|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  11  / 3 / 2025                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من ذكريات العمل الآثاري

مَسح آثاري لمَشروع رَي الضلوعية عام 1994
(2)

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

كانت الساعة بحدود العاشرة صباحاً لدى وصول فريق المَسح الآثاري مقر المؤسسة الآثارية عند قرية "حسين أبن حميّد"، في المنطقة المرتفعة التي يقطع فيها نهر العظيم سلسلة جبال حمرين، وهو عبارة عن بيتٍ بَسيطٍ مُستأجر من وزارة الرَي مَبني بالطابوق الاسمنتي الكبير "البلوك" غير مُسيّع من الخارج، مما جعله يؤازر طبيعة المناخ على امتداد العام حيث يُماثل المدفئة صيفاً، ويُضاهي الثلاجة شتاءً، وهو يقع ضمن مجموعة بيوت معظم قاطنيها من العاملين في سَد العظيم، ويتكون من ثلاث غرف مع عدد من الأسِرة وأثاث متواضع، وبعض من لوازم المطبخ البسيطة بضمنها طباخ نفطي صغير، وبرميل معدني يحوي بضعة لترات من النفط الأبيض، وطبعاً ليس هناك من وجود للتيار الكهربائي فيه، أي أن إنارته تعتمد بشكل كلي على المصابيح النفطية (الفوانيس واللالات)، أما مصدره الوحيد للمياه فكان عبارة عن خزان كبير من الحديد على السطح، يُملأ ليلاً من مياه النهر بسبب قوة ضخ مياه السَد للاستفادة منه في اليوم التالي، كانت برودة الطقس على أشدّها، خاصةً مع هُبوب الرياح القادمة من قمم الجبال المُحيطة بنا والتي تجعل أشد الأجساد تَرتجف، وبالطبع لم تُجدي معها نفعاً مدفئة الحطب المَركونة في أحدى الزوايا، والتي لا أحد يعرف من أين أتت أو من الذي صنعها، حيث كانت مُجرد قِدر طعام كبير من معدن "الفافون" مُثَقّب الجوانب، يمكن أن يَمنح شيئاً من الدفء بعد اشعال بعض الاخشاب فيه، لكنا قد تَحضّرنا لهذه المسألة بما يكفينا من الملابس المناسبة والأغطية الثقيلة لدرء البرودة عن أجسادنا، بالإضافة الى ما نحتاجه من أطعمة مُعّلبة وطازجة، وبالتأكيد مع هكذا حال يصبح السؤال عن أجهزة الثلاجة أو التلفاز نكتة تستحق القهقهة، كما أننا لم نكن بحاجة لثلاجة على أية حال لحفظ طعامنا فالبرودة الطبيعية كانت تَفي بالغرض وتزيد. وبعد استراحة قصيرة وشيء من الفطور البسيط انطلقنا نحو هدفنا.

كان المشروع الشمالي كما سَبق القول هو الاكبر ويَضّم سبعة مواقع أثرية هي.. "تل العيث"، ""تل أم الغربان"، "تل مويلحات"، "تل الحَجي"، "تلول البُكَر"، "تل سطيح"، "تل بَغّة". أما المشروع الجنوبي فكان يضّم خمسة مواقع اثرية هي.. "تل جفجافة"، "تل أم التمر"، "تـل أم العكَرب"، "تلول شُكر"، "تلول أبو حليج". وفق ذلك قسّمنا خطة المَسح الى ثلاث مراحل، كل مرحلة خَصّصنا لها يوم واحد، رغم تخوّفنا من هطول أمطار غزيرة خلال هذه الأيام تجعل من مهمتنا غاية في الصعوبة، حيث ستمتلئ هذه المناطق بالوحول وتتحول الى ما يَشبه المستنقعات التي يَتعذر مرور سيارة العمل فيها.

بدأنا رحلة المرحلة الأولى مع الجانب الأيمن لنهر العظيم نحو الجنوب، حيث أن عمليات حفر القنوات ستبدأ من الجنوب باتجاه الشمال، كما علمنا بذلك من مهندس الشركة عند لقائنا به، مُستهّلين المَسح من منبع قناة المشروع الشمالية التي تبعد عن السَد بمسافة ثلاثة عشر كيلومتراً بالقرب من قرية "الكَزاكَزة"، مُتتبعين العلامات الحمراء التي ثبتتها الشركة المُنفذة للدلالة على امتداد خط سَير القنوات المفترضة التي سيتم حفرها، حيث يوجد الموقع الاول "تل العيث" بمسافة خمسة وعشرون كيلومتر بالقرب من قرية "عرب خلف الأسود"، وهو تل دائري صغير لا يزيد قطره عن عشرين متراً وارتفاعه عن مترين، فقير جداً بالملتقطات السطحية لكنها تُشير بوضوح بعائديتها الى الفترة الساسانية، وقد كانت علامات القنوات تمّر على جزء كبير من جانبه الشمالي، هذا يعني أن التل في حال بدء عملية الحفر سيُزال بكامله تقريباً لصغر حجمه.

ثم انتقلنا الى الموقع الثاني وهو "تل أم الغربان" الذي يقع الى الغرب من "تل العيث" بمسافة تزيد على الخمسة كيلومترات، ضمن أراضي قرية "المويلحات"، وهو تل كبير مستطيل الشكل تقريباً أبعاده بحدود 20×40م، وارتفاعه بحدود الثلاثة أمتار، وهو يماثل سابقه بعائديته التاريخية، لكنه كان في مكان آمن، حيث أنه يبعد عن اقرب قنوات المشروع بمسافة لا تقل عن كيلومترين. ثم توجهنا نحو الجنوب لمسافة أربعة كيلومترات حيث "تل موييلحات"، الذي يقع الى الغرب من قرية "مبارك الحَمد" بمسافة حوالي ستة كيلو مترات، وقد كان بحجمه الصغير وارتفاعه الذي لا يتجاوز المتر ونصف كسابقه في منطقة نائية عن قنوات المشروع. عند ذاك أنهينا المرحلة الاولى من المَسح بعد غدَت المنطقة بمنتهى البرودة، كما أن الغيوم الرمادية الكثيفة قد بدأت تنذرنا بأمطار غزيرة قادمة لا محالة، على أن نكمل المرحلة الثانية في اليوم التالي والتي تشمل أربعة مواقع هي.. "تل الحَجّي"، "تلول البُكَر"، "تل سطيح"، "تل بَغّة".

في اليوم التالي ورغم وحولة الأرض بدأنا مرحلة المَسح الثانية من قرية "مبارك الحمد" متوجهين الى الموقع الأول "تل الحَجّي" بارتفاعه البالغ ثلاثة أمتار ومساحته التي تقارب أربعمائة متر مربع، وقد كان منظر التل يوحي بخطرٍ أكيد قادم اليه، حيث أن علامات الحفر الحمراء تَمّر من مُنتصفه تماماً، مما يعني أن هذا التل سيُخرّب كلياً أذا لم يتم تغيير مسار الحفر وتَغييره نحو اتجاه آخر، وطبعاً كنّا ندوّن ملاحظاتنا بشكل دقيق مع توثيق ما نراه بالتقاط الصور الفوتوغرافية والمُخططات التوضيحية عن كل موقع بعد تثبيته على خرائطنا الخاصة. أما الموقعين التاليين فقد كانا يقعان الى الجنوب من موقعنا الأول "تل العيث" بمسافة تقارب العشرين كيلو متراً وهما "تلول البُكَر" و"تل سطيح" واللذان يقعان حسب خرائط الشركة بالقرب من القناة الناقلة الرئيسية. ومع مواصلة سَيّرنا البطيء بتلك الطرق الموحلة الزلقة مَررنا بقرى "أم تليل"، "الخيط"، "الكبشات"، "عرب حسن طوكَان"، "عرب سيد مرعي"، حيث أخذت صور حركة الآليات والجرافات وسيارات نقل العاملين بالازدياد، وهذا طبعاً كان متوقعاً بالنسبة لنا حيث أن عمليات الحفر كما سَبقَ القول تبدأ من الجنوب صعوداً باتجاه الشمال.

ومع تَتبع مَسار القناة الرئيسة التي تم حفر جزء كبير منها، وَصلنا منطقة "تلول البُكَر" التي جاوزها الحفر بمسافة ليست كبيرة، وكانت عبارة عن ثلاثة تلال ضخمة بالغة الارتفاع، سُميّت بهذه التسمية بسبب رَعي المواشي بالقرب منها خلال فترة الربيع لكثافة العشب عندها. وتَتميّز إضافة الى ضخامتها أنها كان دائرية الشكل وتمتد بخطٍ مستقيم من الشمال الى الجنوب، لا يفصل أحدهما عن الآخر سوى مسافة بسيطة لا تتعدى العشرين متراً، لذلك أسميناها "الشمالي" و"الأوسط" و"الجنوبي". كان التل الأوسط أكثرها ارتفاعاً، حيث يبلغ بحدود أثنا عشر متراً وقطره يزيد على ثمانين متراً، اما الشمالي فقد كان بارتفاع عشرة أمتار وقطره بحدود الستين متراً، والجنوبي كان الأصغر بينهم بقطره البالغ أربعين متراً وارتفاعه الذي قارب السبعة أمتار، وما يُلاحظ على التلال الثلاثة هو كثرة قطع الطابوق المُنتشرة بغزارة على سطوحها، بالإضافة طبعاً الى كِسر الفخار والمُلتقطات السطحية الأخرى. ربما كانت هذه التلال محظوظة، فقد تم حفر قناة المشروع الى الجنوب منها بمسافة خمسين متراً من دون أن تحدث أية تخريب بأطرافها، ربما كانت ضخامتها وصعوبة مرور الأليات بينها هو من جعلها بمأمن من الحفر والتجاوز.

كانت محطتنا التالية هي "تل سطيح" الذي يقع الى الجنوب الشرقي من "تلول البكَر" بمسافة لا تتعدى الثلاثمائة متر. التل كبير جداً مستطيل الشكل أبعاده حوالي 100×60م، وارتفاعه حوالي سبعة أمتار، وقد استمدت تسميته هذه من شكل سطحه المستوي في جميع جوانبه. كانت صدمتنا كبيرة جداً لدى رؤيتنا مشهد التل الذي تَعرض الى تخريب كبير جداً، حيث أن القناة الإروائية الرئيسية البالغ عرضها خمسة عشر متراً قد تم حفرها في وسطه تماماً ولعُمق أربعة أمتار عن مستوى الارض المحيطة به، مما أدى الى دمار وخراب كامل بأكثر من رُبع مساحته وحجمه، خاصة إذا علمنا أن القسم الأوسط من كل تل أثري يُمثل القسم الأهم منه، كونه في الغالب أكثر الأقسام قدماً، واحتمالية تواجد المباني الهامة فيه.

كان المشهد كارثياً بالفعل ومؤلماً بشكل يصعب تصوره ونحن نرى آثار الجرافات والبلدوزرات قد داست الآثار النفيسة من فخاريات ملونة ومسكوكات ومنحوتات صغيرة لتحيلها الى هَشيم، بالإضافة الى سَحق جدران بكاملها وازالة أرضيات الطبقات الأثرية المرصوفة بالآجر، حتى بدا لنا التل وكأنه يبكي ويئن وجعاً طالباً الغوث بعد أن مُزّق جسده. ثم بعد استيعابنا لما رأيناه، قمنا بتوثيق كل هذا التجاوز مع وصف دقيق مُعزّز بالمخططات والصور الفوتوغرافية، أسوة بباقي المواقع السابقة.

كان الموقع التالي في مرحلة المسح الثانية هو "تل بَغّة" الذي كان الأخير الذي يقع ضمن منطقة المشروع الشمالي، وهو يقع الى الجنوب من "تل سطيح" بمسافة خمسة كيلومترات، والى الغرب من قرية "خزريكَة" بمسافة كيلومترين، وهو آمن من تبعات شَق قنوات المشروع، حيث أنه يبعد الى الشرق منها بمسافة أكثر من كيلومتر. عند هذا الحد قررنا العودة لمقرّنا فقد جاوز الوقت منتصف الظهيرة بأكثر من ساعتين، كما أن التعب والبرد القارس قد أخذ من أجسادنا الشيء الكثير، لنبيت ليلتنا الأخيرة هناك، على ننهي جولة كشف مواقع منطقة المشروع الجنوبي في اليوم التالي لنعود بعدها الى بغداد.

يقع المشروع الجنوبي الى الشمال الغربي من ناحية الضلوعية بمسافة ثمانية كيلومترات تقريباً، وهو صغير نسبياً مقارنةً بالشمالي، وبناءً على الخرائط التي اعتمدناها لأجراء عملية المَسح، فأنه يوجد في منطقة هذا المشروع المُحدودة المساحة والمُمتدة من نهر دجلة وحتى أراضي الناحية شرقاً، خمسة مواقع أثرية كما سبق القول، ثلاثة الى الشرق من قناة الإرواء الرئيسية المستمدة مياهها من نهر دجلة، هي "تل جفجافة" و"تلول أبوحليج" و"تلول شُكر"، وأثنان الى غربها هما "تل أم التمر" و"تل أم العكَرب". ومن الجانب الشرقي للقناة بدأنا تتبع مسار قنواتها لنرى مدى تأثيرها على هذه المواقع.

كانت عملية مَسح هذا القسم من المشروع أكثر يُسراً، حيث أن جداوله وسواقيه الفرعية المُمتدة على جانبي قناته الرئيسية بعيدة كثيراً عن التلول الأثرية، لذلك كانت بمأمن من تأثيراته، والسبب كما تبيّن لنا من خلال اطلاعنا عليها، أنها تقع بالقرب من قرى زراعية مأهولة منتشرة بكثرة في هذه المنطقة، لذلك كان يصعب مَد تلك القنوات من دون أحداث تخريب في عددٍ من هذه القرى. وما يمكن قوله بعجالة بشأن تلك التلول، أنها كانت دائرية أو بيضوية الشكل، وبأحجام متوسطة، تتراوح ارتفاعاتها بين ثلاثة وأربعة أمتار، كما لا تزيد اقطارها عن ثلاثين متراً، ولا يوجد ما يُميّزها عن باقي التلال السابقة في القسم الشمالي، حيث تنتشر على سطوحها هي كذلك المخلفات الأثرية التي تُشير الى الفترات الساسانية والاسلامية، وبعد تسجيل ملاحظاتنا الدقيقة عنها تكون عملية المَسح قد تمَت بالكامل.

يُستنتج من عملية المسح برمتها، وبعد اطلاعنا على طبيعة أنتشار التلال الأثرية على منطقة المشروع بقسميه الشمالي الجنوبي، بأن "تلول البُكَر" و"تل سطيح" بالنظر الى كبرهما وقربهما عن بعض، بالإضافة الى طبيعتهما الطبوغرافية، يُمثلان مركزاً لمستوطن كبير جداً، تتبع اليه العديد من القرى الصغيرة التي يرتكز اقتصادها على الزراعة المُعتمدة في سَقيها بشكل أساسي إضافة الى الأمطار على قناة أروائية عريضة أندرس معظمها، حيث كنا نلاحظ خلال سيرنا بقايا امتدادها الذي ينبع من السد القديم "بند العظيم"، لاسيما أن الملتقطات السطحية تُشير بعائدية هذه المواقع الى الفترة الساسانية أي نفس الفترة التي شُيّد بها هذا السَد. لذلك يمكن اعتبار التلال الأثرية في هذه المناطق أنها كانت تُمثل الحدود الشمالية للدولة الساسانية، ثم أستمرت في الاستيطان في الفترات الاسلامية اللاحقة بعد أفول تلك الدولة، ومن جانب آخر يُمكن القول أيضاً أن القسم الشمالي من مشروع ري "الضلوعية" يُماثل بفكرته الى حدٍ بعيد المشروع الإروائي القديم المُعتمد بمياهه على السد القديم.

وبعد استكمال تقريرنا توجهنا مباشرة الى ناحية "الضلوعية" لإراحة أجسادنا وتناول طعام الغداء هناك، قبل العودة الى بغداد كما كنا قد خططنا. كانت السماء حينا قد زادت من تلبُدها بالغيوم الكثيفة، مُنذرة بأمطار غزيرة قادمة على عُموم المنطقة، لنصل "الظلوعية" مع خواتم وقت الظهيرة. وما يُمكن قوله عن "الضلوعية" أنها أحدى نواحي قضاء "بلد" التابع إدارياً لمحافظة صلاح الدين، تقع على الضفة الشرقية من نهر دجلة، الى الشمال من العاصمة بغداد بحوالي ثمانين كيلومتراً، لذلك تُعّد نقطة وصل بين مدينتي سامراء وبغداد. يبلغ عدد سكانها بحدود ستين الف نسمة، أغلبهم من عشائر "الجبور" و"الخزرج" و"البوجواري" و"البوفراج"، بالإضافة الى عشائر أخرى مثل "الدليم" و"العبيد" و"السوامرة". ويمكن الوصول اليها عن طريق فرعي يَمتد من قضاء "الخالص" ويَمّر بقاعدة "البكر" الجوية، تنتشر على جنباته العديد من القرى المُسميات بأسماء عشائرها، مثل قرية "آل تفاح"، قرية "آل حسين"، "عَرب مجيد الأحمد"، "عَرب حسين الخلف".

أما أسمها فهناك رأي واحد بشأنه لا يُعرف مدى صحته، يَستند الى موقعها المُميز بالنسبة لنهر دجلة الذي يحيطها من ثلاث جهات (الجنوب والشرق والغرب)، لتبدو أرضها كالقلب بين الضلوع، مما جعلها تَتميز بوفرة المياه، لذلك تكون تربتها خصبة على مدار العام وتغدو واحة خضراء كشقيقها "الخالص"، عامرة ببساتين أشجار الحمضيات والنخيل والرمان والخوخ، بالإضافة الى حقول الخضراوات المختلفة، لتُماثل صورتها الروعة نفسها والجمال عينه، تسلب النظر إليها من دون حاجة الى دعاية أو ترويج، حيث أشجار الحمضيات المَحمية بسعف النخيل العالي وقد تدلت أغصانها المُثقلة بالثمار حتى كادت تلامس الأرض، ثم لتزيد جمالية هذا المشهد صور أقفاص الفواكه وهي تُباع طازجة أمام أبواب البساتين للسيارات العابرة، لكن أجمل ما يمكن مشاهدته في هذا المكان، تلك العربات الخشبية البسيطة التي تبيع "الخس" الطري اليانع ذو الأحجام الكبيرة، المتوقفة على جانبي الطريق، والذي يبدو لناظريه شهياً للغاية وبحاجة لمقاومة كبيرة للعزوف عن شرائه، ثم لنغادر هذه الواحة الخضراء من أرض العراق الرائعة متوجهين نحو بغداد الحبيبة التي وصلناها عند المساء مع حُلكة الظلام ورَجفات برد المساء.

في اليوم التالي قدّمنا تقريرنا المفصل والموّثق الى إدارة المؤسسة الآثارية، حيث صُعق الجميع من هول الخراب الحاصل في "تل سطيح"، والذي يُتوقع أن يَطال بقية المواقع الأخرى الواقعة على خط سير قنوات المشروع الشمالي. على اثرها تم مباشرة مفاتحة ديوان الرئاسة بشكل مُستعجل عن طريق وزارة الثقافة بشأن الموضوع، ولم يتأخر الرَد كثيراً حيث صَدر أمراً رئاسياً استثنائياً يقضي بإيقاف العمل في المشروع، لحين إجراء مُخططات جديدة لمَسار القنوات المائية، بما لا يؤثر على المواقع الأثرية هناك، وبالفعل فقد قَدَم بعد بضعة أيام وفد فني من الشركة المُنفذة للمشروع الى مؤسسة الآثار لإجراء تلك المُخططات، على أن يتم بعدها استكمال العمل هناك وفق المَسارات الجديدة.

على اثرها تَم تشكيل لجنة مشتركة بين الشركة المنفذة "شركة المحاصيل الصناعية" ومفتشية آثار صلاح الدين لغرض تحديد مَسارات جديدة للقنوات المائية بحيث تبتعد بمسافات كافية عن المواقع الأثرية الموجودة هناك. كانت نشوّة وفرحة فريق المسح الآثاري بالغتين وكذلك الحال مع باقي منتسبي المؤسسة الآثارية، فقد كان ذلك يُعدّ انتصاراً مَعنوياً كبيراً للمؤسسة، حيث يُعتبر ذلك أشبه بمُعجزة خلال تلك الفترة المُظلمة من تاريخ العراق السياسي الحديث، بتمكننا من انقاذ تلك المواقع الأثرية من الخراب والدمار رغم الظروف الصعبة السائدة آنذاك.



مصادر القسمين الأول والثاني:
1- حامد خيري الحيدر ... حين تحكي الرمال / من ذكريات منقب آثار ... مالمو/ السويد 2020
2- خضير عباس العزاوي ... هذا هو لواء ديالى ... بغداد 1969
3- روبرت ماك آدمز ... أطراف بغداد، تاريخ الاستيطان في سهول ديالى ... ترجمة / صالح أحمد العلي، علي محمد المَيّاح، عامر سليمان ... بغداد 1984
4- طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / الجزء الأول ... بغداد 1973
5- طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الآثار والحضارة / الرحلة الرابعة ... بغداد 1965
6- عبد الرزاق الحسني ... العراق قديماُ وحديثاً ... صيدا 1958
7- مديرية الآثار العامة ... المواقع الأثرية في العراق ... بغداد 1970
8- مديرية الآثار العامة ... أطلس المواقع الأثرية في العراق ... بغداد 1976



* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter