| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأحد 17 / 12 / 2023 علي المسعود كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
فيلم "الزمن المتبقي "
سيرة ذاتية تؤرخ المقاومة الفلسطينية ضد الأحتلال الصهيوني
علي المسعود (*)
(موقع الناس)
فيلم "الزمن المتبقي" من تأليف وإخراج إيليا سليمان وإنتاج فرنسي فلسطيني ، حصل الفيلم على عدة جوائز كجائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم روائي شرق أوسطي في مهرجان أبوظبي السينمائي، وشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في عام 2009 .
يوثق المخرج الفلسطيني ذاكرة سينمائية لسكان فلسطين الذين صمدوا في وجه الاحتلال وهم من عرفوا بعرب 48 . الفيلم عبارة عن سيرة ذاتية يروي من خلالها تاريخ مقاومة بلده ضد الاحتلال الاسرائيلي وطريقة تعايش ابنائه مع المحتل المفروض عليهم.يبدأ إيليا سليمان "الوقت المتبقي" بساتق سيارة التاكسي (ميناشي نوي) الذي يلتقط راكبا في سيارة الأجرة الخاصة به من المطار في تل أبيب ، راكب سيارة أجرة يبدو في صورة ظلية مظلمةغير واضحة في المقعد الخلفي. يشعر السائق وهو إسرائيلي بأنه في غير مكانه في أرض لا يعترف بها؛ يشعر راكبه وهو فلسطيني مهاجر، ويبدو صامت لم نسمه صوته. تتوقف السيارة بسبب الجو العاصف . يعود بنا المخرج في قصته إلى 16 يوليو 1948 مع استسلام بلدة الناصرة للجيش الأحتلال الإسرائيلي الذي يبدأ أهلها في مقاومة المحتل أو تهجيرهم منها . بالنسبة لفؤاد سليمان (صالح بكري) يختار طريق مقاومة المحتل . يجلس فؤاد ومجموعة من الرجال، جميعهم يرتدون قمصانا بيضاء هشة بأكمام ملفوفة وبنطلون داكن، في مقهى في الهواء الطلق مع طاولات بيضاء وجدران وأرضيات حجرية مطلية باللون الأبيض. البنادق معلقة على أكتافهم . إنه صيف عام 1948 زمن النكبة، أو النزوح الفلسطيني (والنفي القسري)، ذلك الحدث العنيد في التاريخ الفلسطيني الذي تم تصويره بعد أكثر من ستين عاما، من قبل صانعي الأفلام "إيليا سليمان ". في مشهد له أكثر من دلالة حين يظهر جنديّ عراقيّ من المشاركين في الحرب يمشي في الناصرة، بعد أن ضلّ طريقه، يمرّ على ثلاثة شبّان فلسطينيّين من بينهم فؤاد الّذي يمثّل البطل، جالسين باسترخاء وهدوء في مقهى، يمر الجنديّ حاملا سلاحه لا يعرف إلى أين يتّجه، يسأله الجالسين في المقهى : " وين رايح ؟ ، ويرد عليهم :"أنا من جيش الانقاذ وجيت أحرر طبريا "، يشير اليه فؤاد سليمان ( والد أيليا) طبريا من هناك ، قال له الجالسون في المقهى بنبرة جدّيّة، قاصدين منها المفارقة الساخرة: "تْغَلِّبِشْ حالَكْ، تْحَرَّرَتْ "، وحين يسأله فؤاد "من وين الأخ ؟ "، يرد الجندي أنا من العراق ، يرحبوا به ويدعوه للجلوس معهم . هذه المشهد اشارة ذكية من المخرج أيليا سليمان الى المشاركة العربية في حرب فلسطين التي اتسمت بالحماسة والشجاعة ولكنها إفتقرت الى التخطيط
يستمر الفيلم في تقديم أربع حالات أخرى، تنتهي كل منها باضطراب مماثل في الزمان والمكان. يحدث أولها في عام 1948، عندما تحتل عصابات الهاغانا- التي ستصبح جوهر الجيش الإسرائيلي - الناصرة. أجبرت صديقة فؤاد سليمان على الفرار من فلسطين، بينما يبقى فؤاد يناضل ضد الاحتلال ، فؤاد هو عامل في ورشة خراطة، يطوع المخرطة في ورشته لعمل بنادق للرجال المقاومة ضد العدو الاسرائيلي الغاصب قبل اعتقاله وتعذيبه . يتم القبض على فؤاد بوحشية عند تقييده وتعصيب عينيه ورميه في العراء مع سجناء آخرين على أحد التلال ، يبدأ الفيلم بفلاش باك مقسم إلى أربعة أجزاء، تدور أحداثها بشكل أساسي في الناصرة و مستوحاة من ذكريات المخرج وكذلك ذكريات والده، ومن خلال وصف حياة الأفراد، ومن خلال نشر مجموعة واسعة من الأحاسيس حول أفعالهم اليومية التي يستحضرونها تاريخ فلسطين والعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية. الجزء الأول يحدث في عام 1948 ويحكي قصة أعمال المقاومة لوالد إيليا (فؤاد سليمان) . يقدم المخرج (أيليا سليمان) سيرة ذاتية عن حياة والده (فؤاد سليمان) ، بعد أن فرض الجيش الإسرائيلي حظر تجول، يجب على والده فؤاد وهو صانع أسلحة، البقاء في الداخل لتجنب إطلاق النار عليه. عندما يخرج هو وابن عمه لمساعدة مدني جريح من رصاص المحتل يأسره الجيش الصهيوني، ويربط يديه، ويربط عصابة معصوبة العينين حول رأسه، ويحاول إكراهه على الحصول على معلومات منه حول إمدادات الأسلحة المحلية (يسمحون لابن عمه بالرحيل). عندما يرفض التحدث يضربونه، ويتركونه بين الحياة والموت .
ثم يتناول وفاة عبد الناصر ، لم تكن التواريخ التاريخية أو المراحل المهمة في تاريخ البلاد هي التي أملت بناء الفيلم. يستدعي سليمان التاريخ عبر تاريخ الأفراد، وخيط فيلمه الرئيسي هو ماضيه: مقاومة والده، ثم طفولته، ومراهقته، وعودته إلى الناصرة، اليوم، حيث يرصد وضعا عبثيا وفوضويا . في المرحلة الاولى من السيرة الذاتية للغائب الحاضر يكشف المخرج ممارسات الاحتلال الأسرائيلي لأشد أنواع الرقابة الأمنية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة خلال فترة الحكم العسكري، والتي يمكن إرجاع بداياتها الحقيقية إلى وقت احتلال الناصرة وقراها عام 1948. في الأعتقالات وتغيب الهوية الفلسطينية ، الى حد وصلت الرّقابة التي مارسها الجهاز العسكري في تقييد حركة الفلسطينيين وتنقلهم بتصاريح يصدرها الحاكم العسكري للمرضيّ عنهم، والتدخل في المسائل الشخصية كالزواج والطلاق، وتوظيف كل السبل الممكنة للهيمنة على نظام التعليم .
يبني سليمان الفيلم حول عائلة واحدة من الناصرة وهم يناضلون من أجل العيش في إسرائيل بعد الحرب الإسرائيلية العربية عام 1948 وسط ظروف قاسية . يتزامن كل قسم من الأقسام الثلاثة الأولى من الفيلم مع حدث تاريخي: الأول يحدث تماما كما تستسلم الناصرة للقوات الإسرائيلية بالقرب من نهاية الحرب؛ والثاني في خريف عام 1970، حول وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر؛ والثالث في مارس من عام 1980، خلال الذكرى السنوية الرابعة ليوم الأرض، ويوم الأرض الفلسطيني هو يوم يُحييه الفلسطينيون في 30 آذار من كلِ سنة، وتَعود أحداثه لآذار 1976 بعد أن قامت السّلطات الصهيونية بمصادرة آلاف امن الأراضي في المناطق ذات أغلبيّة سكانيّة فلسطينيّة، وقد عم اضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب وأندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط شهداء فلسطينيين وأُصيب واعتقل المئات. ويعتبر يوم الأرض حدثاً محورياً في الصراع على الأرض ، وهو احتجاج واسع النطاق على سياسة الإسرائيلية التي يتم الاحتفال بها حتى يومنا هذا .
هذا الحكاية شبه السيرة الذاتية لإيليا سليمان هو بديل شخصي للغاية وحميم ومنعش لمحنة الفلسطينيين تحت الاحتلال. مستوحاة من مذكرات والده التي توثق دوره كمقاتل مقاومة في عام 1948 والرسائل التي كتبتها والدته . في حين أن جيل فؤاد مقيد من حيث تحركاتهم، يتعرض جيل ابنه إيليا للتلقين، وأجبر على ترديد الأغاني الصهيونية في المدرسة. ويقدم المخرج مسؤولا إسرائيليا يحظى بالترحيب والاحترام عند زيارته للمدرسة التي يتعلم فيها الفلسطينيون النشيد الوطني الاسرائيلي، ولا ينسى أن يلقي خطابا يشيد فيه بديمقراطية اسرائيل واحترامها لحقوق الأقلية العربية فيها ، ظهور في مشهد احتفال مدرسة إيليا الطفل، باليوم الذي أقرته دولة الاحتلال «يوم استقلال إسرائيل»، بحضور وفد سياسي إسرائيلي. اليوم الذي أُجبِرَت المدارس العربية على الاحتفال به خلال فترة الحكم العسكري. بأجساد مصطفّة بانضباط عالٍ، مرتبة حسب الطول. وفي مشهدٍ يطغى عليه اللونان الأبيض والأزرق تنشد فتيات المدرسة. من المشاهد المميزة في الجزء، مشهد لمدير المدرسة وهو يؤنُب الطفل أيليا في ساحة المدرسة لانه اطلق على امريكا صفة الاستعمارية ، اختيرت هذه اللقطة لتكون صورة ملصق الفيلم الدعائي، في الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي . وينتقل الفيلم إلى مرحلة أخرى يكبر فيها التلاميذ، ويبدأون مواجهة قوات الجيش والشرطة ويرفعون الأعلام الفلسطينية ويختار المخرج مناسبة (يوم الارض) الذي تعود أحداثه إلى الثلاثين من آذار (مارس) العام 1976 عندما اندلعت مظاهرات الاحتجاج على مصادرة أراض تعود ملكيتها للفلسطينيين في منطقة الجليل، سقط فيها عدد من الضحايا بين شهيد وجريح. ويعمل الفلسطينيون على إحياء هذه الذكرى كل عام .
في القسم التالي من الفيلم، الذي تم تعيينه في عام 1970 تزوج فؤاد من أمرأة أحبها ، وهما يعملان على تربية ابنها (دانيال) ، الذي نراه في المدرسة طفل صغير ، وفي مشهد مع المدير وتأديبه له لوصفه لأمريكا [(الإمبريالية). في النهار نشاهد العائلة تجلس حول طاولة المطبخ، ويرفع جميع الأعضاء الثلاثة أكواب الشاي في وقت واحد . بعد ذلك قبض على فؤاد سليمان مرة أخرى في نفس العام بعد أن أصبح زوجا وأباً وخط الشيب على شعره عمرا. يتميز كل من هذا القسم والقسم اللاحق، الذي تم تعيينه في عام 1980، بشخصيات ثورية تحمل البنادق وتمزق الأعلام الإسرائيلية وتنظم المظاهرات الاحتجاجية على ممارسات جيش الاحتلال الصهيوني ، وبعد الاعتقال الاخير تم إطلاق سراحه أخيرا . يهدد جارهم القديم باستمرار بإشعال النار في نفسه. يصرخ خلال محاولته الأخيرة "اللعنة على هذه الحياة!" ودائما يتدخل فؤاد ويحاول تهدئته، يمارس فؤاد هوايته لصيد في البحر وفي وقت الليل مع رفيقه ، ولازال مستمرا في تزويد المقاومة بالسلاح الذي يقوم بتصنيعه بنفسه ، ويخاطر بحياته من أجل الجرحى . وبسبب نشاطه تعتقله سلطات الأحتلال من وقت لآخر. وفي السنوات اللاحقة بصفته والدا للمراهق إيليا ، أصبح للأسف شخصية منزوية وصامت رجل أتعبته سنوات السجن و المطاردة . ولأنه مستمراً في التدخين وبشراهة ، يصاب بأزمة قلبية يؤدي إلى جراحة القلب المفتوح مع المزيد من المضاعفات. والأبن ايليا أصبح الآن شاباً، ينقل والده من المستشفى ويتوقفان عند الصيدلية. بينما ينتظر جلب الوصفة الطبية، يستدير الأبن (إيليا) نحو السيارة حيث يجلس والده ويشاهد فؤاد برأسه يتدلى على صدره ، وعندما يصل الى السيارة بجد أباه المناضل (فؤاد سليمان) قد فارق الحياة بهدوء، في نقس الوقت ، صوت المطربة أسمهان يصدح (قلبي دليلي) من مسجل السيارة . وتعكس عيون الابن اعترافا مخيفا بهشاشة بعد رحيل والده . بحلول عام 1980 حولت السلطات انتباهها إلى إيليا، وهو مدخن ومفكر حر مثل والده، الذي يقرر الهجرة من البلاد لإنقاذ جلده .
في الجزء الأخير، الذي يعود الأبن أيليا الى بيته في منتصف العمر إلى الناصرة في طفولته لرعاية والدته الأرملة المسنة ، التي لعبت دورها "سمر قدحة تانوس" ، وللاحتفال بعيد الميلاد مع والدته المريضة وتسليتها الوحيدة في الحياة هي (غزوات) منتصف الليل على الثلاجة لتناول بعض الآيس كريم. في أحد المشاهد المحببة، يعود إيليا ، الذي يلعب دوره المخرج نفسه شخصة أنيقة بدلة سوداء مع وشاح و شخصية هادئة على الرغم من صمته التام ، ولاينطق بكلمة واحدة طوال الفيلم .
ويجسد المخرج ايليا سليمان شخصيته الحقيقية في المرحلة الزمنية الرابعة من سيرة العائلة، واللافت أن الشخصيات الثلاث التي ظهرت، وهي والده وشخصيته وهو شاب والشخصية التي ظهرت أخيرا تكاد تكون متطابقة في الأداء . وقال سليمان بعد عرض فيلمه على مسرح وسينماتك القصبة في رام الله، بعد مشاركة الفيلم في مهرجان كان السينمائي الأخير "لقد احتاج هذه العمل لسنوات كانت البداية منذ العام 2005، وأقدم فيه عرضا لمراحل من حياتنا منذ العام 1948 ... إنه سيرة ذاتية عشتها واستمعت إلى حكاياتها من أمي وأبي، وأخرى بحثت عنها " .
مشاهد مؤثرة من الفيلم
قصة الفيلم تمتد ستين عاما في حياة عائلة فلسطينية، وتعتمد إلى حد كبير على المخرج نفسه. حيث قدمنا إلى الأب فؤاد، وهي شخصية مستمدة من مذكرات والد المخرج ولعبها الممثل (صالح بكري) بشكل رائع. هناك الكثير من المشاهدة المؤثرة في الفيلم التي تحمل دلالات كبيرة رغم مسحة الكوميديا ولكنها من النوع السوداء ، بمرارة فقدان وطن جميل وتهجير شعب طيب وأصيل . من المشهد المبكر لرئيس بلدية الناصرة وأعيانها الذين وقعوا على وثيقة استسلام التي قدمتها القوات الصهيونية التي احتلت المدينة ، إلى أطفال المدارس الفلسطينيين في الناصرة الذين يلوحون بالأعلام الإسرائيلية الصغيرة ويغنون الأغاني الصهيونية كما أشاد بها مسؤول إسرائيلي غاصب.
وفي مشهد أمام المقهى الّذي يجلس فيه الشبّان الثلاثة الّذين يتكرّر ظهورهم في الفيلم، نشاهد بائع الصحف يردّد "جريدة الوْطَنْ بْشيكِلْ وجريدة كُلِّ الْعَرَبْ بِبْلاشْ". أحدهم يطلب شراء جريدة الوطن ، يرد البائع يقول له: " ما بقى فيه وطن... لكن كُلِّ الْعَرَبْ بْبَلاشْ!"، ويعطيهم (كل العرب) مجاني ، في تعبير ساخر عن واقع حال العرب !! . تثير تفاصيل الفترة الدقيقة والتصوير السينمائي الجميل في كل مشهد الحنين إلى الماضي و يبعث الأسى والحزن على سلب وطن أمام أنظار العالم الذي بات متفرجا أن لم يكن مشاركاً في تلك النكبة .
وفي مشهد اقتياد المعتقلين وتجميعهم في مكان قبل قتلهم، وفي هذا المشهد يلقي احد المعتقلين قصيدة للشاعر محمود عبد الرحيم والتي منها (فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى) قبل أن يصوب هو رصاصة إلى رأسه . يصوغ المخرج السيرة الذاتية بسلاسة المأساة بروح الدعابة المرّة ، يتم نقل فؤاد إلى حقل مليء بالرجال الركوع ومعصوبي العينين حيث يتم تجريده بفظاظة من سترة بدلته. يكافح الجندي الأسرائيلي للوصول الى رأس فواد لتغطية عيونه فؤاد لا يستطيع الوصول ، يجد حجراً في مكان قريب ويضعه خلف فؤاد ويتسلق عليه ويغطي عينيه بقطعة قماش قذرة، أمام منظر الناصرة، في هدوء يتنفس الهواء النقي ويستمع إلى حفيف الأوراق . إنها لحظة صغيرة والكوميديا الخفيفة التي ت تضيف لمسة من الكوميديا كي يخفف على المشاهد ثقل الاحداث ومرارتها .
أحد مشاهد الفيلم التي تبقى الذاكرة ، نشاهد شاباً فلسطينيًا يفتح باب منزله لرمي أكياس القمامة، ويتحدث بلا مبالاة على هاتفه الخلوي عن حفلة، في حين فوهة مدفع دبابة كامنة أمام البيت تتبع كل تحركاته. تتبعه خطوة بخطوة، لا يلقي الرجل لها بالاً، يتخلص من الأكياس في صندوق القمامة ثم يستقبل مكالمة على هاتفه المحمول، فيكملها وهو يسير يمينًا ويسارًا، تستمر الفوهة في الدوران، حتى يعود الرجل إلى بيته، دون أن يلتفت لآلة القتل الإسرائيلية الضخمة ولو لمرة واحدة .
في مشهد أخر، يصرخ جندي إسرائيلي في امرأة تسير مع عربة أطفال في لحظة تبادل لإطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين "للعودة إلى المنزل!" أجابت بتحد، "أذهب أنت إلى المنزل؟ اذهب إلى المنزل!" . في النهاية يقدم المخرج ( أيليا سليمان ) مشهد له رسالة عظيمة وبليغة ، يظهر فيه إيليا وهو يقفز بعصاه من فوق جدار العزل العنصريّ،كأنّه يقول على الفلسطينيين أن يتعلموا رياضة القفز العالي كي يعبروا هذا العازل الذي بناه الاحتلال الاسرائيلي .
فيلم "الوقت المتبقي"، حاول فيه المخرج الفلسطيني " إيليا سليمان " أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي للفلسطينين من خلال السرد للحقائق التاريخية. يوضح سليمان ذلك تماما من خلال تصوير حياة عائلة فلسطينية (عائلته) تعاني من الآثار الكارثية للاحتلال الإسرائيلي وأغتصاب الاراضي الفلسطينية واستقدام المستوطنين الاجانت الغير مرحب بهم من قبل أصحاب الارض . في حديث للمخرج أيليا سليمان بعد عرض فيلمه قال "بعد ستين عاما من الحقيقة، ما زلنا نقول إنهم لم يدمروا فلسطين، ولم يطردوا الناس، ولم يعدموهم، واغتصبوا وذبحوا الفلسطينيين. لا أصدق أنه لا يزال يتعين علينا مناقشة مثل هذه المسألة. إنه واضح في كل سنتيمتر من فلسطين. وبالمثل، فإن ما فعلته الدول العربية في تلك اللحظة، حيث عقد صفقات مع القوى الاستعمارية - بما في ذلك "الكيان الصهيوني"، في هذا الفيلم الّذي يعد السيرة الذاتيّة للمخرج من وقت احتلال الناصرة وحتّى وفاة والدته الّتي بقيت تحنّ وتشتاق إلى زوجها حتّى آخر نفس، والّذي يتكلّم عن عائلةٍ فلسطينيّةٍ أبت الرحيل في حين هاجر الأغلبيّة من سكّان المدينة. وفي آخره ، يهدي المخرج الفيلم إلى والديه : " إلى ذكرى أمّي وأبي " .
في الختام :
المخرج " إيليا سليمان" ولد في مدينة الناصرة الإسرائيلية في عام 1960 ويعيش حاليا في باريس، لديه عين رائعة للصراعات والتناقضات التي تلطخ مدينته الأصلية . فيلم"الوقت المتبقي" او سيرة الحاضر الغائب هو نظرة على محنة فلسطين منذ احتلال العصابات الصهيونية لأرض فلسطين في عام 1948. ومن خلال جمالياته، يوثق جانب من نضال شعبنا الفلسطيني البطل ، ويحقق تعايشا جميلاً بين الحقائق التاريخية والواقع الاجتماعي والسياسي للفلسطينيين المحكوم عليهم بالتمييز بين الأجيال الذي يبدو أنه يصبح أكثر حدة على مر السنين. هذا الفيلم يجمع ما بين التاريخ والسياسة والفلسفة وأيضاً السيرة الذاتيّة، ما يجعله واقعيّاً، ومثيراً للإهتمام والإعجاب أيضاً. يوضح المخرج (سليمان) ذلك تماما من خلال تصوير حلقات عائلة فلسطينية (عائلته) تعاني من الآثار المطولة للحرب وكراهية لمستوطنين الأجانب ، بنظرة شبه سيرة ذاتية. تبدأ في عام 1948، خلال أول الحروب العربية الإسرائيلية، دارت عقب إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وإعلان قيام إسرائيل، منتصف مايو/أيار 1948، وانتهت بهزيمة العرب، فأطلقوا عليها حرب "النكبة" . يحاول الشاب الثائر (فؤاد سليمان ) مواجهة الإسرائيليين ، ولكن يتم القبض عليه وإجباره على المنفى. بعد سنوات، يعيش فؤاد مع ابنه إيليا وزوجته في مناخ من التوتر السياسي، ويحيط نفسه بشخصيات متنوعة في حي عربي، يفكر في جميع الأوقات في حرية عائلته. يتحاور مع قضايا مثل الوحدة وخيبة الأمل والأمل للأقلية الفلسطينية التي تبقى في أرضها في انتظار غد أفضل . إنه يقدم نصف قرن من المأساة والاضطراب كسلسلة من القصص القصيرة التي تغلفها الهزلية والسخرية. تخيل قصيدة توثق ملاحم البطولة للشعب الفلسطيني العظيم وتتلخص في مجموعة من المشاهد والحوارات . ويقدم الفيلم صورة معقدة لحياة الفلسطينيين الذي بقوا في اسرائيل ليصبحوا أقلية فيها يتعلم أطفالهم النشيد الوطني الاسرائيلي باللغة العبرية، ويرفعون علمها ويعمل مدير مدرسة على تأنيب تلميذ لأنه يقول "إن أميركا دولة امبريالية " . ما يقدمه الفيلم من ضياع الشخصية وفقدان الهوية عاشه المخرج الفلسطيني (ايليا سليمان ) عندما كان طالبا وقف هذه الوقفة (ترديد النشيد الوطني الاسرائيلي) في المدرسة بالأكراه .
(*) كاتب عراقي \ مقيم في المملكة المتحدة