"عصر دويلات المدن السومرية" الأول المُتمثل بثقافة "نينوى5"، على أنها معابد دينية مُكرّسة لعبادة إله النار "نسكو"، وليس كما ذهبت إليه الآراء والطروحات السابقة حول ذلك، أما الجانب الثاني هو أن ما تَمّ الكشف عنه في موقع "تل النمل" يُمثل مرحلة أخرى من طبيعة الانتشار السُكاني للشعب السومري ضمن حدود بلاد وادي الرافين، تُثبت حقيقة التنوعات الثقافية والاجتماعية والدينية التي كان يحملها أبناء سومر، والتي ظهرت في العديد من المناطق الأخرى في الشمال والجنوب نتيجة وجودهم هناك، مما يدل على أصالة هذا الشعب وانبثاقه من أرض العراق، ولم يكن أبداً مُهاجراً طارئاً أتى إليها من أصقاع نائية من الارض، كما تذهب في ذلك العديد من الآراء الصفراء المُغرضة.
وبالرغم من الجُهد الاستثنائي الذي بَذله أعضاء فريق التنقيب على مدى مَوسمي التنقيب في "تل النمل" خلال عامي 1997 و1998، إلا أن تلك النتائج الرائعة التي توصل اليها، والتي تمَكنّ عن طريقها من تصحيح الكثير من المفاهيم التاريخية المَغلوطة التي كانت سائدة لدى الآثاريين الأجانب، قد غمَرت أعضائه بشُعور مَمزوج بين الفرح والنَشوة، وجعلتهم يَنسون كل ما لاقوه من مصاعب ومَتاعب حينها، إضافة الى ذلك فقد كان هذا الانجاز يُعدّ بحق نجاح باهر لعُموم الآثاريين العراقيين، الذين رغم كل تلك الظروف الصعبة القاسية في ذلك الوقت، حيث فترة الحصار الاقتصادي الجائر الذي فُرض ظلماً على العراق وشعبه وثقافته، وبوسائل تُعتبر بدائية قياساً الى التقنيات التي كان قد وَصل اليها علم الآثار آنذاك في المؤسسات الآثارية العالمية، إلا أنهم توصلوا الى تلك النتائج المُتميّزة التي تفوق بكثير ما كان قد أنجزها علماء الآثار الأجانب (4).
الهوامش:
(1) أريدو... مدينة سومرية شهيرة، تُسمى آثارها "تلول أبو شهرين"، تقع الى الغرب من مدينة الناصرية بمسافة أربعين كيلومتراً، والى الجنوب الغربي من مدينة "أور" الأثرية بمسافة حوالي خمسة عشر كيلومتراً، كان لها ساحل كبير يطل على هور واسع يَشرف على البحر (الخليج العربي)، أحتلت مكانة رمزية مُميزة وقدسية كبيرة ارتبطت بالحكمة، باعتبارها مقر ومركز عبادة الإله السومري "أينكي" الذي يُعرف بـ"أيا" لدى الأكديين، وهو إله الأرض والمياه العذبة، تُعدّ هذه المدينة الأقدم في بلاد سومر استناداً الى قوائم الملوك السومريين، حيث أوردت أنها أولى المدن السومرية الخمس التي حكمت البلاد قبل حادثة الطوفان الشهيرة، وقد أثبتت التنقيبات الأثرية بأنها تمثل بداية استيطان الشعب السومري في جنوب بلاد ما بين النهرين الذي يعود الى مطلع الألف الخامس قبل الميلاد، رغم فقدان المدينة لأهميتها السياسية في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، لكنها ظلت تحتفظ بمكانتها الدينية الهامة مما جعلها تظل مأهولة بالسكان حتى القرن السادس الميلادي.
(2) دور "العُبيد"... دور تاريخي حضاري يُعّد أحد ثقافات العصر الحجري المعدني، يمتد للفترة 4900_3500ق.م، ويُمثل بداية الاستيطان في السهل الرسوبي لوادي الرافدين، سُميَّ بهذا الاسم نسبة الى موقع "تل العُبيد" الذي يقع في محافظة ذي قار بالقرب من مدينة "أور" الأثرية حيث تم هناك اكتشاف آثار هذا الدور فيه لأول مرة، والمتمثلة بفخار مُتميّز مُزخرف باللون الأسود، وقد انتشرت ثقافة هذا الدور في معظم مواقع جنوب ووسط وشمال بلاد وادي الرافدين، بالإضافة الى مناطق بعيدة شاسعة خارجها، حيث انتشرت الى سواحل الخليج العربي وايران وجنوب أسيا الصغرى وشمال سوريا وكذلك قبرص وبعض الجزر اليونانية، مما جعل بعض الباحثين يطلق عليه أسم "امبراطورية ما قبل التاريخ"، ونظراً لطول فترته الزمنية فقد تطورت بالمقابل معالمه الأثرية، لذلك تم تقسيمه الى عدة أدوار حسب قدمها وأسماء المواقع الأثرية الأخرى التي أكتشف فيها وهي.. العُبيد الأول ويمثله موقع "أريدو"، العُبيد الثاني وتمثله مواقع "حجي محمد" وراس العمية"، العُبيد الثالث ويُمثله الطبقات السفلى من تل العُبيد، العُبيد الرابع أو المتأخر وتمثله الطبقات العليا من تل العُبيد. وقد أختلف الباحثون في أصل شعب العُبيد، حيث أسماهم البعض بـ"الفراتيون الأوائل"، لكن البحوث الآثارية الحديثة قد أثبتت بما لا يقبل الشك أنه الشعب السومري نفسه بعد استقراره في جنوب وادي الرافدين وتشييده أسس حضارته العظيمة في هذا المكان من العالم.
(3) الآلهة "الأنوناكي"... هم الآلهة السبعة الكبار الذين يقررون مَصائر البشر والكون، حسب العقيدة الدينية لسكان وادي الرافدين، يظهرون عادة في المنحوتات والقطع الفنية وكذلك في صور الأختام الأسطوانية بشكل سبع نجوم. يُسمون في الأكدية "سيبيتو" أو "سيبيتي" أي "السبعة"، ويقابلها في السومرية "أمنبي"، وهم.. "آنو" إله السماء، "أنليل" إله الهواء، "أنكي" إله الأرض والمياه، "ننخرساك" إلهة النسل والأنجاب، "ننا" أو "ننار"/"سين" إله القمر، "أوتو"/"شَمَش" إله الشمس، "إنانا"/"عشتار" إلهة الحب والحرب. ويتبع ويساعد كل من هؤلاء السبعة عدد كبير من الآلهة الصغيرة الأخرى.
(4) في أواخر عام 1998 غادر الكاتب وطنه العراق مُهاجراً الى أوربا، ليستمر التنقيب في موقع "تل النمل" بعد ذلك من قبل زملاء آثاريين آخرين، ولمدة موسمين قصيرين أخيرين فقط خلال صيفي عامي 1999 و 2000، اقتصر العمل خلالهما على إكمال التنقيب في مقبرة المستوطن، حيث تم اكتشاف العديد من القبور العائدة لفترتي "جمدة نصّر" و"نينوى 5"، احتوت على آثار سومرية نفيسة للغاية.
مَصادر الموضوع بأقسامه الأربعة:
- برهان شاكر ... التنقيبات في تل النمل ... مجلة سومر/ العدد 51 ... بغداد 2001
- تقي الدباغ ... من القرية الى المدينة ... موسوعة الموصل الحضارية / المجلد الأول ... الموصل 1991
- حامد خيري الحيدر ... حين تحكي الرمال / من ذكريات مُنقب آثار ... مالمو / السويد 2020
- حامد خيري الحيدر ... حضارة شمسها لن تغيب ... مالمو / السويد 2024
- طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / الجزء الأول ... بغداد 1973
- عامر سليمان ... منطقة الموصل في الألف الثالث قبل الميلاد ... موسوعة الموصل الحضارية / المجلد الأول ... الموصل 1991
- قحطان رشيد صالح ... الكشاف الأثري في العراق ... بغداد 1987
- قصي صبحي عباس الجُميلي ... عصر نينوى الطبقة الخامسة ... رسالة دكتوراه غير منشورة في الآثار القديمة، مقدمة الى مجلس كلية الآداب في جامعة بغداد عام 2006
- مؤيد سعيد ... العمارة من عصر فجر السلالات الى نهاية العصر البابلي الحديث ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985
- هيديو فوجي ... تنقيبات تل الكَبة ... مجلة سومر / العدد 40 ... بغداد 1984
- وليد الجادر ... العمارة حتى عصر فجر السلالات ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985- D. T. Potts … Mesopotamian Civilization, The material Foundations … LONDON 1997
- H. Frankfort … The Art and Architecture of The Ancient Orient … MARYLAND 1970
- M. Mallowan … Twenty Five years of Mesopotamias Discovery … LONDON 1956
- P. Charvat … Mesopotamia Before History … LONDON 2002
- P. Delougaz … Pottery From The Diyala Region … CHICAGO 1952
- S. Bertman … Life in Ancient Mesopotamia … NEWYORK 2003
* باحث آثاري