|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  7  / 9 / 2015                                 عادل حبة                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مقارنة بين انقلاب "28 مرداد عام 1332 شمسي هجري"
المصادف (19 آب عام 1953) في ايران
وبين انقلاب 8 شباط عام 1963 في العراق

عادل حبه

اعتقال محمد مصدق في انقلاب عام 1953    والاجهاز على الزعيم عبد الكريم قاسم في شباط 1963

شهد العقدان اللذان تليا نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بشكل خاص، عشرات الانقلابات العسكرية التي دُبرت بغالبيتها من قبل وكالة المخابرات المركزية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية. فلقد بادرت الولايات المتحدة الأمريكية باللجوء إلى هذه الوسيلة ضمن مخططاتها وسياستها في أثناء المواجهة مع الاتحاد السوفياتي في أوج الحرب الباردة، إضافة إلى سعي الإدارة الأمريكية إلى ملأ الفراغ الذي أحدثه تقهقر الاستعمار البريطاني والفرنسي عن مستعمراته إثر تصاعد موجة الحركات الوطنية التحررية في غالبية المستعمرات وبدء إنهيار المنظومة الاستعمارية في العالم. ولعل أبرز هذه الانقلابات هو الانقلاب الذي دبّرته وأدارته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في إيران والتي أدت إلى الإطاحة بالحكومة الشرعية التي قادها الدكتور محمد مصدق في عام 1953، ثم تلاه الانقلاب الذي أطاح بالحكومة المنتخبة الشرعية برئاسة جاكوب أربنس في غواتيمالا عام 1954، والإنقلاب الدموي في العراق الذي أطاح بالحكم الوطني للزعيم عبد الكريم قاسم في عام 1963. وأعقبه الإنقلاب الدموي في أندنوسيا عام 1965 الذي حول البلاد إلى  حمامات دم طالت مئات الآلاف من أعضاء وأنصار الحزب والقوى الديمقراطية الأندنوسية.

جاكوب أربنس الرئيس الغواتيمالي ، أطاحت به المخابرات المركزية الأمريكية
1913 - 1971

والقائمة ستطول لو عرجنا على كل الانقلابات وأعمال التخريب التي دبرتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مختلف بقاع العالم.

ولكننا، وبمناسبة مرور 62 عاماً على انقلاب " 28 مرداد عام 1332 شمسي هجري" المصادف 19 آب عام 1953 ميلادي في إيران ضد حكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية، نود أن نلقي الضوء على أوجه التشابه بين هذا الانقلاب وبين الإنقلاب الذي دبرته نفس الوكالة في العراق والذي أدى إلى الحوادث المريعة في 8 شباط المشؤوم عام 1963. لم يكن للولايات المتحدة نفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط، خلافاً لنفوذها في بقاع أخرى من العالم، وخاصة في بلدان أمريكا اللاتينية. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية انفتحت شهيتها أكثر على هذه منطقة الشرق الأوسط بسبب، أولاً: تغلغل الاحتكارات النفطية الأمريكية إلى شبه الجزيرة العربية وعثورها على مكامن عملاقة من الذهب الأسود فيها، علاوة على ما اكتشف سابقاً من مكامن عملاقة في إيران وفي العراق والتي اجتذبت الولايات المتحدة واحتكاراتها النفطية للنفوذ فيها وأخراج منافيسها من هذا المجال الحيوي، وبالتحديد الاحتكارات البريطانية والفرنسية والاحتكارات الأخرى. كما عمدت الإدارة الأمريكية إلى هذه الوسيلة كي تعزز مواقعها في المواجهة الجارية آنذاك بين القطبين المتصارعين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.

ولذا أصبحت عيون حكام الولايات المتحدة مفتوحة على التطورات في هذين البلدين، العراق وإيران، بسبب امتلاكهما الخزين الكبير من النفط والغاز. وبات موضوع النفط والغاز يشكل الهمّ الأكبر والحساسية المفرطة لمخططي السياسة في الولايات المتحدة. وهذا ما يشكل أوجه الشبه بين الانقلابين الدمويين في إيران والعراق. انتخب البرلمان الإيراني أو المجلس في 28 نيسان عام 1951 د. محمد مصدق رئيساً للوزراء بأغلبية 79 صوتا مقابل 12 فقط. وفور استلامه المنصب أدخل مصدق وإدارته الجديدة مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية. فقد بدأ بتوزيع بدلات بطالة عن العمل، وأمر أصحاب المصانع بدفع مساعدات للعمال المرضى والمصابين، وسن المراسيم لتحرير الفلاحين من السخرة في مزارع الاقطاعيين. ووضعت حكومة مصدق 20% من أموال إيجارات الأراضي لتمويل مشروعات التنمية مثل بناء حمامات عامة ومشاريع الإسكان الريفي ومكافحة الأمراض. وفي 1 أيار من نفس العام، أي بعد يومين من استلامه السلطة قام مصدق بتأميم النفط الإيراني لأول مرة في تاريخ المنطقة، حيث ألغى الإمتياز الممنوح لشركة النفط الإيرانية - البريطانية الذي كان سينتهي سنة 1993، وقام بمصادرة أصولها. وفي الشهر التالي ذهبت لجنة من خمسة أعضاء في المجلس النيابي الإيراني إلى الأهواز لتطبيق إجراءات التأميم. وقد شرح مصدق سياسة التأميم في 21 أيار عام 1951 في خطابه التالي:
"لم نتوصل إلى أية نتائج مع الدول الأجنبية بعد سنوات طويلة من المفاوضات. فعائدات النفط تمكننا من تحقيق كامل الميزانية، وأن نكافح الفقر والمرض والتخلف. وهناك اعتبار آخر مهم هو أنه عندما نقضي على قوة تلك الشركة البريطانية، فإننا نقضي على الفساد والتآمر التي تأثرت بسببها شؤون بلدنا الداخلية. وعندما نوقف تلك الوصاية نهائياً فإن إيران تكون قد حققت استقلالها الاقتصادي والسياسي. فالدولة الإيرانية تفضل أن تتولى بنفسها إنتاج نفطها، أما الشركة فلا يجب عليها فعل شيء سوى إرجاع الممتلكات إلى أصحابها الشرعيين".

بعد تأميم النفط الإيراني، قدمت الحكومة البريطانية شكوى إلى مجلس الأمن الدولي ضد إيران. وتوجه الدكتور مصدق إلى نيويورك وقام بالدفاع عن حقوق الشعب الإيراني. ثم توجه إلى لاهاي وقدم توضيحاته ودفاعه عن حق إيران في تأميم ثرواتها النفطية أمام محكمة العدل الدولية. وتولى الدفاع عن الحق الإيراني المحامي هانري زولين الرئيس السابق لمجلس الشيوخ البلجيكي الذي رفض استلام أتعابه من الحكومة الإيرانية.

الدكتور محمد مصدق خلال التفاوض مع مبعوثي الدول الغربية والشركات النفطية الأجنبية

وأصدر قاضي المحكمة السر أرنولد مك ناير حُكم المحكمة لصالح إيران وبالضد من الشكوى التي قدمتها الحكومة البريطانية. ولكن إيران واجهت حملة مقاطعة وحصار اقتصادي شديد من قبل الحكومات الغربية والاحتكارات النفطية، مما أثر على الوضع الاقتصادي في إيران.

هذا الموقف يذكرنا لاحقاً بموقف مشابه للزعيم عيد الكريم قاسم حول نفس القضية، أي النفط. لنرى ما قاله الزعيم في إحدى خطبه أمام عمال النفط العراقيين:" لقد اجتمع وفدنا مع وفود الدول و الأقطار المنتجة للنفط، و قرروا تشكيل منظمة تطالب بحقوق الدول المنتجة للنفط. وهذه الخطوة و إن لم يحسب لها حساب في بادئ الأمر، إنما بعد التمعن فيها ترون إننا قد حافظنا نحن الدول المنتجة للنفط على حقوقنا و منعنا الشركات الاحتكارية من التصرف بحقوقنا. وهذه الخطوة هي الخطوة الأولى في تاريخ شركات النفط في العالم وتاريخ الشركات المنتجة، وهي التي ترى قوة من الدول المنتجة للنفط تقف امامها وتحاسبها بالعدل عن جهودها. إننا لا نريد أن نضيع جهود الشركات العادلة، لكننا لا نريد أن تعتدي هذه الشركات على حقوق الدول المنتجة للنفط. إن العراق لم يعد وحده في الوقت الحالي، بل أصبحت معه دول و اقطار أخرى توحد كيانها و توحد أهدافها تجاه تلك الشركات. و لقد اتفق وفد الجمهورية العراقية الخالدة مع وفود الدول المنتجة للنفط على قرارات صائبة تؤمن مصلحة البلاد المنتجة للنفط و لكنهم اتفقوا على ألا يذيعوا هذه القرارات إلا في يوم 24 من هذا الشهر، حيث تذاع من جميع الدول و الأقطار التي اجتمعت في بغداد عاصمة الجمهورية العراقية الخالدة سوف تبقى هذه المنظمة شوكة في عيون من يريد أن ينحرف عن الحق من الشركات الأخرى ."

ومن المعلوم أن تشكيل منظمة الأوبك جاء بمبادرة من العراق بعد الإخفاق في التوصل إلى اتفاق أثناء المفاوضات النفطية بين العراق والشركات النفطية العاملة فيه، ومن اجل إيجاد كتلة من الدول المنتجة للنفط ذات ثقل دولي للوقوف تجاه تعنت الشركات النفطية. فدعا العراق في 25 أب 1960 كلاً من السعودية وقطر وايران وفنزويلا والكويت (كانت امارة تحت الانتداب البريطاني) لحضور المؤتمر الذي تقرر عقده في بغداد بين 10 – 14 ايلول 1960، لاتخاذ موقف موحد تجاه الشركات النفطية و تخفيضها للأسعار.

مفاوضات العراق مع شركات النفط عام 1958- 1961

وأعقب ذلك صدور قانون رقم 80، الذي حدد سيطرة الاحتكارات النفطية على الأراضي العراقية باستثناء المناطق التي يجري الانتاج فيها، وتلاه إصدار قانون شركة النفط الوطنية العراقية. هذه الإجراءات تدخل ضمن سعي العراق لتأميم النفط، بل ومقدمة له.
لقد تشابهت ردود الفعل العدائية للدول الغربية وشركاتها النفطية الاحتكارية ضد سعي البلدين في الإصلاح واسترجاع الحقوق الحقة لشعبي البلدين في ثرواتهما. ويشير القاضي الأمريكي السابق للمحكمة الاتحادية ويليام دوغلاس:" لقد أصبنا بالرعب عندما شرع مصدق بإصلاحاته السياسية، ولذا تعاونا واتفقنا مع الانكليز من أجل إزاحته. ولكن منذ ذلك الحين لم يعد الناس في الشرق يذكروننا بالحسنى". وكما يشير الدكتور مصدق في دفاعه أمام محكمة الانقلابيين:"نعم..إن ذنبي الوحيد والذنب الأكبر هو أنني قمت بتأميم صناعة النفط في إيران وقلمت النفوذ السياسي والاقتصادي لأكبر الأمبراطوريات في العالم، وتحديت أكثر المنظمات الاستعمارية والجاسوسية رعباً..".

ونتيجة لذلك بادرت الولايات المتحدة وبريطانيا وأجهزة مخابراتها بالتعاون مع أتباعها في المنطقة إلى الاستعداد لحبك سلسلة من المؤامرات للإطاحة بالزعيم الوطني د. محمد مصدق في إيران، ولاحقاً الإطاحة بالزعيم عبد الكريم قاسم في العراق لنفس الأسباب تقريباً. بالطبع في المثل العراقي، يمكن أن يضاف إلى ذلك قيام العراق بعد 14 تموز بتفكيك حلف بغداد العدواني الذي تدعمه الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائها في مواجهة دول معاهدة وارشو.

في الوقت الذي تماثلت فيه ردود فعل الدول الغربية واحتكاراتها النفطية أزاء اجراءات مصدق وعبد الكريم قاسم، فقد تماثلت أيضاً مواقف تيارات و قوى داخلية في العراق وإيران ضد الإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها حكومتي البلدين. إن الشروع باتخاذ التدابير الجذرية من قبل الزعيمان في مجال التحولات الاجتماعية وتصاعد الزخم الشعبي وتجذر وعي الرأي العام ومطالبه في كلا البلدين، أدت إلى انتقال قوى محافظة ومؤسسات ورجال دين محافظين إلى جانب قوى الردة المناهضة للتحولات الإيجابية في إيران والعراق. ففي إيران على سيل المثال، حصل تحول جذري في موقف المرجع الديني الإيراني أبو القاسم كاشاني من مناصرة مصدق في البداية في قضية التأميم إلى معارض شديد تحالف مع الشاه وقوى خارجية من أجل إسقاط مصدق. لذا "صحا" الكاشاني واعتبر أن "الشاه رجل ذي تربية وحاصل على شهادة جامعية، وإن وجود الشاه هو مصدر جمع كل طبقات الشعب حول مركز واحد.... وإن سقوط الشاه معناه سقوط كل العمائم في البلاد". ويشير الكاشاني في مناسبة أخرى إلى أن:" مصدق خانني وخان البلاد، وإنه يستحق الاعدام حسب الشريعة الاسلامية لقاء خيانته، وإنه يسعى إلى إعلان الجمهورية في البلاد"!!. ولم يتردد أبو القاسم الكاشاني في مسعاه ضد مصدق في الحصول على مبلغ قدره 10 آلاف دولار من مخطط الانقلاب الجنرال الأمريكي كرميت روزفلت. ويشير مارك كازبورسكي عميل السي أي أي في مذكراته أنه:" في صباح يوم 19 آب قام إثنان من عملاء المخابرات المركزية وهما بيل هريمن وفرد زيمرمن بلقاء الكاشاني وسلموه هذا المبلغ".

ابو القاسم الكاشاني وسط "شقاوات طهران"، ومنهم شعبان جعفري المعروف بــ"شعبان بيمخ" (3) وطيب رضائي (5)،
الذين شاركوا في الانقلاب ضد مصدق ومطاردة أنصاره وأنصار حزب توده إيران

ولم تشذ المؤسسات الدينية في العراق بألوانها المعروفة عن هذا الموقف. فقد تطابقت مواقف هذه المرجعيات لأول مرة في تاريخ العراق الحديث ضد ثورة تموز وإصلاحاتها، رغم أنها لم تتفق على أبسط الأمور كتوقيت الاحتفال بموعد المناسبات الدينية وتحديد يوم العيد أو يوم الصوم وحتى يوم الحج، فالأعين تقع في دوامة العمى. لقد أصدرت هذه االمرجعيات بعد ثورة تموز عام 1958 عشرات الفتاوى التي تبيح القتل واستباحة الحرمات، بل وحتى تحريم دفن بعض رجال الدين الذين تعاطفوا مع الثورة وإجراءاتها.

فلقد أصدر آية الله محسن الحكيم فتوى ضد دفن جثمان السيد الجليل العلامة حسين الحمامي، وهو من الحجج في الدين في الصحن الشريف بحجة أن العلامة الحمامي نصير للشيوعيين. علماً أن الحمامي من أساطين العلم ومن المجتهدين في التشريع والفقه الديني.

 هذا التدخل النشط في السياسة وتسييس الدين من قبل المؤسسات الدينية هو خير مثال على الضرر الكبير الذي أحدثه تسييس الدين منذ ثورة المشروطة في إيران عام 1905 وحتى الآن على مجمل التطورات السياسية في إيران. وهو يشابه ما أحدثه تسييس الدين من إثارة للنعرات والتجاذبات الطائفية، وما جرّته من صراع دموي مذهبي في السنوات الأخيرة ومن تشرذم وقتل وسفك دماء وتخريب في العراق. ولم تترد هذه المرجعيات إلى مد اليد إلى أحزاب وتيارات متطرفة كحزب البعث وحزب التحرير والأخوان المسلمين لتحقيق مآربهم بالاطاحة بالحكم الوطني.

لقد كانت رائحة النفط قائمة في كلا الانقلابين. ففي المثل الإيراني، أُلغي بعد الانقلاب قانون تأميم النفط الإيراني الذي أصدره الدكتور محمد مصدق، وعادت الاحتكارات النفطية الأجنبية بقوة إلى الساحة بعد أن تغير تركيبها حيث حصلت الشركات النفطية الأمريكية في الكونسرسيوم النفطي الجديد على حصة الأسد، مزيحة بذلك الشركات البريطانية عن مواقعها السابقة. أما في العراق، فقد كانت أولى القرارات التي أصدرها الانقلابيون هو حل شركة النفط الوطنية وإبطال قانون رقم 80 الذي أصدرته حكومة الثورة، والذي يحد من تسلط الشركات النفطية الأجنبية على كامل الأراضي العراقية. هذا إلى جانب إلغاء قوانين اجتماعية تقدمية ترسي المساواة بين المواطنين العراقيين كقانون الأحوال المدنية والدستور العراقي المؤقت الذي أعتبر العرب والأكراد شركاء في الوطن، والتوجه من جديد نحو الطائفية السياسية بعد أن اتخذت حكومة الثورة خطوات جادة صوب إزالة الطائفية السياسية والتمسك بالهوية الوطنية.

وينبغي الاعتراف أنه ما كان باستطاعة قوى الردة والمحافظة أن تفلح في وقف التطورات الإيجابية في إيران في فترة تأميم النفط الإيراني، وفي العراق بعد ثورة تموز عام 1958 لولا الأخطاء الفادحة التي أرتكبها كل من الزعيم الوطني الدكتور محمد مصدق في إيران والزعيم عبد الكريم قاسم في العراق. وهنا يكاد يتطابق المثلان إلى حد غير قليل. لقد اتخذ الزعيمان قرارات إيجابية خطيرة لصالح بلديهما، مما أثار نقمة أطراف خارجية وداخلية معادية لمصالح الشعبين. ولذا عبأت هذه الأطراف كل طاقاتاها وإمكانياتها ومهاراتها كما أسلفنا لوقف التطورات الايجابية بشكل عام في كلا البلدين. ولكن لم يقدّر كلا الزعيمين حجم ما أقدما عليه. ولذا لم يتجها نحو تعبئة القوى في الداخل واستمالة قوة خارجية إلى حانبهما من أجل مواجهة الخطر المحدق بالبلدين والمؤامرت التي تحاك ضدهما، وذلك لدرء حمامات الدم التي يستعد لها الانقلابيون لسفك دماء شعبي البلدين. فمال كلا الزعيمين نحو تكريس الاسلوب الفردي في إدارة شؤون الدولة في الوقت الذي كان البلدين في أمس الحاجة إلى الرأي الجماعي و المشورة لجماية المكتسبات الإيجابية وسلامة البلدين .

مشهد الانقلاب في طهران عام 1953، والذي تكرر بعد عشر سنوات في بغداد عام 1963

فمن المعلوم أن اليسار في كلا البلدين، وتحديداً حزب توده إيران والحزب الشيوعي العراقي، كانا القوتين الفعاليتين اللتين تسعيان إلى تكريس الانجازات الإيجابية في كلا البلدين وتعميق العملية السياسية وتشذيبها من السلبيات كي تستطيع مواجهة الاخطاروالتحديات الخارجية. إلاّ أن زعامة البلدين ناصبت الجفاء و حتى الخصومة تجاه هذين الحزبين. ففي المثال الإيراني، لم يبادر الدكتور مصدق إلى إلغاء مراسيم الحضر على نشاط حزب توده والتي أقرت في عام 1949 بعد محاولة اغتيال شاه إيران في جامعة طهران، حيث ألصقت التهمة زيفاً بحزب توده. وبقي الحزب يعمل بسرية طوال عهد مصدق. وبقي أعضاء الحزب يلاحقون تحت طائلة تلك القوانين الجائرة، حيث زج الكثير منهم في السجون، رغم أن الحزب انتهج سياسة الدعم لحكومة مصدق في إجراءاته الايجابية، بما فيها تأميم النفط الإيراني. كما أن الحزب وضع كل إمكانياته تحت تصرف محمد مصدق خلال الفترة التي انتعشت فيها موجة التحضير للانقلابات، وساهم بالكشف عن بعضها. وأرسل الحزب بشكل سري بع الانقلاب بعض الضباط المنتمين إلى تنظيم "ضباط حزب توده السري" إلى السجن الذي أعتقل فيه مصدق من أجل تهريبه، بهدف الانتقال إلى محل آمن لتنظيم عملية مواجهة الانقلابيين وخططهم. ولكن مصدق رفض المقترح، وأفشل عملياً كل أمل بلجم الانقلابيين وأفشال خططهم. كما رفض مصدق المقترحات التي قدمتها قيادة حزب تودة إلى مصدق للتحرك المشترك ضد الانقلاب في صبيحة ذلك اليوم.

لقد وقع الدكتور مصدق تحت ضغط بعض أنصاره في "الجبهة الوطنية" التي تزعمها، ومنهم من إنشق عن حزب توده لدوافع فكرية مثل خليل ملكي. فقد عمل هؤلاء على التهويل والتحذير من "الخطر الشيوعي"، خطر حزب توده إيران ونواياه، بزعم أنه يهدف إلى التسلط على الحكم في إيران وربطه بالاتحاد السوفييتي. ووقع مصدق في الفخ إلى درجة أنه ارسل رسالة سرية الى الرئيس أيزنهاور قُبيل الانقلاب طالباً تقديم المساعدة الفورية ضد احتمال استلام السلطة من قبل الشيوعيين، كما طلب تقديم المساعدة المالية. ورد ايزنهاور برسالة رفض فيها تقديم المساعدة، وذلك بتاريخ 29 حزيران عام 1953، وأذيعت من راديو صوت أمريكا. وبالرغم من وجود معلومات مؤكدة لدى مصدق عن رموز الانقلاب، إلاّ أنه عينّ أحد أقربائه وهو الجنرال دفتري الضليع في الانقلاب حاكماً عسكرياً في العاصمة طهران ومديراً للشرطة الإيرانية مما وضع كل الإمكانيات تحت تصرف الانقلابيين.

ولم يتخذ الدكتور مصدق أية إجراءات تجاه مستقبل النظام السياسي في إيران بعد أن هرب رأس النظام شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى العراق، ثم لجأ إلى ايطاليا بعد فشل انقلابه الأول قبل يومين من نجاح الانقلاب الثاني. فقد كان مصدق على اعتقاد بضرورة :" الطلب من صاحب الجلالة بالعودة الفورية إلى إيران لأن تغيير النظام لا يؤدي إلى تقدم الأمة؟؟" (دکتر محمد مصدق، آسیب شناسی یک شکست. بقلم علي میرفطروس).

وعلى هذه الشاكلة كرر الزعيم عبد الكريم قاسم نفس الخطأ الفادح ووقع في نفس الفخ. فقد انهار في السنة الثانية من عمر الثورة التحالف غير المعلن بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي، الذي كان يشكل في الفترة الأولى من عمر الثورة صمام أمان ضد كل المحاولات الانقلابية والتخريب الداخلي والخارجي التي مورست ضد الجمهورية الفتية. ولربما تأثر عبد الكريم قاسم أيضاً بدعوات قوى داخلية وخارجية وأجهزة مخابراتية خارجية حول معزوفة "الخطر الشيوعي" والمزاعم التي كان يطرحها الصحفي الهندي "كارانجيا" الذي وصف عبد الكريم قاسم أثناء أحد لقاءاته المتكررة والممنهجة به بأنه "كيرنسكي العراق"، في إشارة منه إلى رئيس الوزراء الروسي المؤقت الذي أطاح به البلاشفة في ثورة أكتوبر عام 1917. وبالرغم من المحاولات المتكررة للتيارات القومية المتطرفة وتحذيرات الحزب الشيوعي ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، إلاّ أنه رفع شعار "العفو عما سلف"، وأعاد الضباط المتآمرين وأنصارهم إلى مواقع حساسة في القوات المسلحة، وفعّل أجهزة الأمن لمراقبة الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية، في حين تجاهلت هذه الأجهزة موجة النشاطات الاجرامية والاغتيالات ضد القوى المدافعة عن الجمهورية الفتية. كما أطلق عبد الكريم قاسم العنان للصحافة الصفراء المرتبطة بالانقلابيين للهجوم على القوى الوطنية والديمقراطية والحزب الشيوعي بشكل خاص، وألصقت بهم شتى أنواع الاتهامات الرخيصة المفبركة. كما بادر عبد الكريم قاسم إلى تصفية القوات المسلحة من الضباط الشيوعيين أو تهميش دورهم أو تقديمهم إلى المحاكم العسكرية والحكم على بعضهم بالاعدام. وعادت السحون العراقية لتحتضن من جديد نزلائها "التقليديين" الشيوعيين والديمقراطيين. ولم يجر الاكتفاء بكل ذلك، فقد راح الحكم بدعم فرد منشق من الحزب هو داوود الصائغ، ودفعته لتأسيس حزب ومنحته إجازة النشاط السياسي. هذا في الوقت الذي حُرِم الحزب الشيوعي العراقي من النشاط العلني القانوني رغم كل محاولاته بتبديل الأسم. ورغم ذلك استمر الحزب على تقديم المعلومات حول النشاطات الانقلابية دون جدوى، مما سهّل على الانقلابيين وحماتهم في الخارج جرّ العراق إلى كارثة شباط المأساوية عام 1963. وأرتكب الزعيم عبد الكريم قاسم نفس الخطأ الذي أرتكبه الدكتور محمد مصدق يوم الانقلاب. فلم يصغ الزعيم عبد الكريم إلى نصيحة ضباطه من شيوعيين وقاسميين إلى ضرورة الخروج من وزارة الدفاع والهجوم على بؤر الامقلابيين في عقر مخابئهم لتفادي الحصار في وزارة الدفاع. كما أنه لم يستجب لصوت الجماهير التي احتشدت حول وزارة الدفاع والتي طالبت بتوزيع السلاح من أجل دحر الانقلابيين والدفاع عن مطاسب ثورة تموز. وهكذا بقي الشعب بدون سلاح بعد أن حل الحكم المقاومة الشعبية، حصن الجمهورية الفتية قبل سنوات. واستطاع الانقلابيون بغدرهم فرض سطوتهم وشرورهم على الشعب العراقي، وارتكبوا أبشع المذابح التي يندى لها جبين الإنسانية، تماماً كما حدث في إيران بعد الامقلاب المشؤوم.

إن هذا التشابه في أحداث البلدين، حرم الشعبين من فرصة ذهبية كان من الممكن خلالها إرساء أنظمة مدنية ديمقراطية في بلدين يتمتعان بكل مقومات هذا البناء الحديث والتنمية والازدهار ومكافحة الفساد، فرصة تبعد الشعبين عن الكوارث التي حلت بهما منذ وقوع هذين الانقلابين المشؤومين وحتى الآن بسبب نشاط قوى الردة والتدخل الخارجي والتدخل العبثي للمؤسسات الدينية في الشأن السياسي والتلاعب بالمشاعر الدينية للمواطن البسيط، إلى جانب عدم إدراك قادة البلدين لحجم المخاطر التي تواجهما كي يتفادوا الأخطاء الخطيرة التي ارتكبوها.


6/9/2015





 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter