| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

علي عرمش شوكت

 

 

 

 

الجمعة 11 / 5 / 2007

 


الظهير

الحلقة الرابعة
 الامهات هن الظهير الابدي


علي عرمش شوكت

في طريقه الى مكان اقامته السري الذي يقع في حي فقير ، حيث المساكن المبعثرة والمتباعدة عن بعضها ولا يوجد طريق معبدة ، كان حميد غالبا ما يلجأ الى اختزال المسافات وتغير السبل التي يسلكها ، ولكن تبقى طريق واحدة ثابتة في ذهنه هي طريق الخلاص من الظلم والدكتاتورية ، كما كان يشغله مصير رفيقاته ورفاقه ، بعد هذا الفشل في تشخيص افق( التحالف ) ، علما انه كان واحدا من الرفاق الذين عارضوا ذلك التحاتف مع البعثيين ، لكنه ظل كعادته رفيقا منضبطا وملتزا بتنفيذ سياسة حزبة وواثقا بقيادته .
لقد اخذ هذا الهم كل تفكيره ، مما جعل سيره نحو البيت الذي يسكنه تلقائيا ، فلم يتنبه الا وهو على بعد بضعة امتار من مكان سكنه ، وكان الفضل في لفت انتباهه يعود الى نباح كلب ، عند ذاك أ ستفاق وصوب نظره نحو البيت وهو في غاية الحذر والاستنفار ، وبرباطة جأش غير وجهة سيره متخذا من نباح الكلب ذريعة للتخلص من كمين داخل البيت ، اذ شاهد على واجهته علامة متفق عليها مسبقا تدل على وجود خطر في داخله ، وبخطوات متسارع توجه نحو الاماكن الاكثر عتمة للافلات من ذلك الكمين الذي ينتظره ، وقد امتلأت عروقه بدماء ساخنة وتأججت لديه حالة من الغضب ،وتمنى لو كان بأمكانه خوض المعركة مع هؤلاء الاوغاد ، الا ان اعتبارات عديدة كانت تكبح تلك الامنية ، بيد انه اتخذ قرارا بخوض المعركة اذا ما هوجم ، فأمسك بسلاحه الناري ( مسدس ) الذي كان يحمله .
شق طريقه وسط الظلام نحو اضواء المدينة المتلألئة من بعيد ، وما ان وصل الى الشارع الرئيسي حتى تبين له من خلال انواره الساطعة انه بالقرب من معتقل (الفضيلية ) ، وهنا تذكر عام 1966 حينما كان معتقلا في هذا المكان حيث تم بقيادة الرفيق كاظم فرهود (ابو قاعدة ) عضو اللجنة المركزية للحزب والرفيق سليم اسماعيل (ابوعواطف ) حفر نفق للهرب ، لكن الامر انكشف بعد اكتماله وعند بدء تنفيذ عملية الهروب ، وقد افشلها نباح كلب اجرب هذه المرة ، كان مرابطا امام فوهة النفق ، مما جلب انتباه حراس المعتقل ، فشتان ما بين الكلب الذي انقذه قبل قليل من الكمين وبين الكلب الذي افشل عملية الهروب تلك ، استقل اول تاكسي صادفه متجها نحو احد اماكنه الاحتياطية التي يلجأ اليها عادة ، وخلال الطريق كانت ذكريات الماضي سلوة له ، لا سيما وقد اثارها مروره بجانب ( معتقل الفضيلية )وكذلك مرور التاكسي بالقرب من معتقل ( خلف السدة ) ذلك المعتقل الذي كانت له فيه ذكريات لم تزل قسماتها ومعانيها باقية في وجدانه ، حيث ساهم عندما كان معتقلا عام 1965 في التخطيط والتنفيذ في عملية تهريب الرفيقين عمر علي الشيخ عضو المكتب السياسي للحزب وجاسم الحلوائي عضو اللجنة المركزية آنذاك ، تذكر شجاعة ودور امهات الشيوعيين المعتقلين اثناء المواجهة الشهرية في تلك العملية، اللواتي شكلن سياجا امام النافذة التي تمت منها عملية الهروب ، والتي كانت قد قطعت قضبانها وموهت لحين وقت التنفيذ ، وكانت ام حميد رشيد ، وام علي عرمش ، وام عواد حريجة ، وام بولص فرنسيس وام تحسين فائق ، وام سامي جواد ،وام سامي درويش، وام صاحب عبد الغني ، وام الكسان البير، وام المرحوم جورج يعقوب ، وام كاظم معارج ، وام الشهيد هاشم الالوسي ، وام الشهيد رافع الكبيسي ، وام محمد مرهون ، وام ابراهيم حسن ، وام احمد جاسم المشهداني ، وام شروق زوجة الرفيق جاسم حلوائي ، والرفيقة فكتوريا يعقوب ، وغيرهن قد استطعن تضليل الحرس وذلك بالتظاهر توديع ابنائهن من خلال النافذة ، وهكذا تمت العملية بنجاح تام ولم تكتشف الا بعد ثلاثة ايام ، حينما ارادت اللجنة الحزية داخل المعتقل كشفها ، وهنا طافت به الذاكرة حول السجون المتعددة التي مر بها في حياته، واستذكر محاولات الهروب منها التي شارك فيها ، من سجن الحلة عام 1964 ، تلك العملية التي شارك في الاعداد والبدء بها كل من المرحوم قاسم ناجي حمندي ، وعلي عرمش ، والمرحوم حليم احمد ، وعلي رديف ، وعبد علي موسى ( ابو ستالين ) وخليل الجنابي ، واسامة جلميران ، والمرحوم كاظم حمود ، ومحمد علي اسماعيل ، والشهيد عبد الزهرة مزبان ، ومن ثم استكملت ونفذت عام 1967 من قبل رفاق اخرين في مقدمتهم المرحوم حسين سلطان والشاعر مظفر النواب وغيرهم .
كانت امهات الشيوعيين كباقي امهات الشجعان على مر الزمن ، هن السند الاقرب والاقوى لابنائهن حيث اوصلن كل مستلزمات عمليات الهروب ، وكذلك ادبيات وتوجيهات الحزب ، وكانت الشهيدة ام ثائر زوجة الشهيد عبد الرزاق احمد بارعة وشجاعة في تضليل حراس السجن وادخال ما كان يريد الحزب ايصاله لرفاقه السجناء ، ولكن قد وقعت البطلة المرحومة ام بدران رسن اول ضحية لتلك المهمة فتسلمتها بعدها المرحومة ام علي عرمش التي ادتها بكل جدارة ، وكان كما يبدو تنافسا غير معلن - بطبيعة الحال- بين امهات رفاق بغداد وامهات رفاق الحلة السجناء بهذا الشأن ، فكانت ام عباس مثلا لاتكلف نفسها الا القليل لتصل الى سجن الحلة حيث تقع دارها بالقرب منه اما ام علي فتأتي من بغداد ، ومع ذلك تصل في الاغلب قبل الاخريات ، وعندما تسأل من قبل امهات ابناء الحلة السجناء عن سر وصولها المبكر للسجن تجيب ، بأنها في ليلة المواجهة لاتنام تلك اليلة وتؤدي صلاة الفجر ومن ثم تتوجه الى الحلة ، حقا ان الامهات هن الظهير الابدي وفي مطلق الاحوال .
وفي حالة اسغراقه في الذكريات وهو مسترخ على المقعد الخلفي لسيارة التكسي التي اتسغرق سائقها هو الاخر في الاستماع الى ام كلثوم وهي تغني اغنية ( سرة الحب) توقف السير بصورة مفاجئة ، ووصلت سيارات شرطة النجدة غامرة المحيط من حولها باضوائها الزرقاء والحمراء وباصواتها التي تشبه الى حد بعيد اصوات الذئاب الجائعة والباحثة عن فريسة
تأهب حميد وبحث في ثنايا دماغه عن مخرج من ذلك المأزق ، اراد الترجل من سيارة التكسي لكنه تدارك الامر وبقي في مكانه خشية استهدافه ، سأل حميد السائق عما يدور حولهم ، اجاب ، العلم عند الله ، يمكن الريس يمر من هنا ، وبعد قليل جاءت ثلة من رجال الامن يصطحبون شابا في العشرينات من العمر تنزف الدماء من مختلف انحاء جسمه ، فطلبوا من السائق النزول من التاكسي لكي يتم تشخيصه من قبل ذلك الشاب كما طلبوا من حميد الخروج ايضا ، غير ان الشاب انكر معرفته بهما ، الا ان مسؤول المفرزة طلب من حميد ايضا ان يخبره عن المكان الذي استأجر منه التاكسي فأخبره .
* وهل كان معه في التاكسي شخص اخر ؟ * وهل توقف في مكان ما ؟
- كلا . . ماهو الامر ؟
- اقفل فمك ولا تسأل .
عاد حميد الى السيارة واصدر مسؤول مفرزة الامن اوامره الى جماعته بالتحرك مستصحبين الشاب المصاب معهم .
طلب من سائق التاكسي ان يتحرك بسرعة فانطلق السائق وكأنه طير قد افلت من شرك صياد ، وبادر بسؤال لحميد .
* ماذا قال لك ضابط الامن ؟
- سألني عن المكان الذي استأجرت التاكسي منه وعما اذا كان معك احد او قد توقفت في مكان اخر فأجبته بالنفي .
*الف الف شكر وانا ممتن منك ولا انسى جميلك هذا ، فلولاك لراح جلدي للدباغ .
- ما الامر ؟
* سمعت ان سيارة تاكسي كانت تمر مسرعة من امام منظمة حزب البعث في هذه المنطقة وتلقي بمنشورات شيوعية ، هذا ما فهمته من خلال الحديث الذي دار بينهم وبين ذلك الشاب الذي هو واحد من رجال الامن ، وقد حاول ايقاف السيارة المذكورة ولكن الذين بداخلها وكلهم من الشباب نزلوا وامسكوا به واشبعوه ضربا وهربوا دون ان يتمكن من معرفة هوياتهم او رقم السيارة التي كانوا يستقلونها ، لقد دوخوه ، قال الكلمة الاخيرة مصحوبة بقهقهة تنم عن السرور والسعادة الغامرة .
وهكذا انتهت المحنة التي كان خلالها حميد بحكم المقبوض عليه ، فلو تعرض للتفتيش لوجدوا لديه مسدسا وكذلك رسائل حزبية فيها اسرار حزبية خطيرة ، لقد تنفس الصعداء لكنه ظل غير مصدق بما جرى .
وصل حميد الى المكان المنشود واخرج مبلغا من المال وناوله الى سائق التاكسي ولكن السائق رفض اخذ الاجرة عرفانا منه بموقف حميد اثناء استجواب رجال الامن له .
وبعد اسبوع من ذلك الحادث استلم حميد رسالة في البريد الحزبي من احد الرفاق يشير فيها الى نفس الحادث ، وكان مرسلها سائق التاكسي نفسه ، كما ان رفاقا قد ذكروا بان عملية توزيع المنشورات تلك كانت من نشاطات فرق الاصدقاء الجدد اي ضمن نشاطات ( الظهير) .
وظل حميد يتساءل : كم رفيقا بمثل حالته هذه ؟ وكم منهم من حالفته الاقدار .
ونجا من قبضة السلطات الفاشية ؟ وكم منهم من راح ضحية هذا الهجوم الغادر المخطط له منذ زمن ؟ ، النتيجة واضحة اما ان يستشهد واما ان يتحطم سياسيا باجباره على الانكسار امام الجلادين وفي الحالتين هي خسارة كبيرة جدا للحزب .

يتبع

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى