د. عامر صالح
الأثنين 16/3/ 2009
سيكولوجيا الأقصاء والأقليات الدينية والعرقية
الميكانيزم والأعراضد. عامر صالح
(أن يكون المرء لينا هو أن يكون أنقى من الثلج وأروع من اللؤلؤ)
فرانسيس بيكون
أن السياسة لاتستطيع القضاء على الدين,فهذا لاتقدر عليه أبدا لأنها ليست أسباب وجوده,وبالتالي فأن ديالكتيك العلاقة بين الدين والسياسة غير متوفر,وليست على نسق علاقة السبب بالنتيجة.وعندما تصبح الظاهرة غير قابلة للدراسة ضمن هذا المنظور,عندها يكون قضاء الأول على الثاني لحن نشاز.ولكن تستطيع السياسة تقضي أو تحد من نفوذ السلطة الزمنية أو على النفوذ السياسي لرجال الدين.وتجربة النظام السابق في العراق أو نظم أخرى في أنحاء العالم المختلفة لم تستطيع القضاء على الدين ولا على مذاهبه المختلفة.ولكنها بالتأكيد تمكنت من الحد من نفوذ رجال الدين في السياسة وفي الحياة العامة.أذا كنا مقتنعين بحقيقة ذلك,أذن لماذا تتجدد نوبات الاقصاء من جديد!!!.ولكنها هذه المرة بثوب آخر,حيث الديني يقصي الديني,وكلاهما كان واقعا تحت طائلة الاقصاء .فهل أخذ الديني فسحة أكثر مما ينبغي لكي يقوم بأقصاء الأخر الديني الذي لم يتمكن من شغل نفس الفسحة بفعل كينونته الموضوعية. ومن يمتلك الحق في ذلك!!!!.
لا يحق للمرء أن يدعي أيمانا أفضل من غيره,فحكم ذلك عند ربه,والاعمال هي المقياس الاول والاخير لمدى أيمان الفرد وأفضليته.وفي النصوص القرآنية ما يكفي لفهم ذلك,ففي سورة الاسراء,الاية84 (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو اهدى سبيلا),وفي سورة الشعراء وفي الأيتين89,88 على التوالي (يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم).
أما السنة النبوية فتزخر بالتأكيد على ضرورة الاعمال والتقوى باعتبارهما حدا فاصلا بين الأيمان وعدمه.يقول النبي(ص)"انما الأعمال بالنيات,وإنما لكل امرئ ما نوى" وفي حديث اخر" لا فرق بين عربي او اعجمي إلا بالتقوى".أذن هذا هو الحكم المعلن للسماء وللسنة النبوية .أما من آحكام الارض فلا يحق لأحد أن يفرض دينه أو أيمانه على الاخرين,مهما ظنه صحيحا.وليس لأحد أن يمنع الاخرين أما من ممارسة أيمانهم مهما ظنه خاطئا. تلك هي حرية العقيدة التي نادت بها الثورة الانسانية الاوربية التي قامت على انقاض سلطة الكهنوت الديني التي قامت على اساس صكوك الغفران,والتي مارست ارهابا دينيا وأستبدادا وتعسقا وجمود فكري ومعاداة للتقدم ,جسدتها محاكم التكفير,والتي كلفت اوربا ملايين الضحايا,حيث ارتكبت أبشع جرائم القتل والتعذيب الجسدي والنفسي.
ومن يزور متاحف اوربا الخاصة بالقرون الوسطى يجد ما يجده من أدوات التعذيب الجسدي التي أستخدمت انذاك (منشار يقطع الجسد الى نصفين,عجلة حديدية بأسنان طويلة مدببة تثرم الجسد,كرسي بمسامير طويلة في المقعد والتكية وأسياط بسكاكين صغيرة....الخ),عدا عن ما ينقله لنا التاريخ المكتوب من بشاعة التنكيل من شوي للجسد وتعليق على الابنية ,وقلع للعيون ومحارق جماعية للرجال والنساء والاطفال ، هذا هو الارهاب الديني الذي استخدم ضد أبناء العقيدة الواحدة وضد العقائد الاخرى ، أن ثمن الحرية في اوربا كان غاليا في توضح حدود العلاقة بين الدين والسياسة وفي احترام الحريات الشخصية والمعتقدات الدينية على السواء.
أن التجربة التاريخية تؤكد أن مصداقية أي نظام أجتماعي وسياسي يقوم على انقاض نظام سياسي اخر هو الاتجاه الامثل نحو أشباع حاجات أفراده وأن سعادة الانسان هي المقياس الافضل لمصداقية أي نظام وذلك هو منطق التاريخ. وعلى ذلك ايضا أتكأت ونشأت الحركات الدينية وأضفت على نشأتها الاولى بعدا ثوريا وابداعيا في مقارعة الظلم والفساد والعبث في الارض وعلى هذه الخلفية أيضا نشأ الاسلام تاريخيا على مبادئ دستورية هي: الشورى ، والحرية ، والمساواة والعدالة, وأن هذه المبادئ قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان وهو مضمون صالح جدا والاختلاف فقط في آليات التنفيذ.
واعتقد من هذه المنطلقات الاساسية العامة والمجردة من أي لون ديني لايهم هنا معرفة دين او مذهب زيد او عمر,ومن المنطقي والمهم ان نعرف بيئته الاجتماعية,وموقعه في علاقات الانتاج,ونشأته وأتجاهه السياسي.وتجربة تأريخنا العربي والاسلامي والعالمي القديم والمعاصر تشير بوضوح الى ان الكثيرمن الحكام المسلمين من كان ولايزال مستبدا,وكم من غير المسلمين من كان ولا يزال عادلا والعكس صحيح.أما عدا ذلك فيغدوا الدين وراثيا و مطلوبا لذاته دون اعتبار لتغير المحتوى وفقا لتغير الزمان والمكان,وتصبح الممارسة الدينيه الشكلية هي المطلب الاول ويصبح الدين فقط مجرد عادات ومشاعر وطقوس على مدار العام.ويفرغ الدين من محتواه الثوري الذي كان سببا في نشأته الاولى.
أن قيام نظام سياسي يؤمن بالديمقراطية والتعددية بكل ابعادها السياسية والدينية والعرقية يعني بالضرورة الابتعاد عن الخندقة الدينية والمذهبية والذي يسمح لمكونات البوتقة الوطنية بالتنوع في أطار خصوصيات مكوناتها والتعبير عن نفسها,الامر الذي يسهل على النظام السياسي الجديد أن يؤتي ثماره سريعا في عملية الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وخلاف ذلك فأن الخندقة الدينية للنظام السياسي وماتسوق ورائها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد ان يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين,وهذا ناتج من ان النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه اطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الاخر.وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لاتعرف المواطن الا من خلال الاوراق الثبوتية التي تشير الى اسمه الثلاثي او الاسم واللقب,أي رمزيته وخصوصيته في سجل الاحوال المدنية.أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا الى البحث (النبش) والتنقيب عن دين الاخر ومذهبه,ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتيه للتأكد من (سلامته) الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته.وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده ,والتي يفتخر بهما أي نظام ديقراطي.
ونحن نعرف ان الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لاتعجبك,والجميع ورثها من آباءه واجداده,فأنا شيعي,وانت سني,وهذا مسيحي,او صابئي او يزيدي. ولا اعتقد أن احد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة أنتماءه الديني او المذهبي لكي يفضي الى تغيره, اذا ما توفرت القناعة لديه,بل نبحث عن ادلة لتكريسه,لأنه مكون جمعي.وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين,شكل الانف,لون الشعر,طول القامه وهكذا.....الخ.
وعندما يسمح النظام السياسي لنفسه في الخندقة الدينية والمذهبية فأنه بالضرورة دفع الاخر الديني والمذهبي الى حصر الزاوية.وبهذا يكون قد عرض مكونات النظام الاجتماعي الى عملية اغتراب سياسي,تتجلى في ذهنية الاقليات المبعدة بأن هذا النظام ليست نظامه,بل أنه احد أسباب شقائه وأضطهاده. ويكون هذا بدوره مصدرا لأغترابات اوسع تطال مجالات الحياة المختلفة. فعلى المستوى الاقتصادي يشعر الفرد أنه ليست جزء من علاقات الانتاج الوطنية ومغتربا عنها؛وهو ليست جزء من النسيج الاجتماعي ,بل طارئا عليه او مشوها بأنتمائه اليه؛ مغتربا بعمله,حيث يشكل العمل الفعالية التي تمتع الانسان وتمتع حواسه وبالتالي يحس بالاغتراب عنه.وهنا قد نلتقي مع تعريف أستوكلز للاغتراب:" أن الاغتراب ينشأ من خبرات الفرد التي يمر بها مع نفسه ومع الاخرين,ولا تتصف بالتواصل والرضا ويصاحبها كثير من الاعراض مثل العزلة والاحساس بالتردد والرفض والانسحاب والخضوع".ويحصل ذلك بفعل صدمة الاقصاء المتواصلة التي يتعرض لها الفرد والجماعة.وتتضح ابعادها وانعكاساتها في ابرز الملامح الاتية : فقدان الشعور بالانتماء لفقدان الروابط النفسية مع المجتمع المحيط به؛عدم القدرة على التكيف مع المعايير لانها معايير ازدواجية؛العجز وعدم القدرة على الوصول للنتائج التي يسعى اليها الفرد,نتيجة لغياب الاطر النفسية المؤاتية للدائرة الاجتماعية المحيطة والتي تعتبر مصدرا لاغنى عنه في الوصول الى النتائج؛عدم الاحساس بالقيمة,حيث ان قيمة الفرد لايمكن الاحساس بها ذاتيا الا من خلال انعكاسات البعد الاجتماعي في صيرورتها؛ فقدان الهدف,أي عدم وضوح الاهداف لدى الفرد وعدم مقدرته على وضع اهداف لنفسه وعدم معرفته بالغاية من وجوده؛ فقدان المعنى وعدم قدرة على فهم الجوانب المتصلة به,فلا يدرك معنى لحياته او وجوده ولايحد ما يعيش من أجله؛ فقدان الامن النفسي والاجتماعي,حيث يشعر الفرد ان الامن العام ليست مكرسا لحمايته,بل للاطاحة به,وبالتالي يضع الامن الفسي للفرد عرضة لأنتكاسات مزمنة,قد تتضح اعراض ذلك في مختلف الاضطرابات النفسيه العصابية كالقلق,الضعف العصبي,الهستيريا,الخواف,توهم المرض,اعصبة الوساوس والقهر,الاكتئاب,والتفكك وغيرها؛او قد تبدو في صورة ذهانيات خطره ,كالفصام,والهذاءات (البارانويا),والهوس او ذهانيات الهوس والاكتئاب وغيرها.
وفي بلد مثل العراق كان من المفترض ان يأتي التغير السياسي الذي حصل عام 2003 (رغم ولادته القيصرية) بتغير جذري في كل مفاهيم الحكم والسياسة ويجسد فكرة الديمقراطية التي هدفها اشراك الجميع بعيدا عن التميز العرقي والطائفي والمذهبي ويعمل على بعث الصحة النفسية والعقلية في المكونات الاجتماعية. فأن لم تكن الاستفادة من الدول المرجعية التي انسأت ديمقراطيات مستقرة, فمن قوانين السماء التي تكره العبودية والاستغلال والتميز بين البشر,وتؤكد ان مقياس الانسان الصالح هو اعماله وليست دينه.