| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الثلاثاء 13 / 8 / 2024 د. عبدالحسين شعبان كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي
د. عبد الحسين شعبان (*)
(موقع الناس)تنفرد جريدة "الوطن الجديد" بنشر المقدّمة الجديدة لكتاب المفكّر العراقي الكبير د. عبد الحسين شعبان، الموسوم "فقه التسامح في الفكر العربي - الإسلامي: الثقافة والدولة"، الذي أعادت نشره مؤخرًا (2024) دار النهار العريقة في بيروت، حيث كانت طبعته الأولى صدرت في العام 2005، وذلك لأن العام المقبل يُصادف مرور عقدين من الزمن على صدوره، ويصادف أيضًا مرور ثلاثة عقود على صدور إعلان التسامح من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو".
وقد لقي الكتاب في طبعته الأولى اهتمامًا كبيرًا، فتمّت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية من قبل المترجم الأمريكي المختص بالشرق الأوسط Ted Thornton، وكذلك ترجم إلى اللغة الكردية، والذي قام بترجمته المترجم المعروف عبد الرزاق علي (دار آراس - أربيل)، كما صدرت طبعة أخرى عربية في حينها عن الدار نفسها.
وخلال تلكم السنوات نُظّمت عنه مجموعة ندوات، وكُتبت عنه دراسات وأبحاث عديدة، وخصّص كمرجع مقرّر في بعض الجامعات، وألقى د. شعبان عن ثقافة التسامح وفلسفته والتربية عليه، عددًا من المحاضرات في جامعات عراقية وعربية وأجنبية عديدة، ومنها جامعة اللّاعنف في بيروت، التي تخصّص له سنويًا فصلًا دراسيًا يتعلّق بثقافة التسامح واللّاعنف والسلام.
إننا إذْ ننشر المقدّمة الجديدة التي هي إضافة مهمّة إلى الكتاب، والتي عنوانها "التسامح: حصاد الفصول"، وذلك لازدياد الحديث عن التسامح ونقيضه اللّاتسامح في مجتمعاتنا، بفعل التعصّب ووليده التطرّف، وكان من نتاجهما استفحال العنف والإرهاب.
ويسلّط الدكتور شعبان الضوء على أن التسامح لم يحظَ في بلادنا بالاهتمام الذي يستحقّه من جانب النخب الفكرية والسياسية والثقافية، ويستعرض ما تناوله المفكرين الغربيين من لوك إلى فولتير، ويعتبره فريضة غائبة، لم يكن بإمكان أوروبا تحقيق نهضتها دونه، ويربط ذلك بجذور التسامح في التاريخ العربي - الإسلامي من حلف الفضول إلى دستور المدينة وصلح الحديبة والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة إلى السيرة المحمدية المعطرة وسيرة الخلفاء الراشدين، تلك التي يناقشها بإسهاب في متن الكتاب.
ويتوقّف عن سؤال يسمّيه مفتاحي: لماذا نحتاج إلى التسامح؟ وماذا عسانا أن نفعل لكي نتجاوز الخلفيات الفكرية لتنظيم داعش الإرهابي وما سواه من جهات وجماعات تعتبر العنف وسيلة لفرض الرأي؟ ويعرض الأستاذ شعبان ويحلّل القرارات الدولية بخصوص الإرهاب الدولي، وشعاره الأساسي "الإنسان هو الأصل" على حدّ تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.
الجدير بالذكر أن لوحة الغلاف هي للطبيب الفنان علاء بشير، وهي بعنوان "تاريخ تكتبه المفاتيح".
"الوطن الجديد" إذْ تنشر المقدمة الجديدة، تنشر معها تمهيد المطران جورج خضر، مطران جبيل والبترون وما يليها (جبل لبنان) للروم الأرثوذكس، مساهمة منها في نشر ثقافة التسامح، واعتزازًا بجهد المفكّر العراقي الكبير الذي يستحقّ التقدير، وذلك تعميمًا للفائدة وإيمانًا منها بالقيم الإنسانية بهدف تعميق الوعي، خصوصًا لدى جيل الشباب.
الوطن الجديدالتسامح: حصاد الفصول
(الحلقة الرابعة)
IV
للأسف فإن الحديث عن التسامح ما يزال في بلداننا مبعث ارتياب لدى الكثير من النخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية بوجه عام، وتعود أسباب ذلك إلى الاستقطابات السياسية الحادة وأبعادها الإقليمية والدولية، وإسقاطاتها الحالية على الواقع، إضافة إلى أن جزءًا منها يتعلق بالفهم القاصر والمحدود لمعنى التسامح ومبناه، ناهيك عن توظيفاته الإغراضية في الكثير من الأحيان (1).
وقياساً على الدراسات والكتابات التي عرفها الغرب (2) عن التسامح والمعالجات التي أعقبت الاحترابات والنزاعات الدينية والطائفية، التي عاشتها أوروبا لدرجة النزيف البشري، المادي والمعنوي، تم التوصل بالتدرّيج وبعد معاناة، إلى أن يصبح التسامح حالة قانونية بعد أن كان حالة دينية ومن ثم حالة ثقافية، مقرونة ببعد أخلاقي وسياسي، في حين أننا ما زلنا حديثي عهد، بخصوص تقبّل التسامح في ظلّ استشراء التعصّب وتفشّي التطرّف وانتشار الغلو، ناهيك عن الالتباس الذي تسبّبه الدعوة للتسامح، خصوصًا وأن البعض يربطها بالصراع العربي – "ألإسرائيلي"، الذي هو موضوع آخر تمامًا، لأنه يتعلّق بالوجود والأرض والحقوق.
وتفصلنا عن فكرة التسامح "الأوروبية" أكثر من ثلاثة قرون من الزمن، إذا اعتبرنا رسالة جون لوك حول التسامح تاريخاً لنشر الفكرة، لاسيّما في ظل انقطاع العرب والمسلمين عن تراثهم، الذي عَرف نماذجًا زاهرةً من التسامح، مثلما عَرف تاريخاً دامياً من اللّاتسامح، كما هو الغرب أيضاً في إطار السياق التاريخي لجميع المجتمعات.(3)
V
إذا أردنا الحديث عن فكرة التسامح بمعناها المعاصر، فلم تعد واجباً أخلاقياً وسلوكياً أو مبادئ ودعوات دينية أو سياسية فحسب، بقدر ما هي واجب قانوني لإقرار التعايش والتعددية والتنوّع وحق الاختلاف والدعوة للمشترك الإنساني، فلا بدّ من بحثها في إطار التطور الدولي، وخصوصاً في المباحثات التي سبقت وهيّأت لقيام الأمم المتحدة، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، الأمر الذي يستوجب الحديث عن الفكرة وفهم حيثياتها القانونية وخلفياتها الفكرية ومرجعياتها النظرية، إضافة إلى تطبيقاتها الفعلية.
وبعد صدور ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو 26 حزيران (يونيو) العام 1945 ومن ثم صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948، بدأت ثقافة التسامح تنتشر شيئاً فشيئاً ويتعزز رصيدها، خصوصاً بتأثير الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح نحو 60 مليون إنسان، وألحقت خسائر مادية ومعنوية بعموم سكان الأرض، وصولاً إلى صدور إعلان اليونسكو بشأن التسامح العام 1995، حيث أخذت بعض الدراسات والأنشطة المحدودة تجد طريقها إلى العالم العربي، لاسيّما في العقود الثلاثة المنصرمة، لكن تأثيراتها سواءً على الصعيد الفكري أم الثقافي، كانت مقتصرة على نخب قليلة ومحدودة، ناهيك عن ضعف مفاعيلها على الصعيد الاجتماعي والديني، بحكم ضعف البيئة القانونية والتربوية والتعليمية، سواءً على صعيد الدولة أم المجتمع أم الفرد.
ومع ذلك فإن هناك أكثر من فهم لفكرة التسامح، ومثل هذا الفهم المتناقض يؤدي إلى نتائج متعارضة بالطبع. فالفهم النيتشوي (4) الذي لا يزال سائداً يعتبر " التسامح إهانة للآخر"، علمًا بأن استمرار حالة اللّاتسامح يخلق مثل هذا الانطباع، وقد لمّح إلى ذلك البابا بنيديكتوس السادس عشر في خطابيه في لبنان، في القصر الجمهوري وفي الإرشاد الرسولي، حين عبّر عن تخوّفه من أن يؤدي التسامح إلى التطرّف والإساءة للآخر، في حين أن المطلوب هو الاعتراف بالآخر وبالمساواة والمواطنة، وفعلياً للانتقال لما بعد التسامح (5).
وكان الشاعر الكبير أدونيس قد عبّر عن فهم مقارب لفكرة التسامح في أكثر من مناسبة بإعلان تحفظه إزاءها، وقد أبدى ملاحظة على فكرة التسامح التي أوردتها في بحثي، الذي قدّمته في دبي عند افتتاح مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بعنوان: التنوّع الثقافي في المجتمعات العربية (2007)، ومثل هذا الفهم لا يزال قوياً لدى العديد من النخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية، بعيداً عن الفهم المعاصر لفكرة التسامح، لاسيّما تلك التي وردت في إعلان التسامح الصادر عن اليونسكو.(6)
الهوامش:
(1) انظر: الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت والموسومة " في الحاجة إلى التسامح"، في 28 شباط (فبراير) 2013 وشارك فيها بأوراق عمل بحثية كل من : د. علي أومليل ود. رضوان السيد وكاتب السطور.
(2) نشير إلى بعض الدراسات التي صدرت بخصوص التسامح خلال السنوات الأخيرة فقط:D. A. Carson, The Intolerance of Tolerance (Grand Rapids, MI: William B. Eerdmans Pub, 2012) .
Matthew McKay, Jeffrey C. Wood and Jeffrey Brantley, The Dialectical Behavior Therapy Skills Workbook: Practical DBT Exercises for Learning Mindfulness, Interpersonal Effectiveness, Emotion Regulation and Distress Tolerance (Oakland, CA: New Harbinger Publications, 2007).
Jordan Postlewait , Tolerance, illustrated by Walker Gable ( Monroe, lowa: Mirror Publishing, 2009(;
Josh McDowell and Bob Hostetler, The New Tolerance: How a Cultural Movement Threatens to Destroy You, Your Faith, and your Children (Wheaton, IL: Tyndale House, 1998);
Lynne Truss, Eats, Shoots and Leaves: The Zero Toleration Approach to Punctuation ( New York: Gotham Books, 2006);
James D. Meadows, Tolerance Stack-up Analysis (Hendersonville,TN: James D. Meadows, 2010); Chris Mars, Tolerance: The Art of Chris Mars (San Francisco, CA: Last Gasp, 2008);
Brad Stetson and Joseph G. Gonti The Truth About Tolerance: Pluralism, Diversity and the Culture Wars, (Downers Grove, IL: Inter Varsity Press, 2005);
Wendy Brown, Regulating Aversion: Tolerance in the Age of Identity and Empire (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2008);
Joseph Cardinal Ratzinger (Benedict XVI), Truth and Tolerance: Christian Belief and World Religions, translated by Henry Taylor (San Francisco, CA: Ignatius Press, 2004) and Scott Lobdell (et al.) X-Men: Operation Zero Tolerance (New York: Marvel, 2012).(3) يمكن الوقوف، بما يخص جذور التسامح في التاريخ العربي – الإسلامي، عند حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبة والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة إلى السيرة المحمدية وسيرة الخلفاء الراشدين. وتلك النماذج ناقشها الباحث في متن هذا الكتاب.
(4) فريدريك نيتشة (1844 – 1900)، هو فيلسوف وناقد وشاعر ومؤرّخ لغوي ألماني، انشغل بفلسفة الجمال وعلم الأخلاق والنفس والحداثة، وقدّم آراءً جديدةً حول تشكّل الوعي والضمير والموت. ومن كتبه المشهورة "هكذا تكلّم زرادشت"، و "ما وراء الخير والشر"، و "هو ذا الإنسان"، وقد أعلى من النزعة الفردية، واعتبر وجود المجتمع هو الذي يخدم الأفراد المتميزين، وكان قد تأثّر بالفيلسوف شوبنهاور والموسيقي فاغنر. ومن أقواله التي أرددها مع نفسي "دائمًا يوجد في بعض الجنون حب، ولكن دائمًا يوجد بعض المنطق في الجنون"، و"القناعات الراسخة أكثر خطورة على الحقيقة من الأكاذيب" و"الجمال لا يتسلّل إلّا همسًا للأرواح اليقظة" و"نحن نحب الحياة لا لأننا تعوّدنا عليها، بل لأننا تعوّدنا على الحب".
(5) انظر كذلك: كلمة البابا بنيديكتوس السادس عشر في بكركي، لقاء الشبيبة ، لبنان ، 15 أيلول (سبتمبر) 2012.
(6) أنظر بحثنا: هل التسامح مصدر غنى أم فتيل أزمات؟ دبي، 28 - 29 تشرين الأول / اكتوبر 2007. الجدير بالذكر أن الفهم النيتشوي لفكرة التسامح يقوم على أن ثمة هناك أعلى وأدنى وأن التسامح هو من أخلاق الضعفاء، فالضعيف يسامح لا لأنه يمتلك خلقًا رفيعًا لكن لأنه ضعيف ولا يستطيع الانتقام ويفضّل السلم لا حبًا به، بل لأنه لا يقوى على الحرب.
نشرت في جريدة الوطن الجديد في 12 آب / أغسطس 2024.
* أكاديمي ومفكر عربي من العراق