د. عامر صالح
الأحد 8/11/ 2009
الأبعاد التربوية والنفسية للفساد الإداري والمالي في العراق
د.عامر صالح
" يِجٌرن الذيول على المخازي وقد مُلئت من الغش الجيوب "
أبو العلاء المعري
تمتد جذور العدوان والاعتداء والفساد إلى عمق التاريخ والنشأة الأولى للبشرية حسب القصص الواردة إلينا, ولعل في قصة هابيل وقابيل أولاد السيد ادم عليه السلام دلالة في الجذور الأولى لهذا السلوك,والتي مفادها بأن ابنه الأكبر قابيل قد أقدم على قتل أخيه الأصغر هابيل, ويفسر هذا الحادث وهو أول حادث في العنف والتعدي في تاريخ البشرية بان قابيل أقدم على فعله بدافع من الغيرة والحسد لأخيه لما تصوره بما حظي به أخيه من رضى الله عليه.ولعل ذلك يعكس جزء من فهم مفاده التنويه بأن التعدي والعدوان هو ظاهرة متأصلة في الطبيعة الإنسانية،بل اخطر بكثير من نظيره في المملكة الحيوانية من حيث المقدرة والأساليب وتفنن وسائل الفتك والفساد.
وعلى هذا الأساس وقفت كل السنن والشرائع السماوية وغير السماوية ومختلف الحضارات ضد الفساد بمختلف مظاهره, منزلة أقصى العقوبات بحق مرتكبيه.وتشير الكثير من الدراسات إلى أن الأقوام التي استوطنت ارض العراق(حضارة وادي الرافدين) وهي من أولى الحضارات في العالم قد عرفت ظاهرة الفساد,لذلك نرى إشارة إلى جرائم الظاهرة في القوانين التي عرفتها ( أوروك ) و ( أور نمو ) في الألواح السومرية ومحاضر جلسات مجلس ( أرك ),حسب أراء (السير كريمر).كما إن الوثائق التي عثر عليها وتعود بتأريخها إلى الإلف الثالث قبل الميلاد تبين أن "المحكمة الملكية" آنذاك كانت تنظر في قضايا الفساد مثل استغلال النفوذ,استغلال الوظيفة العامة,قبول الرشوة وإنكار العدالة,حتى أن قرارات الحكم كانت تصل إلى حد الإعدام.وكذلك (حمو رابي ) ملك بابل,وصاحب التشريعات المعروفة في التأريخ(شريعة حمو رابي),قد أشار في المادة السادسة من شريعته إلى جريمة الرشوة,مشددا على إحضار المرتشي أمامه ليقاضيه بنفسه ويتولى أمر اجتثاثه.وتباعا كل الحضارات في التأريخ وكل الفلسفات أدانت الفساد وازدرت السلوك الفاسد وحقرت من قيمة المفسد،وعلى أساس ذلك أيضا جاءت الأديان العالمية الثلاث( اليهودية والمسيحية والإسلام) وباقي الأديان لتشدد الخناق على الفساد والمفسد,ولعل غزارة النصوص القرآنية والتي تجاوزت الخمسون آية في التعرض للفساد بمختلف مظاهره شاهدا على ذلك ,وكذلك الأحاديث النبوية, والبعض منها تعرض للفساد في الصميم كالغش والرشوة والسرقة والفساد الاقتصادي والسياسي.
وهنا لا ارغب الخوض في تفصيلات ذات طابع ديني خارج أطار مسحة الموضوع الأساسية, إلا إنني اقتفي اثر بعض النصوص الواردة في موضوعة الفساد الإداري والمالي وذات صلة بظروف العراق,وخاصة عندما يأخذ الفساد مدى واسعا ومتسترا بلباس الدين,ومن هنا فأن للدين موقفه من الفساد الذي لا لبس فيه, ففي مجال السرقة فأن النص شائع التداول وهو الآية( 38) من سورة المائدة:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله "لا يترك مجالا للاجتهاد أو لشرعنة الفساد,وهو واضح من خلال صرامة العقوبة,أما في ميدان استخدام النفوذ والجاه والسلطة في السرقة والإفلات من العقاب فأن النبي محمد(ص) يقول:" إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه,وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.وأيم الله,لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها",والشريف هنا صاحب النفوذ والسلطة,أما بالنسبة للرشوة فأن النبي(ص) يقول: " الراشي والمرتشي في النار ",وكذلك بالنسبة للهدية التي هي بمنزلة الرشوة في ظروف ممارستها فأنه يقول: "من شفع شفاعة لأحد فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من الكبائر",وننتقل إلى الغش والتزوير حيث قول النبي(ص): " من غشنا ليس منا ",أي التبرؤ من انتماء الغشاش والمزور إلى امة المسلمين, وكذلك في سورة الأنفال في الآية (27 ) : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون",والأمانة هنا ما يوكل إلى عهدة المسلم من منصب يشغله بدون وجه حق أو بشهادة مزورة , أو استغلال المنصب لقضايا النصب والاحتيال,إلى جانب المفهوم المباشر للأمانة,أما بالنسبة للفساد الاقتصادي والمالي فنشير إلى نصين على التوالي : الأول لسورة الشعراء, الآيات ( 181ـ 183 ) : " أوفوا الكيل و لا تكونوا من المخسرين. وزنوا بالقسطاط المستقيم. و لا تبخسوا الناس أشيائهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين " , أما النص الثاني فهو من سورة البقرة,الآية (188 ) : " و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون ",وفي كلا النصين إشارات تحذيرية في عدم إفساد المعاملات اليومية والتعامل غير النزيه.
واليوم حيث لم تخلوا دولة في العالم من الفساد باعتباره ظاهرة عالمية, إلا إن المشكلة الأساسية تتمحور حول مدى انتشاره, وهل هو ظاهرة تقصم ظهر النظام السياسي وتدخل طرفا في الضغط على رسم سياساته العامة وبعث عدم ألاستقراره فيه,أم هي ظاهرة هامشية تعيش على أطراف النظام السياسي المعني ,وبالتالي يعتبر أمر محاصرتها واجتثاثها جزء من فاعلية النظام ومقدرته على محاصرة الظواهر المرضية,فهناك فرقا كبيرا بأن تكون الدولة رقم (3) في قائمة الدول التي تمارس الفساد في العالم كالعراق مثلا,وبين دول لم يشار إليها بالفساد ولكنه يطفح لديها على السطح بين ألفين والفينة الأخرى.
وعلى خلفية تـأصل الفساد بهذا القدر أو ذاك في المجتمعات الإنسانية بدون استثناء, فقد عكفت العلوم التربوية والنفسية على دراسة ميكانيزماته الأساسية والبحث في أصول وأسباب سلوك العدوان والتعدي والفساد,وقد حصرته على الأقل في النظريات التالية :
1ـ النظرية البيولوجية الغريزية والتي تفسر الظاهرة على أنها تعبير عن استعداد مقرر بيولوجيا في الطبيعة الإنسانية.
2ـ نظرية الدوافع والتي تفسر الظاهرة على أنها ناجمة عن أثارات خارجية في المحيط.
3ـ النظرية النفسية والتي ترد الظاهرة إلى العمليات النفسية الناتجة عن الصراعات.
4ـ النظرية الاجتماعية والتعليمية والتي ترى بأن الظاهرة تنجم عن عوامل اجتماعية محددة وبأن العدوان والاعتداء والفساد يكتسب اجتماعيا بالتقليد أو بعمليات التعلم.
وأنا شخصيا حيث أتبنى النظرية الرابعة مع قناعتي الشخصية بتوفر قدر معقول من النظريات الأخرى في التحكم بالسلوك الإنساني,حيث تؤكد هذه النظرية أن سلوكية العدوان والفساد هي سلوكية مكتسبة أثناء الحياة بفعل عوامل اجتماعية وبأنه يتعزز ويتواصل بفعل هذه العوامل,ويتحقق هذا الاكتساب للسلوك العدواني والفاسد نتيجة التعرض لمثله والتعلم من نماذجه,وخاصة إذا اقترن ذلك بالمكافأة على القيام به أو توقع هذه المكافأة,ومع إن هذا المنظور للسلوك العدواني والفاسد لا يقر بوجود غرائز داخلية ينبع منها العدوان والفساد تلقائيا أو بوجود دوافع عدوانية تثار من الخارج,إلا إن من الواضح أنها تتفق مع نظرية الدوافع العدوانية في أن ما يثير العدوان يأتي من عوامل اجتماعية أو بيئية محددة.
ولعل المهم في هذا المنظور للسلوك العدواني أو سلوكية الفساد هو إن الفرد يتعلم هذا السلوك ويبحث عن وسائل متنوعة لتكريسه طبقا لقواعد التعلم والتي تعتمد على عناصر التعرض والتكرار والربط والإسناد بالمكافأة عليه.ومع إن هذا المنظور الاجتماعي ألتعلمي للعدوان لا يمكن أن ينفي وجود طبيعة أساسية تمكن الفرد من ممارسة العنف والعدوان والفساد,إلا انه ينوه بأن وجود مثل هذه الطبيعة لا يعني بالضرورة الممارسة التلقائية للعنف والفساد والاعتداء, وهي الممارسة التي تتطلب توفر عوامل محيطة وظروف اجتماعية مواتية تجعل من هذا السلوك ممكنا أو شائعا.أن هذه النظرية تعطي أملا كبيرا في التحكم بسلوكيات العدوان والفساد عبر ضبط العوامل الاجتماعية والظروف العامة المحيطة به.وتفسر أيضا هذه النظرية جهود المجتمعات والدول المتقدمة في الحد من العدوان والفساد من خلال تحسين ظروف الحياة العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية وإشاعة الديمقراطية السياسية ومبدأ المحاسبة كطريقة فعالة في الأداء المؤسساتي,وتفسر بنفس الوقت أسباب شيوع الفساد والعدوان من خلال تكريس قيم الدكتاتورية السياسية وانعدام الديمقراطية والرقابة الجماهيرية على المال العام,ولعلها تفسر بشكل واضح جذور الفساد في العراق واستفحاله واستمراره وعدم المقدرة في التحكم فيه والحد منه.
فقد ارتبط تفاقم ظاهرة الفساد في العراق بمجمل سياسات النظام السابق الاقتصادية والاجتماعية والحروب المدمرة,والتي أدت بمجملها إلى إفقار المواطن وحرمانه من ابسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة,إضافة إلى ما أدت من تفتيت للبنية الأخلاقية والقيمية وضعف الوازع الداخلي,إلا إن سطوة النظام وقمعه حصرت ظاهرة الفساد,وخاصة الإداري والمالي برأس النظام وأطرافه,وحولت بنفس الوقت الفساد إلى ما يشبه الفيروس الخامل تحمله قطاعات اجتماعية واسعة,وجدت في إسقاط النظام والطريقة أو السيناريو التي هوى فيها النظام فرصة مواتية لينشط هذا الفيروس ويتحول من حالة الكمون أو الخمول إلى حالة الفعالية أو النشاط الكامل ليتحول إلى وباء شامل ينشط بطرائق أخطبوطية وبمدى يصعب التحكم والسيطرة عليه أو تحديد سقف له,وقد وفرت الظروف السياسية ما بعد السقوط وطريقة أداء الحكم بيئة صالحة لنشاط فيروس الفساد ليلتف بدوره حول السياسة ويضربها في الصميم ويعيد بعث ظاهرة الفساد السياسي المتمثلة بالاستئثار بالسلطة واستغلال النفوذ السياسي وتكريس قيم الحزب الواحد عند الكثير من الكيانات السياسية,ولعل المثل الصيني " الماوي " القائل : " رب شرارة أحرقت السهل كله " يلقي مصداقية كبيرة في تفسير الفساد في العراق.
أن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة أو ما يسمى " ثقافة الفساد " مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية,ومن ترسخه كنمط سلوكي لإشباع الحاجات المختلفة والاكتفاء الذاتي,وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقي الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف,ويعتبر نوعا من الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه,وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية !!!.
وعلى هذا الأساس يتحول الفاسد من شخص مجرم يجب أن يساق إلى العدالة إلى شخص قاضي حاجات أو "حلاًل مشاكل ". ففي الوقت الذي كان فيه الفاسد يسير منحنيا بإذلال يخشى أن يعلم به احد جيرانه أو أبناء منطقته,ويذكرني ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات عندما كانت تعلق صور الفاسدين" السرَاق منهم" في مراكز الشرطة ويكتب أعلاهم بخط عريض " أحذروا هؤلاء ",اليوم يفتخر الفاسد بمكتسباته وبمهاراته وماله الحرام !!!,ولم يعد الفاسد يخشى المواطن بل انتقل الخوف إلى المواطن وأصبح الجميع يحسب آلف حسابا له ,لأنه يمتلك السلطة والمال والقرار السياسي,فهو الكادر الحزبي أو القيادي في حزب ما,وهو المدير العام,وهو الموظف الصغير والوزير أو عضو البرلمان وهو أيضا حامل المفخخات والأحزمة الناسفة !!!,بل نبحث عن الفاسد لتسهيل معاملاتنا مهما كانت صعبة,وهو الذي يأتي لنا بالماء والكهرباء والخدمات المختلفة,ويضمن لنا التعيين في أي موقع وفي أي دائرة نرغب بعد أن يمنحنا الشهادة المزورة ويصدر لنا أمر التعين ,وكل ذلك مقابل هدية !!! بحجمه,وإذا لم نقبل بشروط الفاسد فأنه قادر على أن يفرض عليك حصارا لا تقوى الأمم المتحدة على رفعه,فلا غرابة من أن 80% من مراجعي دوائر الدولة العراقية يدفع رشوة لانجاز معاملته !!!.
وبالتالي يتحول الفساد كسلوك وأداة تفضي إلى بلورة جماعات واسعة من المنتفعين ورعاة المصالح الذاتية التي تعمل على توطيد دعائم النظام الجديد ولكن بشروط الفساد حفاظا على أوضاعها ومكانتها من الانهيار,وبهذا يطرح الفساد نفسه كطريقة وبديل عن التنمية الاقتصادية الشاملة وفقا للضوابط القانونية والأخلاقية,وتعزيز فكرة أن الفساد يعجل بقضاء المصالح والحوائج وتبسيط الإجراءات وتسير المعاملات مع الجهاز الحكومي,كما انه يعمل على إعادة توزيع الثروات بشكل مشوه من خلال خلق طبقة من أصحاب المال الصغار المستفيدين من رشاوى الحيتان الكبار,كما يزج الطبقة الوسطى" الطبقة المطلوبة رقم واحد في المشروع الوطني الكبير ,فكرا وثقافة ومهنية " قي آتون الفساد فيحولها من طبقة إنقاذ إلى طبقة متعايشة مع ظروف الفساد ومكملة له,وعلى خلفية ذلك تنشأ قناعات سلوكية واضحة تفضل الاستقرار و " التنمية " مع الفساد على اللااستقرار بدونه.
وبهذا يتحول الفساد من ظواهر فردية متناثرة هنا وهناك إلى عمل مافيوي مخطط يدخل سوق العمالة ويقدم خدماته من خلال اختراقه كل القطاعات الإنتاجية والخدمية,ويخضع لمبادئ العرض والطلب والمنافسة الكمية والكيفية ويتحكم بمفاصل تشغيل العمالة,وهذا ما نشهده اليوم من تسهيل معاملات على مختلف المستويات,فهناك تسعيرات محددة لشغل مختلف المناصب من مدرس إلى ضابط ,إلى شرطي أمن,إلى مدير دائرة والى مدير عام , وتسعيرات للحصول على مختلف الوثائق والمستندات الشخصية من وثائق دراسية وشهادة جنسية وبطاقة أحوال مدنية وجواز سفر وغيرها,طبعا جنبا إلى جنب مع الفساد الكبير الذي يخترق مختلف العقود والمشاريع والمخصصات والاستثمارات الإنتاجية والخدمية التي تستهدف إحياء البنية التحتية المدمرة.
أن القبول بالفساد كأمر واقع شكًل احد عوامل الضغط على المنظومة القيمية والتربوية لدى أفراد المجتمع العراقي وفي تبديد قناعاته الأخلاقية والوطنية,فقد انتشرت اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع,وبروز التطرف والتعصب في الآراء وشيوع الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص,كما شاعت قيم فقدان احترام العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي وتراجع الاهتمام بالحق العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي بدوره إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر,وقد جاء ذلك على خلفية التراكمات التي افرزها النظام السابق متبوعة ومعززة بالإفرازات السلبية التي سببتها الاستقطابات السياسية والتحالفات المشوه والاعتبارات الفئوية والطائفية والقبلية حيث غياب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا.
وهكذا لعبت المحاصصة بمختلف مظاهرها سببا في شيوع الفساد الإداري والمالي,ولعبت دور الحاضنة الأمينة له ,فلم يتم اختيار أفراد السلطة ولا الوظائف العامة على أساس النزاهة والعصامية والتكنوقراط وإنما جرى ذلك وفقا لتوافقات سياسية واستحقاقات غير متوازنة ولا معقولة, وعلى هذا الأساس استخدم الفساد كطريقة وجزء من منظومة " الحوافز الإيجابية " ," فالمظلوم " من النظام السابق يقوم باسترداد " حقوقه " بطرق غير قانونية كردة فعل على القمع والإقصاء, ويصبح بدوره ظالما وسارقا للمال العام كاحتلاله منصبا سياسيا أو وظيفيا لا يحمل له أي مؤهل وتحت واجهات ومبررات مختلفة: خطية يستاهل !!!, وصاحب عائلة وأطفال وين يروح !!!, خوش آدمي صائم مصلي !!!,أحسن ما يمد أديه للناس !!!, أو يعتبر نفسه مفصول أو مضطهد سياسيا من النظام السابق فيقوم بتزوير الوثائق والمستندات اللازمة لذلك لكي يسترجع " حقوقه ". أما المظلوم الحقيقي من النظام السابق فيعاني الأمرين لانتزاع حقوقه,بل الكثير تنازل عن جدوى الادعاء بحقوقه تحت وطأة سوء المعاملة’كاصطدامه بموظف كارها له في الفكر أو بعثي سابق احتمى بطائفته ويشغل منصبا جديدا تكريما" لمظلوميته ". وهكذا وفرت المحاصصة غطاء لسرًاق المال العام وللمفسدين بصورة عامة,والجميع بعمل على قاعدة أضرب(أسرق) وأهرب إلى طائفتك أو قبيلتك أو حزبك أو إلى قوميتك,أو هذا لك وذاك لي !!!,بل وصل الأمر إلى العبث في تفسير النصوص القرآنية التي لا خلاف على تفسيرها,في محاولة لانتزاع "الاعتراف الإلهي" بأهلية الفاسد وفساده,فعلى سبيل المثال لا الحصر مثلا يرون في النص القرآني: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله" لا تشمل العقوبة سرًاق المال العام,وأن السارق له حصة في هذا المال فهو يأخذ من حصته,والسارق يعرف تماما أن السرقة من المال العام يعني السرقة من أكثر من 25 مليون عراقي,وبالتالي يستحق ليس قطع اليد،بل تقطيع الأوصال(حسب بعض المفسرين)!!!,أما اللهاث وراء الفتاوى الدينية لتحريم الحلال وتحليل الحرام فلا حدود لها,وعلى قاعدة " ذبه برأس عالم وأخرج منها سالم " وما أكثر العلماء في عراق اليوم !!!!.
ويتقاطع الفساد الإداري والمالي مع الفساد السياسي ليشكل مقدرة استثنائية في التحكم في الأمن وبعث " الاستقرار " وفي انهياره أيضا,وتلجأ العديد من الفصائل السياسية في التعبير عن قوتها وقدرتها على العبث في الاستقرار عبر ممارسة الفساد المقترن بالقوة المسلحة لاختراق مؤسسات المال العام وقتل حراسه !!!,ثم إعادة المال واختفاء المجرمين!!!!,وهي شبيه بالمناورات العسكرية لاستعراض القوى" ولتأديب " الحليف السياسي عند الضرورة !!!,ناهيك عن الإرهاب المعلن بغير أقنعة والمدعم خارجيا والقائم على خلفية عقائدية في العداء للديمقراطية بدون رتوش !!!. أن اقل ما تتركه هذه الأساليب من آثار تربوية ونفسية سلبية هو فقدان الأمل في الاستقرار والخضوع لتفاعلات الأمر الواقع وعدم الثقة بالنظام السياسي باعتباره بديلا عن النظام الديكتاتوري السابق,إلى جانب ما يتركه من حالات إحباط وقنوط تتضح آثارها بصور مختلفة من الاضطرابات النفسية لعل أبرزها مظاهر الاكتئاب والعدوان وإلحاق الأذى بالذات وبالمصلحة العامة.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن في كل تجارب البلدان التي مرت في محنة الفساد بقيت لديها فسحة من الأمل في بعض من قطاعاتها خالية نسبيا من الفساد,نظرا لارتباط هذه القطاعات بأهداف إنسانية كبرى ذات صلة وطيدة بمستقبل مجتمع بالكامل من حيث الأعداد والتربية والتأهيل وغرس روح المواطنة ونشير منها على سبيل المثال إلى قطاع التربية والتعليم باعتباره قطاعا مصدرا لنماذج القيم المتقدمة وإعادة توليد ما هو ايجابي ومشرف في ذهنية الدارسين,إلى جانب كون العاملين فيه من النخب الاجتماعية والتربوية التي يفترض أن تكون نماذج ومعايير يقتدى بها ويسمع رأيها ,خاصة في الأزمات العامة ,إلا انه مع الأسف كان هذا القطاع من الضحايا الأولى للفساد بمختلف مظاهره من تزوير وسرقة أموال الدارسين وإفساد للعملية التربوية والتعليمية,منهجا وطرائفا وكادرا ومؤسسات,بل أن المحاصصات السياسية والحزبية والطائفية والقومية دخلت بكل حمولتها السيئة لهذا القطاع لكي تحي في ذاكرتنا الآثار السيئة للتبعيث,وبهذا حرم هذا القطاع من دوره الحقيقي في محاربة الفساد بتحويله إلى قطاع مُصدر للفساد.
وتبقى محاربة الفساد وتجفيف منابعه إحدى المهمات الصعبة التي تقف عائقا أمام تطور مجتمعنا وديمقراطيته السياسية الوليدة,وأن المدخل اللازم للقضاء عليه يتجسد في بناء دولة المؤسسات ألحقه القائمة على سلطة القانون لا سلطة الحزب أو الطائفة أو القبيلة والقومية,والعمل على تفعيل النزاهة والمسائلة والعدالة ضمن آليات عمل مفوضية النزاهة المستقلة ويجب أن تقوم بدورها بملاحقة المتورطين بقضايا الفساد وتقديمهم للعدالة باختلاف مناصبهم ووظائفهم ومسؤولياتهم وأنتمائاتهم الحزبية والطائفية والقومية,الجرأة الكاملة والواضحة في مكافحة الإرهاب بشدة باعتباره لونا من ألوان الفساد وخاصة عندما يستخدم للوصول إلى أهداف سياسية,والحفاظ على قطاع التربية والتعليم وتخليصه وتحًيده من الصراعات الطائفية والحزبية والسماح له بأداء دوره الإنساني والوطني في محاربة الفساد على نطاق واسع, فهو صمام الآمان لخلق جيل مؤمن بقيم النزاهة والحق والعدالة,وإعادة توليد القيم الايجابية في أذهان رجال المستقبل.