| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الثلاثاء 3/10/ 2006

 

 


يوميات ايرانية
( 21 )


عادل حبه

مرحلة الانتظار وصفوف اللغات
هناك حكمة يوردها الآباء والأجداد تحكي عن إن "الانتظار أشد من الموت". وعلى الرغم من صيغة المبالغة االمعتادة في الِحكم والامثال، وفي هذه الحكمة بالذات، إلا أنها تحمل قدراً من شعور واحساس كل من يعاني من حالة الانتظار. ففي الايام التي تلت وصولنا الى سجن قصر، تعرضنا لمثل هذه الاحاسيس والمشاعر. كنا نسمع الكثير من التوقعات والاحتمالات حول تعامل السلطات الامنية معنا. العراقيون الثلاثة الذين سبقونا الى السجن، وهم كل من وهاب ومحمد وحسين، كانوا يتوقعون ان يتم ترحيلنا الى العراق كما حصل بالنسبة للعشرات ممن سبقونا. اما بعض السجناء الإيرانيين فكانوا يتوقعون ان يتم اطلاق سراحنا لاننا لم نمارس اي نشاط ضد السلطات الايرانية، في حين توقع آخرون ان نقدم الى المحكمة العسكرية الخاصة بالملفات السياسية ويصدر حكماً قد يصل الى عشر سنوات او اكثر. وهكذا واجهنا حالة من الانتظار والتوقعات المتضاربة التي لا تجلب الاستقرار النفسي، ولا تساعد على ترتيب امورنا في السجن أيضاً، بقدر ما تجلب لنا القلق من المصير المجهول الذي ينتظرنا. في الحقيقة كنا في حالة اشبه بمن هو معلق في الهواء، ولا يدري الى اي مجهول ستقذف به الريح، وهو ما كان يثير لدينا الحيرة والتساؤل الدائم حول مصيرنا.
هذا الشعور الذي كان يشغل بال كل فريقنا، لم ينعكس على الشفاه، ولكنه بقي في دواخلنا دون ان يؤثر على معنوياتنا، وراح كل فرد منا يعمل بكل ما في وسعه للتخفيف من الآثار السلبية لحالة الانتظار. كنا نبحث عن الوسائل للتخفيف من المعاناة والقلق، والسبل لاستغلال الوقت الذي كان يذهب هدراً وبدون أية فائدة. لقد كان لدينا معين في الخروج من هذه الدوامة يتمثل في الخزين الهائل لتجارب أقراننا في العراق وقصص السجناء الشيوعيين الذين كانوا يحولون السجن من موقع لانتزاع المعرفة وفرض التجهيل على السجين الى مكان لزيادة المعرفة والمعلومات والتجارب الانسانية وإغناء المهارة. هذا المعين كنا نعايشه ايضاً في سجن قصر ونحن نرى كيف ان عدداً غير قليل من السجناء الايرانيين كانوا منغمرين في منحى مماثل لما يجري في سجون القمع في العراق. فالدراسة والمطالعة وتعلم اللغات كان من بين ما ينشغل به السجناء لاستثمار الوقت وعدم هدره.
وهكذا رحنا نسير على نفس السبيل. وبدأنا جميعاً، بإستثناء محمد علي سيادت الذي كان ملماً باللغة الفارسية، نسعى الى دراسة هذه اللغة بشكل منهجي، وبالاستناد الى الكتب المدرسية المعمول بها في المدارس الايرانية. كما وشرعنا بالعمل على محو الامية في اللغة العربية الام بين اعضاء من فريقنا وهم كل من محمد حسن عيدان ومحمد الحمداني تحديداً. ولم يقتصر الامر على ذلك، بل عمل بعضنا على تعلم اللغات الاجنبية كاللغة الانجليزية او الفرنسية. كما تطوع البعض منا لتدريس اللغة العربية الى من يريد تعلمها من السجناء الايرانيين. كما تطوع بعض السجناء بمهمة تعليمنا اللغة الفارسية. فبالنسبة لي تطوع لهذه المهمة احد السجناء وهو المهندس النبيل حسن فيروزي، من أهالي رشت عاصمة محافظة كيلان. لقد حكمت المحكمة العسكرية على فيروزي بالسجن لمدة 15 سنة بتهمة عضويته في حزب توده ايران، وبتهمة إيواء سكرتير حزب توده ايران السابق الدكتور مرتضى يزدي في بيته. كان فيروزي يقضي الاشهر الاخيرة من محكوميته. لقد ابدى المهندس حسن فيروزي تعاطفاً ولطفاً معنا، و كان يتمتع بقدر ملحوظ من الثقافة ويجيد عدداً من اللغات الاجنبية ايضاً الى جانب اجادته للغة الام الفارسية. وفي الحقيقة ان ما جلب انتباهنا هو ان السجناء من اعضاء حزب توده كانوا الابرز في ميدان الثقافة والمعلومات قياساً بأقرانهم السجناء السياسيين الايرانيين. وهكذا افتتحت لنا "صفوف جديدة لمحو الامية من اللغة الفارسية" في السجن لكي نتعلم هذه اللغة بإسلوب منهجي وعلمي.
كان لابد لمعلمنا العزيز حسن فيروزي ان يبدأ بإلقاء محاضرة اولية عن هذه اللغة الجديدة ويعرفنا عليها. لقد حافظت اللغة الفارسية على وجودها رغم اعاصير الزمن، بل وتحدثت بها شعوب أخرى، او اصبحت مصدر ثقافتها. إن الايرانيون، والفرس تحديداً، واعتزازاً منهم بلغتهم، شأنهم شأن سائر خلق الله، يعتبرون اللغة الفارسية "السكر"،"فارسي شكراست"، ويعدونها لغة الشرق الفرنسية، كما يحلو لهم تسميتها، لحلاوتها ورقتها ورنينها وموسيقاها وخاصة عندما تصدر من شفاه الصبايا والفتيات الايرانيات أو من قبل معشر الغناء والطرب. ويعبر الشاعر المشهور سعدي الشيرازي بمهارة عن هذا الاعتزاز بلغتهم حيث قال:

                   من ديكر شعر نخواهم بنويسم كه مگس
                                             زحمتم مى دهد او بس كه سخن شيرين است


ويعني الشاعر بهذا البيت: انه سوف لا ينظم الشعر لكي يتفادى تجمع الذباب ومعاكسته بسبب من حلاوة الكلام.

ولا يتحدث الفرس لوحدهم عن "حلاوة" لغتهم فحسب، بل وتحدث عنها العديد من المستشرقين الاجانب. ان ويليام جونز (1746-1794)، المستشرق الانجليزي وخريج جامعة اكسفورد، والضليع باللغات الشرقية – العربية والفارسية والهندية والصينية والسنسكريتية-، اضافة الى اجادته اللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية، ترجم لاول مرة اشعار ابو القاسم فردوسي الى الانجليزية والفرنسية، اضافة الى ترجمته لاشعار حافظ شيرازي ومثنوي، واعتبر ان اللغة الفارسية "احلى" لغات الشرق قاطبة.
لقد تغلغلت اللغة الفارسية الى عدد من لغات الشعوب المجاورة كالعربية، حيث يوجد العديد من المفردات الفارسية في القرآن الكريم الى جانب ما يوجد من مفردات فارسية في كنوز الادب العربي الاخرى، ناهيك عن تغلغلها الى اللهجات الدارجة في العراق وبعض بلدان الخليج. ودخلت المفردات الفارسية الى اللغات التركية والهندية والبشتونية والاردوية وغيرها. كما ان اللغة الفارسية استوعبت مفردات كثيرة من اللغة العربية والتركية والآذرية والهندية وحتى لغة المغول القديمة.
تعتبر اللغة الفارسية أحد فروع اللغات الهندية–الاوربية الآرية، وبذلك فهي تختلف عن اللغات السامية، والعربية منها، في قواعدها واشتقاقاتها وتركيبها. كما تعد اللغة الفارسية احد فروع لغة الماديين ومنها الكوردية ايضاً. وشهدت هذه اللغة ثلاث مراحل في تطورها. فقد جرى التحدث بالفارسية القديمة في العهد الهخامنشي في القرن السادس قبل الميلاد. وعثر على آثارها في النقوش الحجرية المنحوتة بالحروف المسمارية والتي اقتبست من حضارات بلاد مابين النهرين كالسومرية والبابلية والكلدانية. اما الفارسية الوسطى، فقد تم تداولها في الفترة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد الى القرن الثاني بعد الميلاد. وقد كتبت اللغة الفارسية آنذاك بالحروف الآرامية التي نشأت ايضاً في بلاد ما بين النهرين. ثم تلاها استخدام الفارسية الفهلوية الاشكانية التي شاع تداولها في القرن الثالث الميلادي ومروراً بعام 651 ميلادية مع احتلال الجيوش العربية الاسلامية لبلاد فارس، واستمرت بصيغة الفهلوية الساسانية حتى القرن السادس الهجري. وأخيراً ظهرت الفارسية الحديثة وهي الفارسية الدرّيه، اي فارسية الوادي، وهي صيغة متطورة للفهلوية الساسانية، وقد استخدمت الحروف العربية. ويتحدث باللغة الفارسية اليوم قرابة 150 مليون نسمة يستوطنون بالاساس في كل من ايران وافغانستان وطاجيكستان.
لقد دخلت المفردات العربية تدريجياً الى اللغة الفارسية بعد نشر الاسلام في بلاد فارس، وتحديداً منذ القرن الخامس الهجري، حيث اصبحت مرادفة تقريباً للغة الفارسية في هذه الاصقاع. وتشكل المفردات العربية الآن بين 40% الى 60% حسب آراء اللغويين. ان من يتجول في شوارع طهران واماكنها العامة اليوم، يتكرر أمامه، على سبيل المثال، لافتات التحذيرات المرورية أو منع التدخين وبالعبارات التالية:"عبور ومرور وسايل نقليه اكيدا ممنوع است"، او "استعمال دخانيات اكيدا ممنوع است"، فلا يوجد في هذه الجملتين الا مفردة فارسية واحدة وهي "است"، وهو الفعل المساعد في اللغة الفارسية، اما بقية مفردات الجملتين فهي كلها عربية خالصة.
ان ما ساعد على انتشار اللغة العربية، أضافة الى كونها لغة الحكم الجديد، هو انها اصبحت لغة الحضارة الجديدة، خاصة بعد ان تم ترجمة آلاف المؤلفات من مختلف اللغات الحية القديمة والحديثة وبكل فروع المعرفة الى اللغة العربية، بحيث اصبح من غير الممكن على اي مبدع او باحث او مثقف او عالم في تلك الحقبة ان يخوض مجال الابداع بدون تعلم لغة الحضارة الجديدة، لغة الضاد.
ولكن على الرغم من هذا التغلغل الواسع لمفردات اللغة العربية في اللغة الفارسية، الا انه تم الحفاظ على هيكل واساس اللغة الفارسية. ويعود السبب في ذلك الى ان الفرس، وتحديداً رجال الدين الزرادشتيين، دونوا عدداً من الكتب باللغة الفهلوية مباشرة بعد سقوط الامبراطورية الساسانية. ان اكثر واشهر الكتب التي مازالت محفوظة الى الآن باللغة الفارسية هي: "دينكرت" الذي يحكي عن آداب وتقاليد وروايات وتاريخ الادب الفارسي والذي الفه "آذر فرن بغ"، وكتاب "بندهش" حول الخليقة، و"داتستان دينيك" حول الدين الزرتشتي، و"آذر ويرافنامه" حول الجنة وجهنم، وغيرها من الكتب. كما ان الفرس كانوا اول من ترجم القرآن الى لغتهم ومباشرة بعد وصول الجيوش العربية لبلادهم، وبذلك استطاعوا ممارسة طقوس الدين الجديد بلغتهم الام وليس باللغة العربية. كما و أنهم درسوا اللغة العربية بشكل واسع وعميق، حيث اصبحت العربية اللغة الرسمية ولغة الادب والعلم والتخاطب ايضاً في بلاد فارس في عصور تلت اعتناق الاسلام. لم يتعلم الايرانيون اللغة العربية بحد السيف كما اراد الحجاج بن يوسف و قتيبة الباهلي الذين دق اعناق الناطقين بالفارسية ومن رفض التحدث بالعربية لاجبارهم على النطق بها فقط. ان الناطقين باللغة الفارسية تعلموا لغة الضاد عندما اصبحت لغة حضارة وإبداع وإزدهار في ذلك الزمان بلا منازع، وليس لغة إذلال وبطش، وهي عبرة لجميع من يمارس لغة الاكراه.
لقد عمل فريق من اللغويين الفرس كسيبويه ابو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (140ه-756م)، تلميذ عالم اللغة البصري النابغة الخليل أبن احمد الفراهيدي، في البحوث اللغوية العربية. ولقب سيبويه بـ "امام المتقدمين والمتأخرين" في علم النحو، وقام بتدوين مؤلف كبير من عدة اجزاء حول قواعد النحو العربية. ولم ينشر هذا المؤلف الا بعد وفاته، حيث سمي بعد وفاته المبكرة بـ "الكتاب". وقدم سيبويه الى جانب عدد من اللغويين الفرس خدمة كبرى لا تقدر بثمن في تطوير لغة الضاد ونشرها والحفاظ عليها.
ولم يقتصر الامر على البحوث اللغوية العربية فحسب، بل تعداداها الى ميدان الابداع الادبي. إن شاعر الفرس الشهير خواجه شمس الدين محمد حافظ الشيرازي، على سبيل المثال وليس الحصر، شأنه شأن العديد من شعراء بلاد فارس في العهود التي تلت نشر الاسلام في تلك الديار، قد انشد الشعر باللغتين العربية والفارسية في آن واحد وببلاغة عربية تثير الدهشة. إنهم أحبوا لغتهم ونشروا إبداعاتهم بها، دون ان يتعصبوا اليها ويتركوا لغة اجنبية يمكن ان يبدعوا بها. وهذا هو سر عظمة هؤلاء المبدعين الذين كان جل همهم الابداع والانفتاح على المعرفة وليس التعصب الاعمى الذي نشاهده عند البعض في بلداننا لهذا العرق او ذاك، او لهذه الثقافة اوتلك، وشطب معارف وثقافة الآخرين.


خواجه شمس الدين محمد حافظ الشيرازي

ففي مقدمة ديوانه المعروف "حافظ نامة"، أي "رسالة حافظ"، كتب قصيدة جميلة كان صدر البيت الاول فيها باللغة العربية وعجزه باللغة الفارسية، حيث أنشد:

       الا أيها الساقي أدر كأساً وناولها                كه عشق آسان نمود اول ولي افتاد مشكلها

ان العجز في البيت يشير الى أن " العشق يبدو في بادئ الامر يسيراً، ولكنه يتضح لاحقاً انه لا يجلب الا الهوان".
كما انشد البيت الاول التالي باللغة العربية في قصيدة غزلية باللغة الفارسية:

                سليمى منذ حلت بالعراق                           ألاقي من نواها ما ألاقي

وسار على نفس المنوال شعراء عظام من بلاد فارس، ومنهم شيخ مصلح الدين سعدي شيرازي، صاحب "ﮔلستان"، اي "جنينة الورد"، و"بُستان". فقد كتب الشيرازي حوالي 28 قصيدة عصماء مضامينها الغزل والموعظة والحكمة والفلسفة في ابيات غاية في الفصاحة والبلاغة العربية وعمق معانيها. ولعل قصيدته في وصف بغداد وهي تداس وتدمر إثر حملة المغول، تذكرنا بما تتعرض لها بغداد عروس دجلة اليوم من دمار وقتل اهلها على يد جلاوزة العهد الصدامي وفلول عصاباته علاوة على صادرات بعض البلدان الاقليمية من التكفيريين والملثمين واللطامة والحواسم والحرامية والمجرمين وخاطفي الدين والمتخلفين والظلاميين وضاربي أعناق العراقيين. فالنابغة الشيرازي يقول في بغداد المنكوبة الحزينة في عهد غزو البرابرة المغول، وكأنه حاضراً معنا الآن، قصيدة بلغت 91 بيتاً، انقل ابياتاً منها:

          حبست بجفني المدامع لا تجري                فلما طغا الماء استطال على السكر
          نسيم صبا بغداد بعد خرابهــــــا                تمنيت لو كانت تمر على قبــــــري
          لأن هلاك النفس عند أولى النهى              أحب له من عيش منقبض الصــدر
          طبيباً جس نبضي مداويـــــــــاً                 إليك،فما شكواي من مرض تبـري
          لزمت اصطباراًحيث كنت مفارقاً              وهذا فراق لا يعالج بالصبــــــــــــر
          تسائلني عما يوم حصرهــــــــم                وذلك مما ليس يدخل في الحصـــر
         أديرت كؤوس الموت حتى كأنه               رؤوس الاسارى ترجحن من السكر
         لقد ثكلن ام القرى ولكعبـــــــــة               مدامع بالميزاب تسكب في الحجــر
         بكت جدر المستنصرية ندبــــــة              على العلماء الراسخين ذوى الحجر
         نوائب دهر ليتني مت قبلهــــــا                ولم أر عدوان السفيه على الحبـــر
         محابر تبكي بعدهم بسوادهـــــا                وبعض قلوب الناس احلك من حبر
                    ....
                    ....
         نعوذ بعفو الله من نار فتنـــــــة               تأجج من قطر البلاد الى قطـــــــــر
         كأن شياطين القيود تفلتـــــــت                فسال على بغداد عين من القطــــــر


                         ........... الى بقية الابيات

ولم تقتصر مساهمة علماء ومبدعي بلاد فارس على ميادين المعرفة والابداع بل تعداها الى الميادين الدينية والاجتهاد بها الى جانب اقرانهم من العرب وغير العرب. فالامام الجليل ابو حنيفة النعمان بن ثابت كان من جهابذة اللغة العربية ومن الائمة المجتهدين في الشرع الاسلامي، والذي يلتحف بثرى بغداد في مقامه المعروف في الاعظمية. كما اقدم العديد من علماء الدين الفرس بنقل وتدوين احاديث النبي محمد كالامام الصحّاح البخاري صاحب "صحيح البخاري"والامام مسلم النيشابوري والامام ابو داوود والترمذي والنسائي. اما الامام عبد القادر الكيلاني (1077م)، الذي تحتضن بغداد رفاته في وسط بغداد في محلة باب الشيخ، فهو صاحب الفرقة الصوفية القادرية المعروفة ليس في العراق، بل في بقاع المسلمين الاخرى.


شيخ الطريقة عبد القادر الـﮔيلاني

وتحتضن بغداد ايضاً رفات احد اعلام الفلسفة والشريعة والتصوف في القرن الثاني عشر وهو شهاب الدين السهروردي (1153-1191م)، من أهالي شاهرود في شمال ايران، وشيخ الاشراق، وصاحب "حكمة الاشراق"، ونصير الفلسفة العقلانية والتصوف والفكر الاشراقي. وقد حكم عليه بالموت جوعاً في عام 1191 في حلب لا لشئ الا بسبب قوله "ان الله قادر على خلق انبياء جدد، لانه قادر على كل شئ"!!!.
الا ان التغلغل اللغوي والثقافي والديني العربي الذي صاحب احتلال العرب لبلاد فارس، صاحبه ايضاً نزوع عند بعض الادباء والمتنورين الفرس الى للحفاظ على نقاوة لغتهم من تسرب المفردات الاجنبية، وخاصة العربية، اضافة الى الحفاظ على دينهم القديم. وقد انعكس ذلك على وجه الخصوص في ملحمة "الشاهنامه" الرائعة التي ألفها الشاعر والفليسوف والملحمي ابو القاسم الفردوسي. فالقارئ لا يعثر في هذا الديوان الملحمي على ايّة مفردة عربية، بل اقتصر المنشد على استخدام المفردات الفارسية او الفارسية القديمة ولغة الماديين. ويقال ان الفردوسي كان قد سافر الى جبال كردستان خصيصاً من اجل البحث عن المفردات الاصلية، حيث حافظ السكان في هذه المناطق على اللغة القديمة وكانوا بعيدون جغرافياً عن تداول لغة القادمين الجدد او التأثر بها، وذلك من اجل تدوين ملحمته الشهيرة بلغته الام. ومع ذلك بقيت اللغة العربية والى الآن مصدراً من مصادر المعرفة اللغوية في اللغة والادب الفارسي. ولذلك يجري تعليم اللغة العربية في المدارس الاولية في ايران لحد الآن ولو بشكل ممل لايجذب التلاميذ ولا يعلمهم لغة الضاد وبلاغتها.
مرت اسابيع ثم اشهر ونحن نقلب بنهم صفحات الكتب المدرسية في اللغة الفارسية وبإشراف من معلمنا دون تعب او كلل. وإزداد الشوق الى تعلم هذه اللغة كلما تقدمنا خطوة الى الامام في ميدان الاحاطة بها. ومما سهل إلمامنا السريع بها هو اننا كنا نعيش في بيئة للناطقين باللغة الفارسية. واضافة الى ذلك فإن احرف هذه اللغة هي نفسها احرف لغتنا العربية. اما العامل المؤثر في استيعابنا السريع لهذه اللغة فهي، كما اشرت سابقاً، كثرة المفردات العربية في هذه اللغة الهندو- اوربية. وبالطبع يمكن الاشارة الى عامل آخر وهو سهولة اللغة بسبب ما طرأ عليها من اصلاحات. فليس في هذه اللغة لا المثنى ولا المؤنث ولا الكثير من التعقيدات والصعوبات في قواعدها ونحوها. لقد كان من اليسير علينا ان نستعين ببعض مصادر الافعال العربية ونضيف لها افعال العلة والمساعدة باللغة الفارسية لنحولها الى مصادر افعال في اللغة الفارسية. فعلى سبيل المثال، فان المصدر "صبر" في العربية يتحول بسهولة الى مصدر في الفارسية اذا اضفنا اليه الفعل المساعد "كردن" في اللغة الفارسية. وهكذا يمكن تحويل قدر كبير من مصادر الافعال العربية الى الفارسية عن هذا الطريق. ولا يبقى عندها الا تصريف هذا المصدر واستخدامه في جمل مفيدة. وتتميز اللغة الفارسية بقدرتها على التركيب لتكوين مفردات جديدة تتماشى مع التطور الاجتماعي او العلمي بما فيها العلوم الحديثة. ففي ايران لا يوجد حيوان الزرافة، على سبيل المثال، فما كان من علماء اللغة عندهم الا ان جمعوا بعض صفات الزرافة البدنية ليكونوا مفردة لهذا الحيوان. فجلد الزرافة يشبه جلد النمر، وقامتها اشبه بقامة الجمل، واجترارها للطعام هو على غرار اجترار الثور لطعامه. ومن هذه التشكيلة سميت الزرافة بـ "شترﮜاوبلنگ"، حيث ان (شتر= الجمل) و (ﮜاو= الثور) و (بلنگ = النمر). ونفس الامر ينطبق على النعامة حيث يسميها الناطقون بالفارسية " شترمرغ"، اي "الجمل الدجاج". ويمكننا العثور على كم من هذه التراكيب اللفظية المماثلة بما في ذلك الاصطلاحات العلمية الحديثة في اللغة الفارسية الدارجة الآن. ان بعض السجناء كانوا يتندرون على هذه القاعدة ويستخدمونها في الضحك والدعابة والتسلية دون ان يكون لها مكان في قاموس اللغة. فالباذنجان هو نفسه باذنجان في اللغة الفارسية، ولكن من باب التندر يطلق البعض عليه اسم "مرغ سياه بي نفس"، اي "دجاجة سوداء بدون روح"، كما يطلقون على "آفتابه" أي "الابريق" المستخدم في المرحاض، مفردة تركيبية للتندر وهو "ناموس شور" اي "غسّال الناموس". ويبدع الايرانيون اكثر بهذه التراكيب بطبعهم الظريف و اختراع ما يثير البهجة في نفوسهم.
مرت اشهر وانسجمنا الى حد بعيد مع هذه اللغة وبدأنا نخطو الخطوات في قراءة الكتب وحتى الكتابة باللغة الفارسية، مما ساعدنا على فتح أبواب التعرف على كنوز الادب والفن والثقافة والتاريخ والعادات والتقال في بلاد فارس وايران بشكل عام، وبمساعدة من الاصدقاء الاعزاء الايرانيين.
ولم يقتصر اهتمامي على دراسة اللغة الفارسية فحسب، بل رجوت صديقنا العزيز مجيد أمين المؤيد بتعليمي اللغة الفرنسية. وقد استجاب هذا الصديق مشكوراً وجلب 4 اجزاء من كتاب درسي لتعلم الفرنسية واسمه "موجيه"، يستخدم لتعلم اللغة في معاهد تعليم اللغة الفرنسية خارج البلاد. ورحت استمع الى محاضرات صديقنا العزيز بدأب ونشاط حتى اكملنا الجزء الرابع من كتاب تعلم اللغة الفرنسية بعد مرور بضعة اشهر. ولم يتسنى لي تطوير معرفتي بهذه اللغة بسبب ندرة من يتكلم بها داخل السجن، اضافة الى انني شعرت انها اكثر صعوبة من اللغة الانجليزية والروسية ناهيك عن الفارسية ولغة الام العربية. كما قام العزيز سعيد مسعودي بإغناء معارفه باللغة الانجليزية بمساعدتي. ورحنا سوية بالعمل لتعميق إلمام محمد حسن عيدان ومحمد الحمداني باللغة العربية.

يتبع
 

¤ الحلقة العشرون

¤ الحلقة التاسعة عشر

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى