د. عامر صالح
الإسلام السياسي والمعوقات المعرفية ـ السلوكية في ممارسة الديمقراطية الحقيقية !!!!
د.عامر صالح
تثير مشاركة الإسلام السياسي في العمليات الديمقراطية وعمليات التغير الثورية الجارية في الوطن العربي الكثير من تساؤلات الشك في مدى قناعة هذه القوى بالعملية الديمقراطية, نهجا وفكرا وممارسة, فهل سلوكها "الديمقراطي" الآني في العملية السياسية السلمية هو تكتيكا لاختراق صناديق الاقتراع ولقلب الطاولة على المؤمنين بالديمقراطية, أم سلوكا استراتيجيا نابعا من قناعات فكرية وعقلية وسلوكية متجذرة في ممارسة الديمقراطية ولبناء النظام الديمقراطي الذي يؤمن بالتعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة واعتماد المؤسسات الديمقراطية التشريعية والتنفيذية والقضائية مصدرا لكل السلطات !!!!.
أن الدائرة الإقليمية المحيطة بنا, العربية منها والإسلامية لا تجيب بالإيجاب عن هذا التساؤل والذي يتمحور حول مدى قناعة قوى الإسلام السياسي بالديمقراطية. ففي العراق حيث قوى الإسلام السياسي تعمل بالضد من استقرار العملية الديمقراطية, وهي تسير بنفق مظلم لا نهاية له, يزداد قتامه بفعل صفقات التخندق الطائفي والمذهبي, ولم تنهض هذه القوى بإنجاز المهمات الاقتصادية والاجتماعية لإعادة بناء البنية التحتية للمجتمع, وعلى أكثر من صعيد لا يزال العراق يراوح في المكان منذ سقوط النظام عام 2003 وخاصة على صعيد استقرار مؤسسات النظام الديمقراطي والأمن الاجتماعي وغيرها من المعضلات. وفي غزة الفلسطينية حيث الانقلاب على السلطة الوطنية الفلسطينية وممارسة الإرهاب السياسي والديني والمذهبي بحق غير المؤمنين بنهج حماس الاقصائي. وكذلك في جمهورية إيران الإسلامية حيث لا وجود للديمقراطية السياسية, لا من قريب ولا من بعيد, وتجري العملية السياسية محصورة في البيت الإسلامي والشيعي منه تحديدا, ويجري الصراع على السلطة السياسية في نظام ولاية الفقيه بين أجنحة إسلامية سياسية مختلفة من داخل الخيمة الإسلامية الشيعية لا غير. وفي السعودية أيضا حيث لا حديث عن الديمقراطية والتعددية السياسية أبدا, حتى وأن كانت شكلية, والسلطة حصرا بيد خليفة الله والمؤمنين على الأرض والمتمثلة بالحكم الملكي الوراثي لعائلة آل سعود. وما نرى أيضا من تنظيمات لأخوان المسلمين في العالم العربي والتي تعمل جاهدة لمد نفوذها المستتر والظاهر في حركات الشباب من اجل الوصول إلى الحكم في مصر وتونس واليمن وسوريا وغيره من البلدان.وحركات إسلامية أخرى في العالم العربي والإسلامي تتخذ من الإرهاب والترويع والقتل كتكتيكات أولية لبسط نفوذها على الأرض التي تتواجد فيها بهدف تشكيل كيانات ذات صبغة إسلامية متطرفة لا صلة لها بالديمقراطية مطلقا, وحركات تحرر إسلامية أخرى تدعي نصرة المظلومين في العالم العربي والإسلامي وتقف بوجه العدو الإسرائيلي, وتمارس اللعبة الديمقراطية ولكنها وعلى لسان قيادتها التاريخية تؤسس على المدى البعيد لدولة الفقيه, وتعبث في ورقة الأمن والاستقرار الداخلي كيفما تشاء, ويشكل حزب الله اللبناني احد نماذج هذا السلوك ألازدواجي !!!! .
قد تثير لدى القارئ الكثير من الاعتراضات بالقول بأن النموذج الإسلامي التركي في الحكم هو نموذج موعود وبالإمكان تعميمه في مناطق عديدة عربية وإقليمية, وتكمن إجابتنا البديهية لهذا الاعتراض بأن الإسلام السياسي الحاكم في تركيا يعمل ويحكم ويسبح في فضاء بلد استقرت فيه تقاليد العمل الديمقراطي ومؤسساته الدستورية, وفي بلد يمتلك أجهزة ومؤسسات دفاعية, من جيش وشرطة ومخابرات وأمن تتمتع بقدر كبير من الحيادية المعهودة لها في المنعطفات الهامة التي تهدد الديمقراطية. أما في المجتمعات العربية فيدخل الإسلام السياسي كجزء من المشكلة وليست الحل, فهو يسعى في مرحلة التأسيس للنظام الديمقراطي جاهدا لبناء مؤسسات الدولة وخاصة الدفاعية منها والأمنية والمخابراتية على أسس مذهبية ودينية وطائفية متحيزة, أو من خلال التأسيس لدستور فيه من الغموض ما يكفي لان يكون مصدرا من مصادر عدم الاستقرار والصراعات الدينية والمذهبية في البلد, من خلال إضفاء صبغة أحادية الجانب غير جامعة للنسيج الاجتماعي بكل مكوناته الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية !!!!.
وهكذا يتراوح الإسلام السياسي في مسحته العامة بين رافض علني للديمقراطية باعتبارها بدعة من الغرب وكل بدعة ضلال, وبين داخل في اللعبة الديمقراطية لاعتبارات تكتيكية تحت ضغط الظروف الدولية المعاصرة وظروف المد الجماهيري صوب تبني الديمقراطية نهجا وممارسة. وفي الوقت الذي استطاعت فيه الكثير من القوى السياسية العالمية والإقليمية والوطنية ذات الطابع العلماني واليساري أن تتكيف لظروف العصر وتتبنى وتقتنع في الديمقراطية كوسيلة للحكم والمساهمة في التأسيس لمجتمعات العدالة والحرية الاجتماعية, كما هو في تجارب اليسار والشيوعية في بلدان أوربا الاشتراكية سابقا, والكف عن المطالبة بحكومات ذات صبغة واحدة في بقاع أخرى من العالم, ظل الإسلام السياسي عنيدا في مطاوعته لظروف التغيرات الجارية في العالم, ويثير مزيدا من الشبهات والتساؤلات عن مدى تقبله للديمقراطية, على الرغم من امتلاكه القدرات الكافية لتحريك الوجدان الديني لدى شرائح اجتماعية بفعل عوامل الفقر وغياب الأمل التي استمرت لعقود, وتكوين كتل حشدية انتخابية تمكنه من الإتيان بالفوز ألاقتراعي لعدة دورات انتخابية !!!!!!. ما هو جوهر هذا العناد والتزمت العقلي والسلوكي لقوى الإسلام السياسي وما هي تداعياته, ذلك ما نحاول الإجابة عليه من منظور سيكولوجي ـ سياسي في هذه المحاولة المتواضعة !!!!!.
في عودة سريعة لضبط مصطلح الديمقراطية وماهيته والذي يخدمنا كثيرا في هذا المقال, وهو أن الديمقراطية تعني حكم الشعب, أو الحكم للشعب, وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة إلا إن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استخدامه في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة, فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه, فهي تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه, وأن يحكم نفسه بنفسه, ولنفسه, والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس تخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه, وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة, وقد عرفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها و لا ند متفردة بالتشريع الملزم, فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع, فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك, لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها, ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى, والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي الشعب. وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاث جوانب رئيسية على الأقل هي :
1 ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها, وهذه تمارسه السلطة التشريعية.
2 ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات, وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.
3 ـ حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات, وهذه المهمة تمارسها السلطة القضائية, ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.
وعلى خلفية هذه الرؤى فأن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل, والاستقلال في الرأي والتفكير, والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة, وفي القدرة على رفض الحكومات وتغييرهم في حالة عدم صلاحيتهم, وفي حق التملك وحق الأمن والأمان, كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون, والدعوة إلى الآراء وحرية تكوين الأحزاب, وحق المعارضة للسلطة القائمة, وحق الاقتراع العام, وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم, وتداول السلطة بين أفراد الشعب, واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين !!!!.
وفي زحمة هذه الصلاحيات الواسعة للشعب في ظل الديمقراطية الحقيقية يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي والسلوكي مع القوى الديمقراطية ومع الشعب, كون هذه الأخيرة مصدر كل السلطات وبالتالي تشكل بديلا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع الإلهي, أي كما يفهمه الإسلام السياسي بأن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى, وهذه الخاصية التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب التجارب والأزمان, تعد من الاختلافات الحقيقية بينها وبين الإسلام, انطلاقا من قاعدة الإسلام التي جوهرها هي توحيد الله تعالى, والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده, وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في كلها من صلاة وصيام وحج, معاملات بين الناس وخصومات, وفي شئونه كلها, وبالتالي أن تحل سلطة الشعب مكان سلطة الإلهة أمر غير مقبول جملة وتفصيلا لدى الإسلام السياسي !!!!.
وهكذا يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي ـ السياسي بين ظروف العصر المتغير وبين ما تقرره السنة الإلهية, ويقع من ناحية أخرى في صراع مستديم مع القوى السياسية المعاصرة في محاولة لفرض بدائله السياسية ـ الإسلامية على العمليات السياسية الجارية في مختلف مناطق العالم, العربي منه والإسلامي وبمختلف الوسائل, حتى وان اشترك في العملية السياسية الديمقراطية السلمية, وبالتالي يقع الإسلام السياسي في ازدواجية السلوك السياسي بين محتوى ما يؤمن به وبين ما يستجيب له من سلوك في ظروف التغير المطلوب, وتنشأ على خلفية هذا الصراع المعبأ بإلحاح وضغوطات الفكر الديني المفرط حالات من العصاب القهري الديني ـ السياسي الذي تجسده إلحاح الأفكار الدينية بشكل متواصل وغير منقطع في السلوك السياسي العام والخاص مؤطرا بعوامل عدم المرونة والتصلب في الرأي مع العناد وفرض الرأي وما يصاحبه من تحجر وجمود في العواطف اتجاه الآخر المغاير في الفكرة والتفكير !!!!.
وينشأ من دائرة هذا التصلب والتمركز حول الذات الدينية المفرطة الكثير من مظاهر العدوان والتجاوز على حرية الآخرين الدينية والسياسية تجسدها الكثير من الحروب الموضعية بواجهات مختلفة, وإخلال بالأمن العام, وارتكاب الكثير من الأعمال الوحشية بحق الآخرين, والتخندق في الأطر الجغرافية والمناطقية التي يتواجد فيها دعاة الدين, وإشاعة الفساد الإداري والمالي والأخلاقي بمختلف مظاهره, والاجتهاد المبتذل في أصول الدين, وتحليل الحرام في السلوك والتضييق على الايجابي منه, وإشاعة قيم الفرقة وضعف المواطنة, وجميعها آليات تعبر عن الإحباط في الموائمة لظروف العصر وعدم المقدرة في المساهمة الحقيقية والفاعلة في بناء التجارب الديمقراطية التي تتكئ عليها مجتمعات العدالة والحق والإنصاف !!!!.