|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  9  / 3 / 2016                                 د. أكرم هواس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الاستعمار المستدام...

د. اكرم هواس *
(موقع الناس)


اولا اعتذر من قرائي العزيزات و الأعزاء كوني انقطعت لفترة و السبب يعود الى ردود فعل البعض من الناس ازاء مقالاتي الاخيرة التي يبدو انها أزعجتهم بشكل ما فكان ان جاءتني رسائل إعجاب من نوع "اخر"... !!!..

في المقالة الاخيرة تحدثنا عن الاستعمار اللولبي... و ذكرنا فيها ان الاستعمار يعمل وفق آليات ديمومة... و في هذه المقالة نتحدث عن هذه الديمومة و كيف توظف الرأسمالية القيم الثقافية لإعادة انتاج ذاتها...

احدى اهم آليات ديمومة الرأسمالية انها حولت الكثير من القيم الثقافية في التاريخ الحضاري الإنساني الى لعبة... او تجارة مربحة... ثنائية الصراع بين الحق و الباطل و الاستبداد و العدالة و الظالم و المظلوم و الغني و الفقير و القوي و الضعيف ...... و اخيراً الاستعمار و المقاومة ... كلها تحولت الى نفاق و تجارة... هل تتذكرون لعبة القط و الفأر "توم اند جيري"... أهمية اللعبة انها لا تنتهي... كلما اقترب احد الطرفين من الفوز يتذكر قيمة الصفح عن الاخر... لكن هذا الصفح او السلام لا يستمر الا لحظات حتى تعود لعبة الصراع من جديد....

هناك ايضا الدراما التي لا تتعلق فقط بالمتعة كما نتصورها و إنما يتعلق الامر بديمومة الحركة او ديناميكيتها.... هل سمعتم يوما قصة او حكاية عن شخص ولد و عاش و مات دون ان يكون هناك ظلم او حرمان او بطولة تنتهي بقتل....؟؟... حكايات مثل "قيس و ليلى" و "روميو و جوليت" و "شيرين و فرهاد"..... و غيرها مما تجد في اغلب الثقافات القديمة مثيلاً لها.... هي الحكايا التي تنعش ذاكرتنا و تربطنا بوجودنا و تفعل دورنا في حياتنا... هذا بالضبط ما فهمته الرأسمالية... و لذلك فان كل ما فعلته هو انها حولت هذه القيم و الأفكار و الرغبات الى واقع "شرعي" بدل الادانة و الاستنكار و اتخاذ المواقف البطولية...

الرأسمالية تتحدث حديث الأنبياء عن السلام ... و لكنها تتعامل مع الحرب تعامل الفرسان .... فهي تدخل الحروب بعيدا عن الأهل و الدار.... فتدعم هذه الجهة و تلك و تقبض الثمن.... انها تجارة الحرب حيث لا ينفع السلام ... بل ان الصراع هو الذي يديم دوران الحياة .... و لا ادري ان كان ماركس يدرك هذه الاشكالية .... او ان مفهومه للتطور على أساس انه هو نتاج صراع التناقضات.... كان اقراراً منه (من ماركس) و ربما بشكل مباشر بأهمية او "ضرورة" تفعيل الصراعات ... رغم الخسائر البشرية و الانكسارات الاخلاقية... لان تفعيل الصراع هو الأساس الأكثر نجاحا في خلق ديناميكية التقدم والتغيير .... لكن بغض النظر عن حقيقية ما كان ماركس يفكر فيه فان الواقع يشير بوضوح بان هذا المفهوم هو الذي يؤسس الان "للمنافسة" في المجتمعات الغربية... و النظام الديمقراطي يشرعن هذه المنافسة ... او "الصراع السلمي" في الديناميكية السياسية اي بين الحكومة و المعارضة و كذلك في المنظومات الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية و الثقافية ....

و رغم ان " المنافسة السلمية " تترك الكثير من الضحايا من أفراد و جماعات و شركات تجارية في المجتمعات الغربية او الرأسمالية عموما الا ان اهم الضحايا هم أولئك الذين يعيشون خارج المجتمعات الغربية.... فهؤلاء هم يقعون خارج "المدى السلمي" للصراع الرأسمالي... او فلنقل ان هؤلاء "الآخرون" يعيشون عند خطوط مسار عجلات الطاحونة الرأسمالية... و هذا يعني ببساطة ان طحن هؤلاء يعتبر "ضرورة" لتوفير الغذاء و الرفاه للمجتمعات الغربية...

بكلام اخر ... يبدو ان المعادلة التي توفر دينامكية الديمومة تتكون من طرفين متناقضين يمكن فهمها هكذا... عجلات طاحونة الرأسمالية تحتاج الى "اخرين" كي يكونوا وقوداً تتغذى عليها و لكنها ايضا في المقابل تحتاج الى "اخرين" قادرين على شراء ما تنتجه تلك الطاحونة... و هذا بالضبط يعني ان الغرب بحاجة الى "الفقراء العاجزين" و "الأغنياء الاغبياء"... ولذلك يدعم الغرب الطرفين المتناقضين .... "الظالم و المظلوم" و "الديمقراطي و الدكتاتوري" و "السلطوي و المحب للسلام" و "الضعيف و القوي" و... و... الخ حتى "القاتل و المقتول" و طبعا يربح في كلا الاتجاهين...

هذه الأيام تنتعش تجارة الحرب بشكل فاضح والتسميات تتجاوز المعقول و اللامعقول حيث تختلط المفاهيم القديمة "الاستعمار و المقاومة"... فالجميع يطلق على نفسه "مقاومة" حتى الاستعمار الذي "عاد كالعرجون القديم" يسمي ايضا نفسه "مقاومة قوى الشر" التي صنعتها يده ...!!!.. مفاهيم "مقاومة الاٍرهاب" و "ارهاب المقاومة" تختلط ... و الذين قضوا سنوات في مقاومة الاستعمار يتم وضعهم في خانة "أذرع الاستعمار الجديد".... والذين ساندوا الاستعمار بالمال و البنين على مدى عقود من الزمان يستولون اليوم على شعارات "المقاومة و التحرر"... وهكذا في النهاية تجد الجميع يقاتل الجميع بالرصاص والنار... واحيانا بالمماطلات والاجتماعات العقيمة.... مؤتمرات تنتهي ومؤتمرات تبدأ وكلمات تضامن مع هذا وذاك واستراتيجيات .... ولكن الشيء المؤكد ان عجلة الحروب هي وحدها التي تدور اكثر من غيرها ومعها تتوسع خارطة البؤس والمجاعات وموجات اللاجئين... وتزداد الاحقاد وتتمدد مصالح الصناعات العسكرية لتصنع أمجادها في عقول الاغبياء والعقلاء على السواء حيث لا طريق اخر يبدو سالكا غير طريق الحرب والدماء... شاء الأنبياء أم أبوا...

منطق الحرب هو الذي يديم التطور... هكذا كانت نظرية الخروج من الأزمات الكبرى .... نظرية كينز
Keynes الاقتصادية حول اعادة النظر في "العرض و الطلب" اوحت بشكل غير مباشر الى ضرورة خلط الأوراق ... كان ذلك إبان الأزمة الكبرى في الثلاثينيات من القرن الماضي... والحل الذي استوحاه عباقرة النظام الرأسمالي كان يكمن في شن حروب فجاءت الحرب العالمية الثانية التي شاركت فيها الولايات المتحدة وتلتها حروب كوريا وفيتنام وكمبوديا وغيرها في شرق اسيا وكذلك حروب الشرق الاوسط حتى انتعشت الحياة الاقتصادية في السبعينات والثمانينات...

الان ومنذ بضع سنين فان الأزمة الاقتصادية اشتدت مرة اخرى بشكل كبير مما وضعت معوقات شديدة امام أليات العولمة التي وضعت أساسا لضمان التوسع الاستعماري على أساس نهج "سلمي" و "تطوعي" بدلا من "الحرب المباشرة" والأساليب "القسرية".... لكن حروب أمريكا في أفغانستان والعراق التي جرت استجابة لمتطلبات سياسية أمريكية خاصة أطاحت بالكثير من منجزات فترة الانتعاش في الاقتصاد العالمي... لهذا عاد خيار الحرب والتدخل الاستعماري المباشر مرة اخرى ليكون افضل البدائل لاعادة انتاج او استدامة تطور النظام الرأسمالي ...

ولا بأس ان يفقد الناس أحبابهم ... !!!!... لان احتفالات التأبين وإقامة النصب التذكارية لهم هي ايضا ألية مهمة في دورة حياة التطور الرأسمالي ... لان هذه النصب ... كما هي الاثار القديمة ... تتحول الى مناطق سياحية يزورها الملايين وهكذا تقام فيها الفنادق والمطاعم وحفلات الرقص والغناء وستدر أموالاً كثيرة وهذه ستوفر الوظائف للكثيرين... من العمال والمستثمرين ... الخ... من كان يتصور ان منطقة تجارب نووية سوفيتية "
Kurchatov" في شمال شرق كازاخستان حيث ازيلت الحياة نتيجة قيام السوفيت بأكثر من 456 تجربة نووية فيها وحيث ما زال الأولاد يولدون بعاهات شديدة ... تحولت في الفترة الاخيرة الى منطقة سياحية... نعم بطريقة او اخرى فان الرأسمالية تخبرنا انها تنتج الحياة من داخل الموت نفسه... هل هناك استدامة اكثر من هذا...؟؟... حبي للجميع..

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter