| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأثنين 24 / 5 / 2021 د. عامر صالح كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
الأقدام والأحجام في الأنتخابات البرلمانية العراقية القادمة
د. عامر صالح
(موقع الناس)في سياقات طبيعية وفي ظل الأنظمة الديمقراطية العريقة والمستقرة وحتى الناشئة والمؤمنة قواها السياسية بالتداول السلمي للسلطة تشكل المشاركة الواسعة في الانتخابات والدعوة أليها والتحشيد لها عبر وسائل الاعلام الرسمية والشعبية احدى المهمات الوطنية واغناء لمفهوم حق المواطن في انتخاب السلطات القادمة التي تمثله وتستجيب لمطالب الحياة اليومية ومطالب اخرى ذات افق استراتيجي تجسدها سلامة الخيارات الانتخابية للحفاظ على الوطن وأمنه وسلامته في دائرة علاقاته الداخلية والخارجية مع العالم المحيط به, ومن هنا تكون المشاركة في الانتخابات هي مسؤولية فردية ومجتمعية للحفاظ على مستقبل البلاد واستقراره عبر اعادة ورسم ملامح اصطفافات سياسية لأنتاج حكومات قوية وسلطات تشريعية قادرة على السير بالبلاد الى بر الآمان عبر تجديد العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة, وبالتالي فأن المشاركة الواسعة في الانتخابات من خلال ابداء الصوت الانتخابي هي من اصول النظام الديمقراطي للحفاظ على الوطن وأمنه من خلال المشاركة في اختيار قادته ونخبه السياسية والاجتماعية ومنحها الشرعية للأطلاع بدورها في الحفاظ على امن البلاد وسلامته, وانعكاسات ذلك في تحسين الأداء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
في العراق وما بعد سقوط النظام الدكتاتوري من خلال الاحتلال الامريكي والغربي للبلاد أرسيت هياكل شكلية للعملية الديمقراطية قوامها دستور دائم للبلاد يؤكد على ان العراق بلد التعددية السياسية ويجرى فيه تدوال السلطة عبر انتخابات برلمانية دورية كل اربع سنوات والتي تقوم لاحقا بتقرير شكل سلطاته التنفيذية والمتمثل في اختيار الحكومات المقبلة لتؤدي وظائفها في تحقيق العدالة الاجتماعية وتنفيذ مطالب الشعب في العيش الحر الكريم عبر تطمين الحاجات الاساسية في الأمن والخدمات العامة والسير قدما لأعادة بناء بنيته التحتية الاقتصادية والاجتماعية, ولكن ما جرى في العراق خلال ثمانية عشر عاما هو ان الفراغ السياسي الناتج من سقوط النظام قد تم ملئه من قبل قوى واحزاب سياسية غير مؤمنة في العملية الديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة بل ان جوهر خطابها يستند الى التحريض الطائفي والشوفيني والعرقي مما دفع العراق في اكثر من مناسبة على حافة الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي والذي شكل فرصة سانحة لتنظيم داعش الارهابي لاحقا في احتلال 30% من مساحة العراق وقبلها تنظيم القاعدة الارهابي وفلول مجاميع الجريمة المنظمة.
خلال تجربة ثمانية عشر عاما من حكم القوى غير المؤمنة بالديمقراطية والتي لا تملك مشروع بناء دولة المواطنة الجامعة لكل المكونات غرق العراق في بحر من الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام وتحطيم البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, حتى بلغ ما تم اهداره من اموال يتجاوز 1400 مليار دولار توزعت بين سرقات مباشرة للمال العام ومشاريع وهمية وصفقات من العقود قوامها سرقة المال العام والتحايل على الدولة والإفساد في وزاراتها جميعا عبر ما يسمى بالمكاتب الاقتصادية للأحزاب والمليشيات الحاكمة مباشرة او في الظل, وقد زجت البلاد في آتون البطالة والفقر والخراب الى جانب تفكك منظومته الاجتماعية والنفسية.
على مدى ثمانية عشر عاما وخلال كل الدورات الانتخابية البرلمانية السابقة جرى الاحتكام الى السلاح كلغة فريدة لتقرير وجهة البلاد ومستقبلها عبر هيمنة المليشيات الحزبية والمجاميع الاجرامية, فقد جرت عمليات تزوير واسعة النطاق الى جانب ممارسات ترهيب المواطنين وشراء ذمم شرائح اجتماعية واسعة عبر افتعال اعداء وهميين في الداخل والخارج واضفاء البعد الطائفي والشوفيني والعنصري في عمليات الصراع الاجتماعي الجارية في البلاد وحرف مساراتها الطبقية والسياسية وتشويه التركيبة الاجتماعية عبر استمالتها لعمليات الاستقطاب والشحن الطائفي والمذهبي واقحام بنى اجتماعية في عملية الصراع الدائرة كأستنفار العشائر وتسليحها وزجها في صراعات مختلفة وقد باتت تهدد الاستقرار والامن المجتمعي بل وتهدد الدولة ومؤسساتها.
الاخفاق المزمن للحكومات المتعاقبة ما بعد 2003 ترك المواطن العراقي في حالة اغتراب من النظام القائم وقواه السياسية الحاكمة وقد تجسد ذلك بوضوح في حالة عجز المواطن من التأثير في اي عمل من اعمال الحكومات المتعاقبة, واحساسه بأنعدام المعنى السياسي لأي قرارات متوقعة , والاحساس بانعدام المعايير السياسية وكذلك الاحساس بالعزلة وعدم جدوى المساهمة في التصويت لأي قضية مطروحة للنقاش من قبل الدولة وامؤسساتها, وهذا الاغتراب اليوم تجسده حالات تبلور عدم المشاركة وانتفاء الجدوى من الانتخابات البرلمانية القادمة والتي يقال عنها ستجرى في اكتوبر القادم, والاسباب التي تكمن وراء ذلك يلخصها المهتمون بالشأن السياسي والانتخابي العراقي بما يلي: غياب الثقة ما بين الناخبين والنخب السياسية من احزاب وقوى سياسية التي سيطرت على مفاصل الدولة ومؤسساتها, وعدم ثقة الناخب من جدوى التصويت على اعتبار ان النتائج محسومة من قبل مما يتسبب في اهدار اصواتهم, وعدم ثقة الناخبين بمفوضية الانتخابات التي بنيت على اساس المحاصصة بهذا القدر او ذاك وضعف حياديتها, عدم ضمان نزاهة الانتخابات, وقانون الانتخابات غير العادل والمصمم على اهواء الكتل السياسية المسيطرة على العملية السياسية, والفسادالمستشري في مفاصل الدولة, واعادة ترشيح نفس الوجوه السابقة على الرغم من تورطهم او اشتباه تورطهم بقضايا فساد وعدم محاسبتهم او اقصائهم, وتهميش الفئات الشابة والمثقفة والاكاديمية وعدم تلبية مطالبهم.
اكثر المشاهد دموية في الوضع السياسي الحالي في العراق هو ما رافق انتفاضة اكتوبر العراقية التي انطلقت شرارتها في بداية الشهر العاشر من العام 2019 والتي لازال زخمها يلقي بظلاله على شرعية العملية السياسية في العراق وهي انتفاضة مطلبية سلمية بأمتياز تستهدف اصلاح العملية السياسية ونبذ نظام المحاصصة الطائفي والاثني ومحاربة الفساد الى جانب المطالب المشروعة في تحسين ظروف الحياة العامة, من أمن وخدمات كالصحة والكهرباء والماء وتحسين اداء المؤسسات التربوية والتعليمية وغيرها, ولكن جوبهت هذه الانتفاضة بالقمع والاغتيالات والتغييب القسري, حتى بلغ شهداء الانتفاضة اكثر من 700 شهيد و30 الف جريح ومئات الاعاقات المنتهية, وتحت زخم الانتفاضة وجذواها سقطت حكومة عادل عبد المهدي المتهمة بقتل المتظاهرين, ثم جاءت حكومة الكاظمي ولم تستطيع الى اليوم من الكشف عن قتلة المتظاهرين, بل استمر قتل الناشطين واختطافهم وقتل الاعلامين والمحللين السياسين وتهديد كل من له رأي مغاير وباتت سطوة المليشيات المسلحة واستعراضاتها المستمرة تهدد ما تبقى للدولة من سمعة وهيبة في ذهن المواطنين.
في هذه الظروف بدأت تتبلور في الشارع العراقي افرادا وتيارات سياسية بعدم جدوى المشاركة في الانتخابات القادمة المزمعة اقامتها في اكتوبر القادم, وهي ليست مقاطعة عبثية كما يراد تصويرها من قبل احزاب السلطة, وان دعواهم للمساهمة في الانتخابات هي فقط لأضفاء شرعية نتائج انتخاباتهم والمحسومة سلفا, ولكن الأتجاه المقاطع للأنتخابات يستند الى اسباب وحيثيات رافقت العملية السياسية في العراق منذ ولادتها العسرة في عام 2003 والى اليوم وبالتالي فأن المساهمة في اوضاع محسومة مسبقا هو اشبه في المصادقة على مما تتمخض عنه صناديق الأقتراع في ظل هيمنة المتحاصصين حتى على نسبة مقاعد برلمانهم القادم. ان المقاطعة من قبل اوساط شعبية وسياسية متسارعة في وتيرتها لا يخالف الدستور, ففيه يكمن حق المواطن من المشاركة من عدمها ولكن المشاركة تكون مشاركة فاعلة حين تتوفر اجواء الحد الادنى من النزاهة وتكمن فيما يلي: تشريع قانون انتخابات عادل ومنصف, تشكيل مفوضية مستقلة ومحايدة, تطبيق قانون الأحزاب, توفير بيئة انتخابية سليمة, محاكمة قتلة المتظاهرين, محاكمة حيتان الفساد, حصر السلاح بيد الدولة . بالتأكيد ان المقاطعة المنظمة من قبل قوى الحراك المجتمعي ومن خلال اطر تنظيمية واضحة وبحجم التحديات المطروحة هي مهمة ملحة وذات ابعاد مصيرية تستهدف احداث خلل كبير في منظومة الفساد الجاثمة على صدور العراقيين منذ ثمانية عشر عاما.
وبقدر ما ترى الاحزاب الاسلاموية والاثنية الحاكمة والمتسلطة ان صناديق الاقتراع هي هدف لذاته للأستحواذ على السلطة وليست وسيلة لترسيخ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة فأن قوى المقاطعة المنظمة سوف تسهم في ترسيخ تقاليد ديمقراطية قوامها ان صناديق الأقتراع هي وسيلة من وسائل الديمقراطية لأعادة انتاج حكم سليم وشفاف بعيدا عن التزوير وحرق صناديق الاقتراع.