| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الأحد 11/9/ 2005

 

 

 

هل هي مسودة واحدة او مسودتان للدستور؟
 


عادل حبة

بعد مخاض عسير ونقاشات طويلة في اطار لجنة صياغة الدستور وخارجها، طرحت على الرأي العام العراقي المسودة التي تمت صياغتها وقبلت بها غالبية الرموز المشاركة في الجمعية الوطنية وتم رفضها من قبل البعض ممن هم خارج الجمعية الوطنية. وهو امر يمكن النظر اليه في اطار التقليد الديمقراطي الذي ينشده العراقيون فهناك من هو موافق ولابد ان يوجد من يرفض هذه المسودة.

المسودة بشكلها العام كما تبدو من القراءة السريعة الاولى وكأنها تحقق حلم العراقيين في طي صفحة الاستبداد البشع الذي عانوا منه خلال العقود الاربعة الاخيرة على وجه الخصوص. وان تطبيق هذه المواد بشكل صحيح قد تفتح الطريق امام العراقيين امام ممارسة حرياتهم والعيش في كرامة كمواطنين احرار وليس كغرباء او عبيد في وطنهم. وهذاما يتمناه كل عراقي يخلص لهذا الوطن العزيز. ولكن، ومصيبتنا في هذه "اللاكن"، يصطدم كل من يطالع المسودة بحقيقة مفادها ان المسودة قد كتبت بعقليتين متعارضتين بل وان هناك مسودتان للدستور وليست واحدة. وليسمح لي القارئ الاشارة بشكل سريع وعام الى بعض جوانب التناقض التي يتضمنها الدستور المقترح.

في البداية لا بد من الاشارة الى ان المسودة، او المسودتان، تنقصها اللغة القانونية والدستورية واحتوت على عبارات تفتقر الى الدقة من الناحية القانونية وقابلة للتفسير المتنوع وحمالة اوجه، اضافة الى نصوص هي اقرب الى الشعارات السياسية منها الى الدساتير. إنه قصور سبق التنبيه الى خطورته عند تشكيل لجنة صياغة الدستور التي تكونت في غالبيتها من شخصيات سياسية لكنها بعيدة عن الممارسة القانونية والخبرة في هذا المجال. ولهذا اتخذت المسودة مضامين لغة اقرب الى لغة البلاغات السياسية منها الى لغة النصوص القانونية وهو ما سيعرض الدستور الى الكثير من الاشكاليات اثناء تطبيقه. كنا نتمنى ان يصار الى تشكيل لجنة من الشخصيات القانونية والاكاديمية لوضع هذه المسودة لا ان يحتكر هذه المهمة الاخوات والاخوان السياسيين من اعضاء الجمعية الوطنية.

لا بد من الاشارة الى مقدمة المسودة وديباجتها التي تثير الكثير من التساؤل والعجب. انها اشبه بتعويذة منها الى ديباجة دستورية قانونية. كما انها تتعارض كلياً مع فقرات في مسودة الدستور نفسها. ففي هذه الديباجة هناك وضوح لا يقبل الجدل في الانحياز الى طائفة دينية دون الاخرى، والا فما معنى ما جاء في المسودة من فقرات مثل "اصرار مراجعنا العظام.." و "مستذكرين مواجع القمع الطائفي ضد الاغلبية .."، هذا اضافة الى ما ورد في المادة 40 وفي الفقرة أ الى "ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية"، التي تعبر عن التلويح لصالح طائفة دينية دون الاخرى وهو امر يتناقض مع نصوص اخرى في المسودة تدين الطائفية وتلمح الى اضرارها. وهنا فإن المسودة بدلاً من ان تطوي صفحة ظاهرة التمييز الطائفي المشينة للسلطات السابقة تعيد هذه الظاهرة بوجهها الآخر وهو امر لا يكرس الاستقرار الاجتماعي في البلاد. اعتقد انه لا توجد اية مسوغات لمثل هذه الديباجة والمقدمة، ولذا ينبغي حذفها من الديباجة والاقتصار على مقدمة قصيرة.

اضف الى ذلك فإن الديباجة وفقرات اخرى في المسودة تضع رجال الدين والشيعة منهم على وجه الخصوص في مقدمة من ضحوا في هذا البلد وتعرضوا الى الانتهاكات والتصفيات على يد النظام المقبور، كمسعى للتيار الديني الشيعي السياسي لوضع هالة من القدسية على هذه الفئة من رجال الدين واحتكارهم للسلطة. وهو امر غير واقعي من ناحية ومن ناحية اخرى فإن هذه النزعة تثير الخصومة بين الناس عندما يجري التمييز بين الضحايا وهم بمئات الالاف من العراقيين من كل صوب. انا اتساءل لماذا لا يشار الى اول من تعرض الى التصفيات وهم بالالاف من الشيوعيين والديمقراطيين الذين لم يتم العثور على مقابرهم منذ شباط الاسود عام 1963؟ هذا الى جانب الناس البسطاء، وهم الاكثرية، الذين ليس لهم اي لون سياسي او ديني وضحوا في حياتهم لسبب بسيط هو الضحك على عزة الدوري على سبيل المثال. واين هذه الديباجة من مشاعر والام عوائل هذه الضحايا. اضف الى ذلك اين هو مكان الالاف من البعثيين، نعم البعثيين سواء من انصار قطر العراق او حزب البعث نفسه، ممن تم تعذيبهم واغتيالهم على يد جلاوزة صدام من امثال الشهيد فؤاد الركابي وعبد الخالق السامرائي وعدنان الحمداني والدكتور رياض ابراهيم والشهيد محمد الطائي (ابو يوسف) من قيادة قطر العراق و400 آخرون من البعثيين الموالين لسوريا ومئات القوميين والمئات من اهالي تكريت والرمادي؟ اليس لهؤلاء مكان في وجداننا وهم قد سحقوا بدولاب الموت في طاحونة صدام حسين وزبانيته. اننا نحتاج الى قدر من الجرأة لانصاف هذه الارواح البريئة ونحتاج الى قدر من المروءة لاستذكارهم.

الامر الآخر والذي يدور حوله نقاش واسع الى حد التراشق بالاتهامات بشكل ظالم الا وهو مسألة الهوية الدينية الاسلامية. لا احد ينكر على العراقيين هويتهم الدينية، ومن ينكر ذلك هو اشبه بمن ينطح رأسه بالحائط. ولم يوجه اي حاكم من حكام العراق من العتاة منهم او غير العتاة اية مشاكل حول هوية العراقيين الدينية سواء كتبت في قوانين اوهي لم تدون في اي من المراسيم السابقة التي صدرت قبل الخلافة العثمانية او لم تكتب في العهود التي سبقت الطغيان العثماني على العراق. وليس هناك اي حزب سياسي ينكر على العراقيين اديانهم وهو امر وجداني محض لا علاقة له بالقوانين ولا الدساتير يل يرتبط بإيمان الفرد وممارساته وسلوكه. فالعبرة ليست في القوانين التي تنص على "اسلامية" الدولة او الحزب، بل في الايمان الحقيقي لبني آدم. ومن هنا فإن النص على ان "الاسلام دين الدولة الرسمي" كما جاء في المادة 2 من الباب الاول او ان "لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام" كما جاء في الفقرة أ، يثير الكثير من الالتباسات مع بنود أخرى تنص على ان "لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية"، او ان " العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق.." كما جاء في المادة 14. ان مثل هذا الالزام للمشرع العراقي في اسلامية الدولة سيضع المشرع في مأزق حقيقي. ففي باب العقوبات مثلاً ماذا سيفعل المشرع ؟ وهل سيقر قطع يد السارق والسارقة كما جاء في النصوص الدينية وهل سيرجم الزاني والزانية وهل سيجري الاخذ باحكام مثل "المرأة عقرب بلبوس حلوة" او "المرأة شيطان لابد منه" كما جاء في بعض النصوص الفقهية؟؟، وهي كلها احكام تحرمها القوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها الدولة العراقية وتتعارض مع نص في مسودة الدستور الحالي يقول في المادة 44 "لجميع الافراد الحق في التمتع بكل الحقوق الواردة في المعاهدات والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الانسان"، وهي التي تؤكد على الالتزام بهذه المواثيق واحترامها. وماذا سيقرر المشرع العراقي بمن يتعامل مع البنوك، كل البنوك في العراق والعالم بما فيها البنوك الاسلامية، وهي جميعها تعتمد على الربا.اضف الى ذلك فهناك مشكلة حقبقبة تتمثل في ان للاسلام مذاهب تتفاوت في احكامها منها المذهب الجعفري والحنفي والشافعي وغيره ولكل مذهب احكام فقهية تختلف عن اخرياتها. ان هاجس من يسعى الى زج الدين في الدولة يظن ان عدم النص على ذلك سيسمح للمشرعيين العراقيين بالنص على السماح للمعاصي والشذوذ وهو امر غير وارد في مجتمع يتسم بالمحافظة ومنذ قرون. ان بعض ما يخشاه هؤلاء الان من احتمال انتشار محرمات مثل اللواط تمارس الان في دول مجاورة تحت سمع وبصر المتطرفين الدينيين وفقهائهم واولى الامر منهم دون ان يتعرض اصحابها الى المسائلة او العقوبات. ويحدث نفس الشئ عندنا في بعض المدن العراقية ايضاً تحت علم وبصر الفقهاء بل ويمارسها حتى من يدعي "الجهاد" ولم يحدث ان تعرض احد الى العقوبة. ان المادة الثانية من المبادئ الاساسية من المسودة تنص على ما يلي :"يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الأسلامية لغالبية الشعب العراقي". وفي الحقيقة لا يفهم من هذه المادة اي شئ سوى التكرار من اجل فرض طابع ديني على الدولة. فالهوية الاسلامية لا يتم الحفاظ عليها بمادة دستورية بل بممارسة دينية صحيحة من قبل من يعلن وصايته على الدين الاسلامي. فطالبان هويتهم ايضا اسلامية ونرى ما تركه هؤلاء من اضرار على هذا الدين في اعين العالم اجمع. ان التكرار غير المبرر لاية قضية لا تعطي الا عكس الهدف المنشود.

وهناك مسألة تثير التساؤل اذ ان من يتابع صفحات المسودة لا يلاحظ اية اشارة الى موضوعة العنف ومعالجته دستورياً وقانونياً. ان العنف بكل اشكاله يمارس باشد اشكاله في بلادنا في ظل الانفلات في القيم الذي ساد في ظل النظام السابق. ان مظاهر العنف ضد الطفل والمرأة والعنف ضد الذات تعرض في شوارع العاصمة وجميع المدن العراقية دون ان يوجه نحوها الجهود الحثيثة لمعالجتها بحيث ان المسودة نفسها قد تحاشت الحديث عن العنف. والانكى من ذلك فإن سيدة عضوة في الجمعية الوطنية التي ستوافق على المسودة قد اعلنت بصراحة قبل ايام عدم معارضتها لضرب الزوجة من قبل الزوج، وهو تصريح محير ان يصدر ذلك من الضحية نفسها. واضافة الى ذلك هناك الكثير من مظاهر ايذاء النفس وجلد الذات تجري علنا في الشوارع وبتحريض علني تحت مايسمى بالشعائر الدينية والتي تطال حتى الاطفال الرضع. لا ادري هل ان المشرع العراقي سيوافق على غمس السيوف في ابدان الناس او تشطيب الجباه بالسيوف والقامات بحجة الثواب وهي امور نهت عنها جميع الاديان وحرمتها جميع المواثيق الدولية. ان الشعائر الدينية عندنا تحولت الى دماء تسيل في الشوارع بدلا من ان تصبح مناسبة لاستذكارملاحم الاجداد ونتاجاتهم وبلاغتهم وشعرهم وسعيهم ضد الظلم والظالمين ولصقل الذات وتطهيرها وتعبئتها للعمل الصالح وان تزج هذه الجموع بترميم البلاد ومدنها وشوارعها وابعاد شبح الخوف والعنف عن المواطن العراقي.

هذا مسح سريع لدستورنا القادم الذي يحوي النقيضين، ولا ادري كيف سيتسنى للمواطن ابداء الرأي فيه. وفي الحقيقة انها مسودتان وليست مسودة واحدة. كنت اتمنى ان يتريث اصحاب القرار في الاستعجال بتدوين الدستور وان تعطى المهلة والامد الكافين للمناقشة وتبادل الرأي بعيداً عن اجواء التوتر والمواجهة وفي اجواء اكاديمية بحتة مع احترام تراثنا بكل الوانه واحترام المواثيق الدولية التي نشترك بها مع شعوب الارض القاطنة معنا على هذا الكوكب. ومع ذلك لازال متسع من الوقت للتدقيق في الاشكالات الموجودة في المسودة عن طريق اصلاحها الآن او غداً. فالدستور هو ليس قانون الهي مطلق، بل هو وثيقة مدونة من صنع البشر لتنظيم حياتهم الدنيوية.