| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأثنين 28/5/ 2012 د. عامر صالح كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
بعض الإبعاد السايكواجتماعية لأدب المعارضة غير الحزبية/ الشخصية العراقية أنموذجا
د.عامر صالح
تركت الأوضاع السابقة جراء تسلط الديكتاتورية المقيتة في بلادنا تباينات في ظاهرة الوعي المعرفي والاجتماعي المعارض حيث شكلت تنوعا في آلياته والتي انعكست على الشخصية في إبعادها العقلية المعرفية والاجتماعية.ففي الوقت الذي اتضحت فيه حدود المعارضة الحزبية المنظمة ممثلة بأحزابها من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها والتي كان هدفها إسقاط النظام الدكتاتوري وكما يدركها النظام نفسه,كان هناك معارضة أخرى خفية تقاوم النظام بوسائل سايكوعقلية أو ما يسمى المقاومة بالحيل الدفاعية, وقد مثلت هذه المعارضة السواد الأعظم لشعبنا في الداخل, وكانت هذه المعارضة غير مدركة الإبعاد نسبيا من قبل النظام السابق.
أن الآليات الدفاعية لهذه المعارضة غير الحزبية مستقاة من ذات الشخصية الإنسانية التي تستجيب للضغوط الاجتماعية والسياسية بآليات فطرية دفاعية وهي محاولات تبذلها الشخصية للإبقاء على التوازن النفسي لتخليص الفرد من حالة التوتر والقلق الناتجة عن الإحباط والصراعات التي لم تحل جذريا والتي تهدد أمنه النفسي والاجتماعي وهدفها وقاية الذات والدفاع عنها والاحتفاظ بقدر ما من الثقة بالنفس واحترام الذات وتحقيق الراحة النفسية,وتكون بنفس الوقت تراكما نفسيا ينتظر ساعته للتعبير عن نفسه بصيغة الرفض المباشر. وهذه الآليات الدفاعية المتعارف عليها في الأدبيات السيكولوجية هي باختصار: الإعلاء,التعويض,التقمص(التوحد),الاحتواء,الإسقاط,النكوص,التفكيك(العزل),الانسحاب,التخيل,التحويل, الكبت, النسيان,الإزاحة,الإبدال,الإنكار,الإلغاء(الإبطال),الإبدال,التعميم,تكوين ردا لفعل(التكوين العكسي),الرمزية,التقدير المثالي وغيرها من الآليات الدفاعية المتنوعة. وان الشخصية الإنسانية تسعى للاستفادة المرنة والفعالة وبمقدار الحاجة لهذه الوسائل لحماية نفسها من الصدامات المختلفة التي تتعرض لها في عملية الصراع السيكواجتماعية اليومي من اجل البقاء.
وقد تمكنت الشخصية العراقية عبر عقود من المعاناة من تشكيل نسيج سايكواجتماعي معارض لظاهرة القمع والدكتاتورية رغم شراسة الأخيرة وفتكها, لكنه نسيجا مخفيا يعبر عنه باليات الاختفاء والاحتماء من الفتك والعقاب ويعبر عن نفسه بنوع من التصرف السياسي المراوغ والغير مباشر, وقد عكس ذلك جزء من ما يسمى (بالموروث المخفي)والذي يعبر عنه بنوع من النقد للسلطة الجائرة من وراء ظهرها, ويتشكل هذا الموروث من خلال اللاشعور الشخصي والذي يتكون من خبرات الفرد المكبوتة والعقد, ومن اللاشعور الجمعي وهو مشترك بين كل الأشخاص ويتكون من تراث النماذج الأصلية للإنسان.
لقد وجد في الكلام وسيلة مهمة وواسعة بفعل ما يمتلكه من مقدرة على الرمزية والمجازية في التعبير وهو احد وسائل التنكر المهمة. وكانت السخرية والنكتة وسيلة من الوسائل المتاحة لتجريح الهيبة الشكلية للنظام وقيادته حتى باتت ممنوعة وتعرض صاحبها لأقصى العقوبات؛المغالاة والمدح المفرط للنظام في الخطابات والشعر والفنون المختلفة وهي إذ تهدئ النظام وتسكن أورام الذات لدية تشكل في الجانب الأخر رأيا عاما مغايرا لذلك تماما تفهم على غير معانيها المباشرة بعد انتهاء الاحتفالات المفرطة في المناسبات (الثورية) , وهي إن كانت تبدو وكأنها شكل من أشكال الخضوع والإذعان إلا إنها شكلت فرصا ذهبية للشللية الاجتماعية للحديث في الخفاء عن القيمة المتدنية للنظام؛المناقشات والسجال في الاجتماعات الحزبية والمفعمة بروح( الحرص)على الحزب والثورة شكلت هي الأخرى وسائل مهمة لخلق آراء مغايرة وانشقاقية في الخفاء؛الخروج لاستقبال القائد بزخم بشري مبالغ فيه وبشكل مقزز كان شكل من أشكال التمويه للعداء له,بل في بعض الأحيان طفحت هذه العدائية على السطح وتجسدت في محاولات للاغتيال؛إن خطابا عاما يلقيه( القائد)وهو يلتقي( بشعبه)يقابله في الطرف الأخر نوع من عدم الاكتراث والرغبة في الاستماع تعكسها بوضوح ظاهرة الإصغاء الشكلي المفتعل,الهمس في الآذان,الضحكة الخافتة,التنهد,الغمز والتحديق واستخدام مختلف المجازات اللغوية للتعبير عن معارضة الخطاب,وتشكل هذه المناسبات فرصا للتناغم الاجتماعي المعارض غير المسبق؛أن انتشار شبكة من المجانين المفتعلين في المحافظات وإطلاقهم للشعارات والأهازيج التحريضية هي الأخرى كانت فرصا للتندر من النظام ومضايقته.
أن السلوك والفطرة الإنسانيتين يتعارضان مع قيم الدكتاتورية, وبالتالي فأن الشخصية الإنسانية قادرة على إنتاج أنماط متنوعة ومرنة من السلوك المضاد لها. وقد استطاعت الشخصية العراقية من إحداث نسيجا معقدا من الآليات الدفاعية تستمد قيمتها ووسائل التعبير عنها باعتبارها ردة فعل على شراسة الدكتاتورية وآلتها القمعية. وحيث لم يترك النظام هامشا للمناورة العلنية...فقد اتخذ شعبنا أساليب لبقة عند الضرورة مضطرا إلى إخفاء أهدافه بعيدا عن إدراك أعداء الحرية والديمقراطية ليست تنازلا بل التشجيع على سلوك سبيل التكتيك من اجل البقاء وإحداث حالة الاختمار.
إن الانتفاضات الشعبية ضد الدكتاتورية عبرت عن حالات الاختمار النهائي لآليات الاحتماء والاختفاء وبالتالي الإعلان عن نفسها بالهبات الجماهيرية, ففي اللحظات الأولى لسقوط النظام (وبغض النظر عن إشكالية سقوطه) ومصاحبها منه هبات عارمة(تجاوزت أحيانا الفعل المعقول) لإزالة أثاره العيانية هو تعبير صارخ لأداء الشخصية في حالات الكبت الطويل, وحتى الحيادية المؤذية تحولت في اللحظة المناسبة إلى شعور عنيف ورغبة في الانتقام. فكم كان من هؤلاء الناس سياسيا معارضا اوبعثيا اوحياديا.
اليوم وبعد سقوط النظام بتسع سنوات وحيث تمر العملية السياسية باختناقات لا حصر لها(رغم الانجازات) وظروف خارجية وداخلية غير مواتية لاستقراره وحياة تنعدم فيها الخدمات الأساسية كان يفترض على الأحزاب والقوى السياسية إن تستفيد وتعبئ المزاج النفسي الايجابي الذي تشكل لدى شعبنا قبل وبعد سقوط النظام وترتقي به إلى مستويات تنسجم مع عملية بناء الدولة الحضارية ونبذ قيم التفرد والاستحواذ واستخدام الواجهات الرخيصة في كسب المواطن. أن المعركة بين التقدم والتخلف لا تزال على أشدها. ومن حق المواطن العراقي أن لا تغمض عينيه هادئا في المنام واتهامات الإرهاب تصل إلى أعلى مناصب قيادية في الدولة العراقية !!!!.